رحلة ابن جبير/شهر رمضان المعظم

رحلة ابن جبير المؤلف محمد بن جبير
شهر رمضان المعظم


شهر رمضان المعظم

استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر لدجنبر، عرفنا الله فضله وحقه ورزقنا القبول فيه. وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه ليلة الأحد المذكور لموافقته مذهبة ومذهب شيعته العلويين ومن اليهم، لانهم يرون صيام يوم الشك فرضاً، حسبما يذكر، والله أعلم بذلك.

ووقع الاحتفال في المسجد الحرام الهذا الشهر المبارك، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نوراً وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقاً؛ فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماماً لها في ناحية من نواحي المسجد؛ والحنبلية كذلك؛ والحنفية كذلك، والزيدية، وأما المالكية فأجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العالم أحفل جمعاً وأكثر شمعاً، لأن قوماً من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعاً كثيراً من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيها قنطار وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار. فجاءت جهة المالكية تروق حسنا وترتمي الأبصار نوراً، وكاد لايبقى في المسجد زاوية ولا ناحية الا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج السمجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعاً تنخلع له النفوس خشية ورقة. ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة في الحجر ولم يحضر التراويح، ورأى أن ذلك أفضل ما يغتنم، وأشرف عمل يلتزم، وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والملتزم.

والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهاداً، وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات ويدخل الطواف مع جماعة، فاذا فرغ من الأسبوع وركع عاد لإقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبية المتقدمة الذكر ضربة يسمعها المسجد لعلو صوتها، كأنها ايذان بالعود الصلاة، فاذا فرغوا من تسليمتين، عادوا للطواف اسبوع، فاذا كملوه ضربت الفرقعة وعادوا الصلاة تسليمتين، ثم عادوا للطواف، هكذا أن يفرغوا من عر تسليمات، فيكمل لهم عشرون ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون.

وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً، والمتناوبون لهذه التراويح المقامية خمسة أئمة، أو لهم إمام الفريضة، وأوسطم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن علي الفنكي القرطبي، وقراءته ترق الجمادات خشوعاً. وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك، وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المفرب، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء الآخرة. وهي لامحالة من جميلة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم، قدسه الله.

والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من السمجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور ومعه أخوان صغران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير. فإذا قرب تبين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالإذان، وثوب المؤذنون من كل ناحية بالأذان. وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يبصرهما علم أن الوق قد انقطع.

الأمير طغتكين

وفي ليلة الثلاثاء من الشهر مع العشي طاف الأمير مكثر بالبيت مودعاً وخرج للقاء الأمير سيف الاسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر منذ مدة ثم تواتر أن صح وصوله الينبوع، وأنه عرج المدينة لزيارة الرسول، الله عليه وسلم وتقدمت أثقاله الصفراء. والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها، لكن وقع في نفوس المكيين منه إيجاس خيفة واستشعار خشية، فخرج هذا الأمير المذكور متلقياً ومسلماً، وفي الحقيقة مستسلماً، والله تع عرف المسلمين خيراً.

وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوساً بالحجر لمكرم فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن عليه. فبينا نحن كذلك دخل منصرفاً من لقاء الأمير سيف الاسلام المذكور وطائفاً بالبيت المركم طواف التسليم، والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه، والسرور بسلامته، وقد شاع الخبر بنزول سيف الاسلام الزاهر، وضرب أبنيته فيه، ومقدمته من العسكر قد وصلت الحرم، وزاحمت الأمير مكثراً في الطواف.

فبينا الناس ينظرون اليهم اذا سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة، فما راعهم الا الأمير سيف الاسلام داخلاً من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه، والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره، والمسجد قد ارتج وغص بالنظارة والوافدين، والأصوات بالدعاء له ولاخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الاسماع وأذهلت الاذهان؛ والزمزمي المؤذن في مرقبته رافعاً عقيرته بالدعاء له والثناء عليه؛ وأصوات الناس تعلو على صوته، والهول قد عظم مرأى ومستمعاً. فلحين دنو الأمير من البيت المعظم أغمدت السيوف وتضاءلت النفوس وخلعت ملابس العزة وذلت الأعناق وخضعت الرقاب وطائت الالباب مهابة وتعظيماً لبيت ملك الملوك العزيز الجبار الواحد القهار، مؤتي الملك من يشاء، ونازع الملك ممن يشاء، سبحانه، جلت قدرته وعز سلطانه.

ثم نهافتت هذه العصابة الغزية على بيت الله العتيق تهافت الفراش على المصباح، وقد نكس أذقانهم الخضوع، وبلت سبالهم الدموع. وطاف القاضي أو زعيم الشيبيين بسيف الاسلام، والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام، فأسرع في الفراغ من الطواف وبادر منزله.

وعندما أكمل سيف الاسلام طوافه خلف المقام ثم دخل قبة زمزم فشرب من مائها ثم خرج على باب الصفا السعي، فابتدأه ماشياً على مدميه توضعاً وتذللاً لمن يجب التواضع له، والسيوف مسلوتة أمامه، وقد اصطف الناس من أول المسعى آخره سماطين مثل ماصنعوا أيضاً في الطواف، فسعى على قدميه طريقين من الصفا المروة، ومنها الصفا، وهرول بين الميلين الاخضرين، ثم قيده الاعياء فركب وأكمل السعي راكباً، وقد حشر الناس ضحى.

ثم عاد الامير السمجد الحرام على حالته من الارهاب والهيبة وهو يتهادى بين بروق خواطف السيوف المصلتة، وقد بادر الشيبيون باب البيت المكرم ليفتحوه، ولم يكن يوم فتحه، وضم الكرسي الذي يصعد عليه، فرقي الامير فيه، وتناول زعيم الشيبيين فتح الباب، فاذا المفتاح قد سقط من كمه في ذلك الزحام، فوقف وفقة دهش مذعور، ووقف الامير على الادراج، فيسر الله للحين في وجود المفتاح، ففتح الباب الكريم، ودخل الامير وحده مع الشيبي وأغلق الباب، وبقي وجوه الاغزاز وأعيانهم مزدحمين على ذلك الكرسي، فبعد لأي مافتح لامرائهم المقربين فدخلوا.

وتمادى مقام سيف الاسلام في البيت الكريم مدة طويلة، ثم خرج، وانفتح الباب للكافة منهم. فيا له من ازدحام وتراكم وانتظام، حتى صاروا كالعقد المستطيل وقد اتصلوا وتسللوا. فكان يومهم أشبه شيء بأيام السرو في دخولهم البيت، حسبما تقدم وصفه. وركب الامير سيف الاسلام وخرج مضرب أبنتيه بالموضع المذكور. وكان هذا اليوم بمكة من الايام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن، فسبحان من لاينقضي ملكه ولا يبيد سلطانه، لا اله سواه. وصحب هذا الامير جملة من حجاج مصر وسواها اغتناماً لطريق البر والامن فوصلوا في عافية وسلامة، والحمد لله.

وفي ضحوة يوم الخميس بعده كنا أيضاً بالحجر المكرم، فاذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الآذان وارتجت لها نواحي الحرم الشريف. فبينا نحن نتطلع لاستعلام خبرها طلع علينا الامير مكثر وغاشيته الاقربون حوله وهو رافل في حلة ذهب كأنها الجمر المتقد يسحب أذيالها وعلى رأسه عمامة شرب رقيق سحابي اللون قد علا كورها على رأسه كأنها سحبابة مركومة وهي مصفحة بالذهب، وتحت الحلة خلعتان من الدبيقي المرسوم البديع الصنعة، خلعها عليه الامير سيف الاسلام، فوصل بها فرحاً جذلان، والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الاسلام اشادة بتكرمته واعلاماً بمأثرة منزلته. فطاف بالبيت المكرم شكراً لله على ماوهبه من كرامة هذا الامير بعد أن كان أوجس في نفسه خيفة منه، والله يصلحه ويوفقه بمنه.

وفي يوم الجمعة وصل الامير سيف الاسلام للصلاة أول الوقت وفتح البيت المكرم، فدخله مع الامير مكثر وأقاما به مدة طويلة ثم خرجا. وتزاحم الغز للدخول تزاحماً أبهت الناظرين حتى أزيل الكرسي الذي يصعد عليه فلم يغن ذلك شيئاً، وأقاموا على الازدحام في الصعود باشالة بعضهم على بعض، وداموا على هذه الحالة أن وصل الخطيب، فخرجوا لاستماع الخطبة، وأغلق الباب. و الأمير سيف الاسلام مع الأمير مكثر في القبة العباسية. فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب مضرب أبنيته. وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده اليمن، والله يعرف أهلها من المسلمين في مقدمة خيراً بمنه.

احتفالات رمضان

وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه، وكل وتر من الليالي العشر الاواخر يختم فيها القرآن. فأولها ليلة احدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور منزله طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما.

ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً. وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم ممايلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسمر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز فيها الشمع، فاستدار بالمحراب كله. وأوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله. ووضع بمقربة من المحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان. وحضر الإمام الطفل ف التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام اليه رجالاً ونساءً، وهو في محرابه لايكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به.العينين، مخضوب الكفين الزندين، فلم يستطع الخلوص منبره من كثرة الزحام، فأخذخ أحد سدنة تلك الناحي ة في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسماً وأشار على الحاضرين مسلماً. وقعد بين يديه قراء، فابتدروا القراءة على لسان واحد. فلما أكملوا عشراً من القرآن، قام الخطيب فصدع بخطبة تحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أتوار الشمع في ايديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب، عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك، والقراء يبتدرون القراءة في أثناء ذلك، فيسكت الخطيب أن يفرغوا ثم يعود لخطبة. وتمادي فيها متصرفاً في فنون من التذكير. وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق، كرمه الله، فحسر عن ذراعيه مشيراً اليه، وأردفه بذكر زمزم والمقام فأشار اليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء، ثم نزل، وانفض ذلك الجمع العظيم، وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وان لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل، والتذكرة اذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان.

ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع، كالقاضي وسواه، خصوا بطعام حفيل وحلوى على عادتهم في مثل هذا المجتمع. وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ماذكر.

ثم كانت ليلة خمس وعشرين، فكان المختتم فيها الإمام الحنفي، وقد أعد أبناً لذلك سنة نحو من سن الخطيب الأول المذكور. فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيماً، أحضر فيها من ثريات الشمع أربعاً مختلفات الصنعة:منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصنة. فصففت أمام حطيمه وتوج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه وجلل كله سرجاً ومشاعيل وشمعاً، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور. وأحضر الشمع في أتوار الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب، فجلل دائره الاعلى كله شمعاً، وأحدق الشمع في الأتوار به، فاكتنفته هالات من نور، ونصب المنبر قبالته مجللاً أيضاً بالكسوة الملونة. واحتفل الناس لمشاهدة هذا المنظر النير أعظم من الاحتفال الاول. فختم الصبي المذكور ثم برز من محرابه منبره يسحب أذيال الحفر في أثواب رائقة المنظر، فتسور منبره وأشار بالسلام على الحاضرين وأبتدأ خطبته بسكينة ولين ولسان على حالة الحياء مبين. فكأن الحال على طفولتها كانت أو قر من الاولى وأخشع، والموعظة أبلغ، والتذكرة أنفع.

وحضر القراء بين يديه على الرسم الاول وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة فيسكت خلال اكمالهم الآية التي انتزعوها من القرآن ثم يعود خطبته وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون اتوار الشمع بأيديهم ومنهم من يمسك المجمرة تسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى. فعندما يصل فصل من تذكير أو تخشيع يرفعون أصواتهم بيا رب يارب يكررونها ثلاثاً أو أربعاً، وربما جارهم في النطق بعض الحاضرين، أن فرغ من خطبة ونزل. وجرى الامام اثره على الرسم من الاطعام لمن حضر من أعيان المكان أما باستدعائهم منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك منازلهم.

ثم كانت ليلة سبع وعشرين، وهي ليلة الجمعة بحساب يوم الاحد، فكانت الليلة الغراء، والختمة الزهراء، والهيبة والموفورة الكهلاء، والحالة التي تمكن عند الله تع في القبول والرجاء. وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم? وأنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم.

ووقع النظر والاحتفال لهذه الليلة المباركة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة، وأقيمت أزاء حطيم إمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة، فاتصل منها صف كاديمسك نصف الحرم عرضاً ووصلت بالحطيم المذكور، ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات، فكانت الطبقة العليا منها خشباً مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الأطراف لاصقاً بعضها ببعض كظهر الشيهم نصب عليها الشمع، والطبقتان تحتها الواح مثقوبة ثقباً متصلاً وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها.

وتدلت من جوانب هذه الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغار وتخللها أشباه الأطباق المبسوطة من الصفر قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها نقباً ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصغيرة لايزيد منها أنبوب على أنبوب في القد. وأوقدت فيها المصابيح، فجاءت كأنها موائد ذوات أرجل كثيرة وتشتمل نوراً، ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الصفة المذكورة اتصلت الركن المذكور، وأوقد المشعل الذي في رأس فحل القبة المذكورة، وصففت طرة شباكها شمعاً مما يقابل البيت المككرم. وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف، على الصفة المذكورة، جللت كلها شمعاً. ونصب عن يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم، في أتوار تناسبهاكبراً، وصفت تلك الأتوار على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعاً في اتوار من الصفر فجاءت كأنها دائرة نور ساطع، واحدقت بالحرم المشاعيل. وأوقد جميع ماذكر.

وأحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة، وقد وضعت بيد كل منهم كرة من الخرق المشبعة سليطاً، فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات. وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربعة فجعلت كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة ايقادها. فيخيل للناظر أن النار تشب من شرفة شرفة لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار. وفي اثناء محاولتهم لذلك يرفعون أصواتهم بيا رب على لسان واحد، فيرتج الحرم لأصواتهم. فلما كمل ايقاد الجميع بما ذكر كاد يعشي الأبصار شعاع تلك الأنوار، فر تقع لمحة طرف الاعلى نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر. فيتوهم المتوهم، لهول مايعاينه من ذلك، أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.

وتقدم القاضي ف فريضة العشاء الآخرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر. وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة اليها. وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح، تعظيماً لختمة المقام، وحضروا متبركين بمشاهدتها.

وقد كان المقام المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق، حسبما تقدم الذكر أولاً له، فيما سلف من هذا التقيد، ووضع في محله الكريم المتخذ م مستوراً بقبته التي يصلي الناس خلفها. فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيباً مستقبل المقام والبيت العتيق. فلم يتمكن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام.

فما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعاً، وأعينهم قد سالت دموعاً، والأنفس قد أشعرت من فضل القدر المشرف ذكرها في التنزيل، والله، عز وجل، لايخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها، انه كريم منان، لا اله سواه.

ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولاًن بعد هذه الليلة المذكورة،بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور، تتضمن التذكير والتحذير والتبشير، بحسب اختيار كل واحد منهم. ورسم طوافهم اثر كل تسليمتين باق على حاله، والله ولي القبول من الجميع.

ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح ملتزمين رسم الخطبة اثر الختمة، والمشار اليه منهم المالكي، فتقدم باعداد اعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض بدون القامة يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط، فأدير بالشمع أعلاها وأحدق اسفلها ببقايا شمع كثير قد تقدم ذكره عند أول الشهر المبارك واحدق أيضاً داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط، فكان مغظراً مختصراً ومشهداً عن احتفال المباهاة منزهاً موقراً، رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب، نصبت للشمع فيه عوضاً من الأتوار أنافي من الأحجار. فجاءت الحال غريبة في الاختصار، خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار، داخله مدخل التواضع والاستصغار.

واحتفل جميع المالكية للختمة، فتناوبها أئمة التراويح، فقضوا صلاتهم سراعاً عجالاً، كاد يلتقي طرفاها خفوقاً واستعجالاً. ثم تقدم احدهم فعقد حبوته بين تلك الاثافي وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي فأرسلها معادة الاسماع نقيلاً لحنها على الطباع، ثم انفض الجمع، وقد جعد في شؤونه الدمع، واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع، أطلقت عليه أيدي الانتهاب، ولم يكن في الجماعة من يستحى منه أويهاب. وعند الله تع في ذلك الجزاء والثواب، انه سبحانه الكريم الوهاب.

وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنا بسلام، جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنفية بالوفاة على الإسلام، وأوزعنا حمداً يحق هذه النعمة وشكراً، وجعلها للمعاد لنا ذخراً، ووفانا عليها ثواباً من لديه وأجراً يرجى بفضله وكرمه، أنه لايضيع لديه ايام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطراً، إنه الحنان المنان، لارب سواه.

رحلة ابن جبير
في الاندلس | أهوال البحر | البشرى بالسلامة | شهر ذي الحجة من السنة المذكورة | ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها | منار الإسكندرية | مناقب الإسكندرية | ذكر مصر والقاهرة | شهر رمضان المعظم | شهر شوال