رحلة ابن جبير/مناقب الإسكندرية


مناقب الإسكندرية

ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في جميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا ذلك، ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب أيضاً فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة، وينهون الأطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم.

ومن اشرف هذه المقاصد أيضاً أن السلطان عين لأبناء السبيل من الغاربة خبزتين لكل إنسان في كل يوم بالغاً ما بلغوا، ونصب لتفريق ذلك كل يوم انساناً اميناً من قبله. ينتهي في اليوم ألفي خبزة أو أزيد بحسب القلة والكثرة، وهكذا دائماً، ولهذا كله أوقاف من قبله حاشا ما عينه من زكاة العين لذلك. وأكد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا صلب ماله. وأما أهل بلده ففي نهاية من الترفيه واتساع الأحوال لا يلزمهم وظيف البتة. ولافائد للسطان بهذا البلد سوى الأوقاف المحبسة المعينة من قبله لهذه الوجوه وجزية اليهود والنصارى وما يطرأ من زكاة العين خاصة، وليس له منها سوى ثلاثة أثمانها والخمسة الأثمان مضافة للوجوه المذكورة.

وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة ورسم هذه الرسوم الكريمة على عدمها في المدة البعيدة هو صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، وصل الله صلاحه وتوفيقه.

ومن أعجب ما اتفق للغرباء أن بعض من يريد التقرب بالنصائح السلطان ذكر أن أكثر هؤلاء يأخذون جراية الخبز ولا حاجة لهم بها رغبة في المعيشة لأنهم لا يصلون الا يزاد يقلهم. فكاد يؤثر سعي هذا المتنصح. فلما كان في أحد الأيام خرج السلطان المذكور على سبيل التطلع خارج بلده، فتلقى منهم جماعة قد لفظتهم الصحراء المتصلة بطرابلس، وهم قد ذهبت رسومهم عطشاً وجوعاً.

فسألهم عن وجهتهم واستطلع ما لديهم. فأعلموه أنهم قاصدون بيت الله الحرام وأنهم ركبوا البر وكابدوا مشقة صحرائية. فقال: لو وصل هؤلاء وهم قد اعتسفوا هذه المجاهل التي اعتسفوها وكايدوا من الشقاء ما كايدوه وبيد كل واحد منهم زنته ذهباً وفضة لوجب أن يشاركوا ولا يقطعوا عن العادة التي أجريناها، لهم فالعجب ممن يسعى على مثل هؤلاء ويروم التقرب إلينا بالسعي في قطع ما أوجبناه لله عز وجل خالصاً لوجهه.

ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذب عن حوزة المسلمين لا تحصى كثرة.

ومن الغريب أيضاً في أحوال هذا البلد تصرف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم. وهو أكثر بلاد الله مساجد، والمقلل ما دون ذلك لا ينضبط. فمنهم من يقول ثمانية آلاف ومنهم من يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جداً تكون منها الأربعة والخمسة في موضوع وربما كانت مركبة وكلها بآثمة مرتبين من قبل السلطان، فمنهم من له الخمسة دنانير مصرية في الشهر، وهي عشرة مؤمنية، ومنهم من له فوق ذلك ومنهم من له دونه. وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان. غير ذلك مما يطول ذكره من المآثر التي يضيق عنها الحصر.

ثم كان الانفصال عنها على بركة الله تعالى وحسن عونه صبيحة يوم الأحد الثامن لذي الحجة المذكور، وهو الثالث لأبريل، فكانت مرحلتنا منه موضع يعرف بدمنهور، وهو بلد مسور في بسيط من الأرض أفيح، متصل من الإسكندرية إليه مصر. والبسيط كله محرث يعمه النيل بفيضه،والقرى فيه يميناً وشمالاً لا تحصى كثرة.

ثم في اليوم الثاني وهو يوم الاثنين، أجزنا النيل بموضع يعرف بصافي مركب تعدية. واتصل سيرنا موضع يعرف ببرمة فكان مبيتنا بها، وهي قرية كبيرة فيها السوق وجميع المرافق. ثم بكرنا منها يوم الثلاثاء، وهو يوم عيد النحر من سنة ثمان وسبعين وخمس مئة المؤرخة، فشاهدنا الصلاة بموضع يعرف بطندته، وهي من القرى الفسيحة الآهلة، فأبصرنا بها مجمعاً حفيلاً، وخطب الخطيب بخطبة بليغة جامعة. واتصل سيرنا موضع يعرف بسبك وكان مبيتنا بها.

رحلة ابن جبير
في الاندلس | أهوال البحر | البشرى بالسلامة | شهر ذي الحجة من السنة المذكورة | ذكر بعض أخبار الإسكندرية وآثارها | منار الإسكندرية | مناقب الإسكندرية | ذكر مصر والقاهرة | شهر رمضان المعظم | شهر شوال