رسالة ابن فضلان (ت. سامي الدهان) /الوفد والخطة

ملاحظات: مطبوعات المجمع العلمي العربي - دمشق (1959)، الصفحات 22–25


 

الوفد والخطة


      رسمنا جانباً من حال الخلافة والخليفة، لنتمي إلى أن سمعة بغداد في الخارج كانت جيّدة بل عظيمة، يتهافتُ الملوك والامراء عليها ليعقدوا معها أجملَ الصلات وأوثق المحالفات. حتى أنَّ «الصقالبة» وهم من سكان الشمال في أوربة، على أطراف نهر الفولغا، وعاصمتهم على مقربة من «قازان1» اليوم في خط يوازي مدينة موسكو، قد طلبوا عون الخلافة ومساعدتها. فقد ذكر ابنُ فضلان أن مليكهم «ألمش ابن يلطوار2» طلب إلى أمير المؤمنين المقتدر بالله أن يرسل إليه بعثة من قبله، تفقّهه في الدّين وتعرّفه شرائعَ الإسلام، وتبني له مسجداً، وتنصب له منبراً يُقيم عليه الدعوة للخليفة في جميع مملكته وسأله إلى ذلك أن يبني له حصناً يتحصَّن فيه من الملوك المخالفين له. وقد بسط ابنُ فضلان أمرَ هؤلاء المخالفين فقال إنهم ملوك الخزر وهم من اليهود، كانوا يعتدون على قومه، ويفرضون عليهم الضرائب يؤدونها عن كل بيت في المملكة جلد سمور، وابن ملك الخزر يخطب مَن يريد من بنات ملك الصقالبة ويتزوجها غصباً، والخزري يهودي، وابنة الصقلي مسلمة. وقد رأى ابنُ فضلان أن مملكة الصقالبة واسعة وأموالها جمَّة وخراجها كثير فسأل الملك عن سبب استنجاده بخليفة المُسلمين فأجاب بأنَّه يتبرّك بأموال المسلمين ويعتزّ بدولتهم3.

      وهذا الأمر يدعو إلى الزهو من جانب بغداد، ويوضح هيبة الخليفة ويرسم مكانة السّلطان في أوربة آنذاك، وخاصة حين يستنجد به ملك لمملكة واسعة، ويسعى معه إلى حلف ثقافي ديني عسكري، كما نعبّر عن ذلك اليوم.

      ويبدو أن الخليفة أو وزيره حامد بن العباس4 أو كلاهما معاً - فقد كانت سنّ الخليفة سبعاً وعشرين سنة - ارتضيا هذه المعاهدة حين وفد رسول ملك الصقالبة يسعى لها وهو «عبد الله بن باشتو الخزري» وعجيب أن يرسل الصقالبة رجلاً خزريّ الأصل، ولعلهم اختاروه لمعرفته اللغة العربية، أو لثقتهم به ويحسن إسلامه.

      وتقرر أن يكون الوفد الرسمي من أربعة أشخاص هم سوسن الرسيّ مولى نذير الخرمي، وتكين التركي، وبارس الصقلابي، وأحمد بن فضلان، ومعهم دليل هو رسول الصقالبة. ويُخَيّل إلينا أن اثنين من أعضاء الوفد البغدادي يعرفان الروسية، فالأول (سوسن) يبدو في نسبته من بلاد الروس قد استجلب كرقيق ثم تعلّم العربية وحسن إسلامه وتقدَّمت به مراتبه5 والثاني بارس الصقلابي واسمه ونسبته دليلان على أصله6. وأما الثالث فهو تركيّ الأصل يجيد لغات الأتراك التي يمرّ ببلادها الوفد في طريقه إلى الفولغا، وقد كان حداداً في خوارزم، وقف على بيع الحديد في بلد الكفار وهو الذي أقنع نذير الخرمي بإيصال كتاب ملك الروس إلى الخليفة المقتدر بالله - فيما تقول الرسالة - وأما الرابع أحمد بن فضلان فهو فيما تُعلمنا الرسالة يجهل اللغات الأجنبية، ولكنه على إلمام تام باللغة العربية وبالشريعة الإسلامية، وإليه فيما رأينا رئاسة الوفد وقياده، فهو في كل الظروف يأمر وينهى ويقرر الرحلة أو البقاء، وهو نفسه يقول7: «فندبت أنا لقراءة الكتاب عليه، وتسليم الهدايا، والإشراف على الفقهاء والمعلمين». وقد علمنا من الرسالة أن الوفد سيحصل على المال اللازم للفقهاء والمعلمين ولبناء الحصن من خراج ضيعة معينة من ضياع ابن الفرات الوزير السابق8، وقد خلع قبلها، وصودرت أملاكه ووزعت جراياتها، وجُعلت للدولة تُنفقها كما فعلت في نفقات هذا الوفد. وقد أرفق الوفد بأشخاص ثانويين ذكرهم ابن فضلان فقال: «الفقيه والمعلم والغلمان الذين خرجوا معنا من مدينة السلام»، ولعلهم في مرتبة الملحقين المعاونين كما نسميهم بلغة الدبلوماسية اليوم (بالورقة ١٩٩و).      وقد حمل الوفد فيما حمل «أدوية» كان ملك الصقالبة طلبها من نذير الخرمي وهذه شهادة أخرى على تقدم المملكة العباسية، وغنى حضارتها، ووفرة الأدوية عندها، وفقدانها في بلاد البلغار آنذاك.



  1. عاصمة البلغار المتهدمة، على ستة كيلو مترات ونصف من نهر الفولغا.
  2. ذكرنا في حواشي النسخة تقلب الناسخ في رسم الاسم، فقد وضعة مرة باسم الحسن بن بالطوار، ومرة اخرى باسم «ألمش بن بلطوار» وقد حام المستشرقون كثيراً حول تحقيق التسمية: فما ظفروا بطائل لأن تاريخ روسية لذلك الزمان لا يثبت التفاصيل، ولا يعنى بها، بل لا يعرف تاريخاً واسعاً، فالعرب مصدر هام من مصادرهم، وخاصة هذه الرسالة.
  3. الرسالة بالورقة ۲۰۹ ظ.
  4. في الرسالة أن ابن فضلان حمل كتابين من الوزير ومن الخليفة معاً
  5. كان حاجب المكتفي فيما يبدو انظر التعليقات الآتية.
  6. بارس الحاجب قائد وثـ[..]ـر، وهو غلام إسماعيل بن أحمد صاحب خراسان، كما في التعليقات
  7. الرسالة بالورقة ۱۹۷ هـ.
  8. هو أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات من أجل الناس، وزر للمقتدر ثم خلع، وتفصيل أمره في التعليقات الآتية.