رسالة ابن فضلان (ت. سامي الدهان) /حال العصر

ملاحظات: مطبوعات المجمع العلمي العربي - دمشق (1959)، الصفحات 18–21


 

حال العصر       ذكر المؤرخون أن المقتدر بالله أبا الفضل جعفر ابن الخليفة المعتضد، بويع بالخلافة سنة ٢٩٥هـ، وعمره ثلاث عشرة سنة، وقال عنه ابن الطقطقي1 إنه كان سمحاً كريماً كثير الإنفاق، أكثر من الخلع والصلات وكان في داره أحد عشر ألف خادم خصيّ من الروم والسودان، وكانت خزينة الجوهر في أيامه مترعة بالجواهر النفيسة. وذكر أن دولته كانت ذات تخليط لصغر سنه، ولاستيلاء أُمّه ونسائه وخدمه عليه، فكانت دولته تدور أمورُها على تدبير النّساء والخدم، وهو مشغول بلذَّته فخربت الدنيا في أيامه، وخلتْ بيوت الأموال، حتى قال بعض المؤرخين إنّه أنفق سبعين مليون دينار ضَياعاً وتبذيراً، ما عدا نفقات الدولة، فقد اضطر في استرضاء الجند والغلمان أن يبيع ضياعه وفرشه وآنيـــة الذهب، وقد خلع وأعيد ثم قُتل، ومكنت جثته مرمية على قارعة الطريق سنة ۳۲۰هـ. وقد استوزر هذا الخليفة أبا الحسن علي بن الفرات، وكان من أجّل الناس وأعظمهم، ثم استوزر عليّ بن عيسى بن الجراح، وحامد بن العباس. وهؤلاء الثلاثة كانوا من ألمع الوزراء وأقواهم في تدبير الملك، ولكن الفتن الداخلية والخارجية سدّت عليهم سبيل العمل المثمر، فحالف المملكة سوء الحظّ ولولا ذلك لكانت خلافة المقتدر من أجدى العهود على الناس، وعلى الرغم من هذا قام الوزراء بأعمال كثيرة بسط أمرها المؤرخ الصابي في كتابه «تحفة الأمراء في تاريخ الوزراء»2 وفصّله تفصيلاً لم يترك فيه زيادة المستزيد يرغب في دراسة العصر والحكم وحال الشعب.

     والذين يريدون أن يقفوا على حال الخلافة وهيبتها وسمعتها في الخارج - كما نقول اليوم - يستطيعون أن يرجعوا إلى كتب التاريخ ليروا إلى أيّ مدى كان الوزراء يطمحون في إعلاء شأن الحكم وإظهار حال السلطان. فقد بسط ابن مسكويه في كتابه «تجارب الأمم3» حادثاً نحب أن نثبته هنا، لنصوّر حال بغداد وحكومتها سنة ٣٠٥ للهجرة أي قبل أربع سنوات من سفر ابن فضلان قال مسكويه: «ودخلتْ سنة خمس وثلاثمائة: وفيها ورد رسولان لملك الروم إلى مدينة السلام، على طريق الفرات بهدايا عظيمة وألطاف كثيرة، يلتمسان الهدية. وكان دخولها يوم الاثنين لليلتين خلتا من المحرم، فأنزلا في دار صاعد بن مخلد. وتقدم أبو الحسن ابن الفرات بأن يفرش لهما و يعدّ فيه كل ما يحتاجان إليه من الآلات والأواني وجميع الأصناف، وأن يقام لهما ولمن معها الأنزال الواسعة والحيوان الكثير والحلاوة، حتى يتسع بذلك كلّ من معهما.

     «والتمسا الوصول إلى المقتدر بالله ليبلغاه الرسالة التي معهما فأعلما أن ذلك صعب، لا يجوز إلّا بعد لقاء وزيره ومخاطبته فيها قصدا إليه ، وتقرير الأمر معه، والرغبة إليه في تسهيل الأذن على الخليفة، والمشورة عليه بالاجابة إلى ما التمسا. فسأل أبو عمر عديّ ابن عبد الباقي الوارد معهما من الثغر أبا الحسن ابن الفرات الأذن لهما في الوصول إليه، فوعده بذلك في يوم ذكره له.

      «وتقدّم الوزير بأن يكون الجيش مصطفاً في دار صاعد الى الدار التي أقطعها بالمخرّم، وأن يكون غلمانه وجنده وخلفاء الحجَّاب المرسومين بداره منتظمين من باب الدار إلى موضع مجلسه، وبسط له في مجلس عظيم مذهّب السقوف في دار منها، يعرف بدار البستان، بالفرش الفاخر العجيب، وعلّقت الستور التي تشبه الفرش، واستزاد في الفرش والبسط والستور، ما بلغ ثمنه ثلاثين ألف دينار ولم يبق شيء تجمل به الدار، ويفخم به الأمر، إلّا فعل. وجعل على مصلّى عظيم من ورائه مسند عال، والخدم بين يديه، وخلفه، وعن يمينه، وشماله، والقواد والأولياء قد ملأوا الصحن. ودخل إليه الرسولان فشاهدا في طريقهما من الجيش وكثرة الجمع ما هالهما».

      وتابع مسكويه وصفه المفصّل البديع، فرسم الرواق والرجال قد امتلأت بهم الدار، وصحن البستان، والمجلس الذي جلس فيه الوزير، وذكر أن معهما المترجم يصف لهما ويشرح، وأنها جاءا في طلب الفداء فوعدهما الوزير، والتمس لهما مقابلة يوصلهما فيها إلى الخليفة، فلما كان اليوم المرسوم اصطّف الجُند من دار صاعد إلى دار السلطان فوقفوا في الزي الحسن والسلاح والتام «وتقدم بأن تشحن رحاب الدار والدهاليز والممرات بالرجال والسلاح» ووصف مسكويه كيف أخذ الرجلان من ممرّ يُفضي إلى صحن، ومنه إلى ممرّ فصحن، يخرقان الصحون والممرات حتى كلّا من المشي وأنبهرا، لكثرة الرجال والسلاح، ثم أُدخلا على الخليفة المقتدر.

      وكان المقتدر جالساً على سرير ملكه، وحوله الأولياء وقوف على مراتبهم. فلما دخلا قبَّلا الأرضَ ووقفا حيث استوقفها الحاجب، فأديا الرسالة، فأجابها عنه الوزير وانتهت المقابلة. فلما خرجا من حضرته خلع عليهما مطارف خزّ وعمائم خزّ. وأطلق على القواد الشاخصين من بيت المال مائة ألف وسبعون ألف دينار. وحمل إلى كل واحد من الرسولين عشرون ألف درهم صلة لهما، وخرجا مع المترجم من حدود البلاد، وتمّ الفداء.

      ولعلنا أسهبنا في الرواية والنقل والتلخيص ولكننا أردنا أن نرسم حال بغداد والخلافة والوزراء، والجند، والمراسم، قبل أربع سنوات من سفر ابن فضلان وخروجه من بغداد، وأن نصوّر البلَد الذي خرج منه في حضارته وعمرانه وزيّه وتقاليده وأن نشير إلى الغنى والثروة والجاه والمنعة والقوة وبراعة التمثيل، مما ييزّ أعرق المالك في الحفاظ على التقاليد القديمة من دول أوربة اليوم. فما نظنّ أن واحدة منها تقف اليوم في مراسمها من الجند واللباس والفرش وتوزيع المال والاغداق، لما كانت تفعل بغداد منذ عشرة قرون. بل إننا لا نكاد نرى سبيلاً للموازنة في اصطناع الهيبة وإنْظَار السفراء وبهر أبصارهم بين ما كانت عليه بغداد وماهي عليه أغنى عواصم الملك اليوم في الغرب.

      وسنرى أثر هذا كلّه عند ابن فضلان، فهو بعد أن عرف ما في عاصمته



  1. انظر الفخري. ط. أوربة من ٣٠٥.
  2. طبع هذا التاريخ المستشرق آمدروز في بيروت سنة ١٩٠٤، وأعيد طبعه بمصر بعد ذلك.
  3. تجارب الأمم لمسكويه، طبع آمدروز، عمر ١٩١٤، ٥ / ٥٣