رسالة ابن فضلان (ت. سامي الدهان) /مؤلف الرسالة

ملاحظات: مطبوعات المجمع العلمي العربي - دمشق (1959)، الصفحات ––41


 











تحقيق الرسالة

مؤلفها


رأينا أن ابن فضلان بدأ رحلته في ۲۱ حزيران ۹۲۱ ، من بغداد وبلغ إلى نهر الفولغا عند ملك الصقالبة يوم الأحد ۱۱ آيار ۹۲۲ م ، فاستغرقت رحلته في الذهاب أحد عشر شهراً ، ولكننا لم نعرف طريقه في العودة ، ولم نقف على تاريخها والمدة التي قضاها في ذلك حتى وصل بغداد . وانما نعرف عن ياقوت أن الرجل عاد من رحلته إلى العاصمة ، فقال عنه : « منذ خرج من بغداد إلى أن عاد إليها١ » .

والمصادر التاريخية لا تفصح عن شيء من أمر هذه الرحلة ومن صاحبها فلم نقع على ترجمة لابن فضلان في كتب الجغرافية والتاريخ والأخبار ، ولم تر سطراً واحداً يُشير إليه ، فنحن نجهل كل الجهل ما كان من اسمه . فهو عند يا قوت أحمد ابن فضلان بن العباس بن راشد٢ بن حماد مولى محمد بن سلمان رسول المقتدر بالله وهذا يطابق ما جاء في الرسالة المخطوطة بالعنوان ، ولكنه يخالف ما جاء في المخطوطة نفسها حين أعلمنا ابن فضلان أنه أسلم على يديه رجل اسمه « طالوت» فأسماه عبد الله ، فقال الرجل : « أريد أن تسميني باسمك محمداً ٣ » ويقول المؤلف : « ففعلت » فهل نرى في هذا تناقضاً واختلافاً ، أم نرى فيه تصحيفاً من الناسخ ؟ أم نقبل فيه بأن خير الأسماء ماحمد وعبد .

وليس الاسم وحده هو الذي يستوقفنا ، وانما اسم فضلان ، فالوزن عربي معروف ، ولكننا لم نقع على «فضلان ، في الأسماء المشهورة لذلك العصر مع أن الرسالة تقول إنه مولى لفاتح مصر محمد بن سليمان٤ ، ويقول ياقوت إنه كان مولى لمحمد بن سليمان ثم مولى أمير المؤمنين فهو من العجم الموالي٥ لذلك الزمان .

والمؤلف في رسالته يدعونا إلى الاعتقاد بغير ذلك ، فينقل إلينا قول ملك الصقالبة يخاطبه معرضاً بأصحابه في الرحلة : « انما أعرفك أنت ، وذلك أن هؤلاء قوم عجم ، . فهل يريد بذلك أنه عربي اللسان أم عربي الجنس ؟ أم أن الملك يجهل أصله فدعاه كذلك ؟ !

وأين ولد ابن فضلان من بلاد العجم أو العرب ، وكيف نشأ ، وماذا شغل من مناصب دينية قبل البعثة إلى البلغار ، وماهي صلته بالوزير حامد بن العباس ، وماهي ثقافته الأدبية والدينية، وماذا خلف من كتب غير هذه الرسالة؟. إنَّنا انتهينا في تحليلها قبل قليل إلى أن الرجل كان على ثقافة دينية وأدب رفيع، وأسلوب جميل، وورع وخلق وحبّ لنشر الإسلام وصدق في الحديث، وعفّة في المال، ولكننا رأينا عنده سذاجة، لعلها راجعة إما إلى سنّه المتقدمة أو إلى حالته الخاصة.

أما السنّ فقد لاحظنا أنه تحمَّل هذه الأسفار فخاض الأنهار وسكن قرب الثلوج وركب الجمال والسفن وعبر البوادي والصحاري والقفار والغابات وسار سيراً حثيثاً بأشد ما يكون في الجبال والوديان، وغامر مغامرة الشباب وخاطر بحياته فرأى الموت بعينيه. فهل كان في حال جسمية تحتمل مثل هذا العذاب في الرحلة أم كان في سنّ قريبة من الشباب؟ ومهما يكن من أمر، فالذي ساقه من حكايات كان راجعاً إلى عقليته التي تقبل هذا الخيال، فقد نظر إلى السماء في بلاد البلغار، فإذا بالجو يحمر وإذا بأصوات شديدة وهمهمة عالية، وإذا بأشباح تحمل السيوف والرماح على قطعة أخرى فيها أشباح تحمل السيوف والرماح وفي كل منها رجال ودواب وسلاح، كما تحمل الكتيبة على الكتيبة. ففزع من ذلك وأقبل على التضرع والدعاء. والقوم يضحكون منه ومن زملائه ويتعجبون. فإذا سأل عن ذلك زعموا له أن هذا الفعل من مؤمني الجن وكفارهم يقتتلون في كلّ عشية.

وكذلك وصفه لرجل من قوم يأجوج ومأجوج. قصّ الملك عليه قصته، له رأس أكبر من القدور الكبيرة، وأنف أكثر من شبر، وعينان عظيمتان. فروى ابن فضلان الخبر، ثم زاد عليه بأن الله يُخرج للقوم كلّ يوم سمكة من البحر، يحتز منها الواحد ما يكفيه ويكفي عياله، ثم يردها إلى البحر تتقلب، فإذا أخذ فوق حاجته اشتكى بطنه.

وما بسطنا هذا لننقد ابن فضلان أو نزري بقدره فلعله كان يتوهم حقاً هذا الذي يصف، أو لعله خاف فتخيل الذي قال، فليس من هين الأمور أن يبلغ رجل في عصره ما بلغ إليه من رحلة بعيدة يصل فيها إلى بلاد البلغار والروس، وأن يرى العجائب التي رأى على وسائط ذلك الزمان، ومصاعب المواصلات. وكثير من الرحالة والجغرافيين رووا مثلما روى وأوغلوا في الأساطير، حتى لقد دخل ذلك في كتب التاريخ عندنا، وروى المؤرخون مثله على سعة عقولهم وأحلامهم. ولكننا أردنا أن نشير إلى ما كان من ثقافة ابن فضلان وتأثره بالقصص القديمة السائرة في عصره والتواريخ المنشورة المترجمة عن الفرس، مما أدخله اليهود وغير اليهود في عقول الناس لذلك الزمان. ولأمر ما كان يدور على الألسنة في ذلك العصر خطر الدخول إلى تلك البلاد، حتى قال ابن حوقل وهو في القرن نفسه عن بلاد الروس : « فلم أسمع أحداً يذكر أنه دخلها مع الغرباء لأنهم يقتلون كل من وطىء أرضهم من الغرباء، وانما ينحدرون في الماء يتجرون ولا يخبرون بشيء من أمرهم ومتاجرهم. ولا يتركون أحداً يصحبهم »

وابن فضلان دخل البلغار. ورأى الروس يتجرون في تلك البلاد وعاد منها يوصف لرحلته، أشبه ما يكون بالتقارير الرسمية التي يكتبها السفراء اليوم عن بلاد عجيبة غريبة، فوفق في ذلك أشد التوفيق، بل وفق أكثر من بعض السفراء الدبلوماسيين لعصرنا في تقريره، فنحن نرى في خلطهم اليوم في فهم الشعوب وعاداتها وتقاليدها ما يجعل ابن فضلان سيداً من سادة الساسة في عصره وغير عصره.

وهذا دليل على أن الرجل نجح في مهمته ورسالته وكان حقاً عند حسن ظن المسئولين به عندما اختاروه لهذه الوفادة الشاقة، فلا شك في أنهم كانوا ينظرون إليه على أنه شخصية ممتازة. فقد وقع عليه اختيار الخليفة أو اختيار الوزير حامد ابن العباس لرئاسة هذا الوفد، وكلفاه بتسليم رسالة لكل منهما يحملها إلى ملك أوربي يعرفان أتم المعرفة أن الصلات بمملكته حين تتوثق ستزيد المسلمين قوة ودعاية ورفعة. وليس من اليسير أن يختار الخليفة أو وزيره رجلاً لا يكون محنكا أو مجرباً.

ويبدو أن الأوائل قبلنا جهلوا عنه كل شيء، فنقل عنه الجغرافيون كما قلنا ولم يذكروا اسمه، ولم يعرضوا له في مصادرهم التي أخذوا منها. فقد قرأ الرسالة منذ القرن الرابع وما بعده الأصطخري، وابن رسته، والمسعودي، ولكنهم لم يثبتوا في كتبهم أنهم نقلوا منه، فاختلط عندهم ماجمعوه من غيره بما نقلوه عنه. وفي القرن السابع كان ياقوت أول من أشار إلى فضله، وأختار فصولاً من الرسالة جعلها في كتابه ( معجم البلدان، وهي التي عرفت به في العصر الحديث وسيرت ذكره.



  1. معجم البلدان ٢ / ٤٨٠ وما بعدها.
  2. صحف ياقوت هذا الاسم في بعض المواقع فقال : « ابن اسد » ولعله من النساخ .
  3. الرسالة ، بالورقة ٢٠٧ ظ .
  4. محمد بن سليمان بن المنفق أبو علي الكاتب كما جاء أسمه في تجارب الأمم ٥٠/٥ ، فتح مصر وشتت آل طولون ودخلها سنة ٢٩٢ هـ ، وقتل سنة ٣٠٤ هـ ، وحصلت الري بيد أحمد بن علي صعلوك بعده – انظر الفرج بعد الشدة ١ / ١٨٠ .
  5. في المولى - انظر دراسة المستشرق فون كريمر ، عن الثقافة في عهد الخلفاء (بالألمانية) ١ / ١٠٤ ، طبع سنة ۱۸۸۸ م – ولاحظ أن ياقوت يسميه « مولى أمير المؤمنين ثم مولى محمد بن سليمان »