شرح الحديثين في فضائل فاطمة/المقدمة


اَلْمُقَدِّمَة

اعلم أن الدار الآخرة دهرية وعرصتها فوق عرصة الدنيا بالبداهة، ويشهد بذلك العقل والنقل ومواليدها أيضاً دهرية، وتراكيبها أيضاً معنوية دهرية ولا تشبه الدار الدنيا ولا مركباتها ولا مواليدها، وبيان ذلك على التقصيل يليق بغير هذا المقام، ولكن لا بد من الإشارة على نهج الاختصار بقدر ما يقتضيه المقام فاعلم أن هذه الدنيا من العرش إلى الفرش دار الإعراض كما قال الإمام عليه السلام كل ما بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه ولا شك أن هذا العالم عالم الأجسالم فهي ملازمة للأعراض مبتلاة بالأمراض، وذلك مشهود لكل عاقل خبير وناقد صبير. ألا ترى أن كل مادة جسمية تظهر في أعراض تسعة تلزمها ولا تكاد تظهر بغيرها ولا تتعين بسواها وهي الكم والكيف والمكان والزمان والوضع والملك وهو الجدة والإضافة والفعل والانفعال فكل جسم لا بد له من هذه الأعراض ولا يتعين بغيرها وكلها عرضي له زايل عنه وصورته الذاتية نفس إمكان الأعراض، ولذل يقال في حده أن الجسم جوهر قابل، ولذلك نقول أنه بنفسه لا يقوم إلا في ضمن الأعراض إلا أن مقامه في غيبها ويسمى بالدهر ولا تقوم الدهريات في مقام بانفرادها عارية من تلك الأعراض إذ كلها كليات وهي مطلقات مبهمات فلا تقوم معها ولا فوقها ولا دونها وإلا لزم كونها محدودة بها ولكنها في غيبها بلا تحديد وإن فهمت ذلك ظفرت بفهم مسائل كثيرة ثم إن هذه الأعراض التي تعرض المادة الجسمية كلها خارجة منذاتها زايدة عليها. ألا ترى أنها تتغير وتتبدل والجسم باقٍ بحاله مثال ذلك التراب فإنه يتصور بصور مختلفة عديدة وتزول عنه، وهو باقٍ في كل الأحوال على هيئته الترابية، وكذلك الأمر في كل العناصر والأفلاك، وذلك أمر مشهود لدى العاقل ومن عرفه بالكشف أو التجارب عرف أن جميع هذه الصور المشهودة كلها عرضية زايلة والدهر غير العرض بالبداهة فإنك ترى أن الأعراض محدودة والدهر غير محدود بها، وهي زايلة موقتة وهو باقٍ دائم، ولا يمكنني الآن بسط هذه المسألة، ولكني أريك مثالاً لتقف على المراد في الجملة؛ انظر إلى هذه المياة الدنيوية فإنها محدودة بحدود أمكنتها وأوقاتها وكيوفها وكمومها لا تجاوزها وهي زمانية ولا ترتفع من الزمان البتة، وفوقها الماء المطلق الدهري، وهو نفس الجسم البارد الرطب السايل وهو فوق جميع هذه الحدود، ألا ترى أنه ظاهر بصورته في جميعها ولا يتغير بتغيرها ولا يتبدل بتبدلها، وهو ثابت في جميع أزمنتها ولا ينقضي بانقضائها، ولا يمر عليه أوقاتها فهو أبداً على هيئته، ولا يبيد ولا يهلك، وهو في كل آن غضٍّ طري إذ لا يخلقه الملوان ولا يتجدد عليه الحدثان إذ لم يخلق لزمان دون زمان كما قال عليه السلام في صفة القرآن إذ سئل عن سر تجدده وعدم بلاه بتكرر القراءة كما هو عادة الناس في جميع الحوادث الدنيوية، فقال عليه السلام لأنه لم يخلق لزمان دون زمان بل هو باقٍ إلى يوم القيامة ما دام بقاء الشريعة فافهم واعتبر، فالماء هو ماء في زمان آدم ويومنا ونسبته إلى المياه الثابتة في زمانه إلى زماننا بالسواء، وكل ما فني ماء أو استحاء إلى غيره يكون الماء الكلي الدهري باقياً في غيب الدنيا، وذلك صفة جميع الدهريات فمن ذلك اعرف أن جميع هذه الأعراض متممات للماء المطلق، وهو غيرها مع أنه ظاهر فيها، ولو كان مصوراً بصورة من تلك الصور لما كان يظهر في البواقي، ألا ترى أن الماء المالح لا يكون ماءاً حلواً أو الماء الأبيض لا يكون ماءاً أحمر وماء البحر لا يكون ماء النهر، وكذلك ماء الأمس لا يكون باليوم، ولكن حقيقة الماء سارية في الكل، وذلك أعظم شاهد على أن الصور الدنيوية لا تعرض الدهريات أبداً، وكذلك الأمر في زيد الأخروي، فإن زيداً له أخروية، وهي دهرية مطلقة ومثالية، وهي نورها المتألق وفعلها المتعلق بالدنيا، ودنيوية وهي هذا البدن المحسوس من أعلى مقامه إلى أسفل مرتبته وأعلاه الدخان الصاعد إلى أعلى نقرات دماغه وأسفله اللحم والعظم والبدن الدنياوي نسبته إلى زيد الأخروي كنسبة المياه الجزئية إلى الماء المطلق، ألا ترى أن زيداً زيد من أول عمره إلى حين موته، ولا يزيد عليه ولا ينقص منه ولا يشيب ولا يهرم ولا يضعف ولا يقوى ولا يهزل ولا يسمن ولا يصح ولا يمرض، ولكن جميع هذه الأعراض تعرض البدن، وهو الذي يتغير ويتبدل، ولكن زيداً ثابت قائم بصورته الزيدية من بدء عمره إلى موته، وبهذه الصورة يحشر وينشر ويثاب ويعاقب والصور العرضية كلها زايلة وزيد الأخروي يجمع جميع المراتب من الفؤاد إلى الجسم بحسبه، وكلها بالنسبة إلى مظاهرها في البدن دهرية ثابتة باقية مخلدة، وبذلك يشهد صحيح الأخبار ودقيق الاعتبار، وكذلك الأمر في جميع الملك فالمحشور من هذا الحق الآباء العلوية والأمهات السفلية والمواليد المخلقة وغير المخلقة جميعها دهرياتها لا زمانيتها. نعم؛ الزمان برمته أيضاً خلق يحشر كساير الخلق بالدهرية، ومعرفة ذلك عسير جداً، ولا يمكن كشف هذه المسألة على نحو الحقيقة فإذا عرفت هذه المقدمة فاعلم أن المواليد الدنيوية لا تحشر بهذه الصور الزمانية إذ هي ملازمة للزمان كما قال الله تعالى: {فلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} والأنساب في الآية الأولى في الظاهر بمعنى النسب الظاهري وفي الباطن عام يشمل جميع النسب الزمانية إذ لو بقيت على حالها للزم بقاء النسب الظاهري كالأبوة والبنوة وأمثالهما، وكذلك حشرهم فرادى يدل على ذلك، وقد ثبت في الحكمة أن الناس في القيامة يحشرون بصور أعمالهم، وورد ذلك في الأخبار أيضاً، ونص عليه الله عز وجل في كتابه إذ قال {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} وقال {وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فافهم ذلك، فالصور الدنياوية لا تصعد الدنيا، والإشارة إلى برهان ذلك بالعقل في الجملة أن الصور حدود المواد وهي على حسبها إذ كل مادة لا تصلح للتحدد بكل صورة البتة فإن المادة اللطيفة نهاياتها لطيفة، والمادة الكثيفة نهاياتها كثيفة، والمادة الكلية نهاياتها كلية، والمادة الجزئية نهاياتها جزئية، وذلك أمر معلوم مسلّم ولا شك أن المواد الهرية كلية معنوية فلا تحدد بالحدود الشخصية، ألا ترى أن الجسم المطلق بإطلاقه لا يطول ولا يقصر بالكموم المعلومة ولا يتكيف بكيفات شخصية. نعم؛ الجسم المطلق بعد ظهوره في القوابل الشخصية والمواد الجزئية يتهيأ بالكموم الشخصية والكيفيات المقيدة فإن التراب مثلاً بعد التعين بالترابية الشخصية يقبل صورة الكأس المعين والكوز المعلوم، ولكن الجسم بجسميته لا يصير كأساً ولا كوزاً، وأمثل لك مثالاً آخر في الظاهر حتى تتيقن بالمسألة، وهو أن الصورة المائية تعرض عناصرها، وصورة الجمد تعرض الماء، ولا تعرض عناصره، أي الماء وصوروة التثليث تعرض الجمد لا الماء، فإن الماء لا يقف بنفسه على التثليث والتربيع والتخميس، فكل مادة لا تصلح في الصلوح القريب للتصور بكل صورة. نعم؛ في الإمكان البعيد يصلح كل شيء لكل شيء. كل شيء فيه معنى كل شيء، فتفطن واصرف الذهن إليَّ، وبمحض الصلوح لا يكاد يتصور فإن التراب يصلح للصورة الإنسانية، ولكنه لا يتصور بها إلا بعد صعوده في مراتب فإذا كان الأمر هكذا في المواد الدنيوية فما ظنك بالمواد العلوية، ولذلك قلنا بأن بناء العوالم لا يستقيم إلا بالتنزل والترتب، فإذا عرفت هذا البرهان الشريف والبيان اللطيف فاعلم أن المواد الدنيوية لا تصعد من الدنيا البتة كما قال الله تعالى {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} وقال {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ}، وقال مولانا أمير المؤمنين عليه صلوات المصلين في صفة العالم العلوي صور عالية عن المواد عارية عن القوة والاستعداد، والمراد من المواد؛ المواد الدنيوية، وقال الشيخ الأوحد (أعلى الله مقامه) كل شيء لا يتجاوز ما وراء مبدأه فهذه المواد لازمة محلها ولا يصعد منها إلى العالم الأعلى إلا ما نزل عنها، وهو لطائفها، فإذا لم تصعد إليها بأنفسها؛ كيف يتصور صعود صورها فإن هذا الجسم الجزئي إذا لم يصعد من الدنيا لا يكاد يصعد بياضه وحرارته وطوله البتة. نعم؛ تصعد منه لطيفة كلية، ولها صورة بحسبها فإذا قلنا أن هذا النبات مثلاً يحشر في القيامة، لا نريد منه أن عناصره المركبة في الدنيا بصورتها تحشر، ولكن نريد منه أن المادة اللطيفة النازلة من القيامة تصعد إليها بما يناسبها من الصور، وكذلك الأمر في الحيوان والإنسان فعلى ذلك كل ما يكون له ذكر شخصي في القيمة يحشر فيها متشخصاً، وكل ما يكون ذكره هنا كلياً يعود بالكلية، وغير ذلك غير معقول، فاصنع لما أقول حتى تفوز بالمأمول، ولذلك قال مولانا أمير المؤمنين أن النباتية والحيوانية تعود إذا عادت عود ممازجة لا عود مجاورة، والإنسان يعود عود عود مجاورة لا ممازجة، ولذلك خص في الشرع القيامة بالإنسان والحشر والنشر به دون الباقي، نعم؛ روي في بعض الضعاف أن بعض الحيوانات تُحشر، ويمكن الاستدلال عليه بقوله تعالى {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}، فإن كانت الرواية صحيحة والآية دالة تدل على أن حشرها في أسافل القيامة، لكن الظاهر أن المراد من الوحوش الأعداء، وتدل على ذلك الأخبار الصحيحة، ويدل على ذلك ساير الآيات أيضاً، وفي بعض الروايات المعتبرة أيضاً؛ روي حشر بعض الحيوانات، ودخولها الجنة، وذلك أيضاً على وجه يمكن لا بغيره وبسط الكلام فيه لا يناسب المقام، وبالجملة هذه قاعدة كلية جرت على قلمنا هنا بتقدير الله تعالى، وإن عرفها الطالب يعرف حق المسألة في المعاد، وإن حفظها يظهر له أيضاً ما سنبينه في هذا الشرح.

رَفْعُ شُبْهَة

لا تزعم من بياني هذا أن المعاد لا يكون جسمانياً، وقد أشرت إلى ذلك هنا، ولكن أزيد توضيحاً أن الجسم له حقيقة ثابتة في الأعلى، فإنه جوهر قابل، وكل ما سوى العقل جوهر قابل، وكلنه نزل في الدنيا، وظهر بهذه الأجسام المشهودة وما يلزم الدنيا منها هو هذه الحدود الدنيوية، ولكن لها حقائق أخروية فللدار الآخرة عرش وكرسي وأفلاك وعناصر جميعها جسمانية، ولمواليدها أبدان جسمانية إلا أنها لا تكون عرضية دنياوية، ونحن بعد ما نزهنا الآخرة عن الأعراض الدنيوية؛ زعم الناس أنا نقول أن المعاد لا يكون جسمانياً، وذلك لأنهم يزعمون أن حقيقة الجسم هي ما يرونه في الدنيا مع أن ما يرونه عرض الجسم لا نفسه بل لا يرون إلا الأجسام التعليمية وهي الهندسة لا الجسم الطبيعي، ومحل الكلام هو الجسم الطبيعي لا غير فتدبر، ويكفي هذا القدر من البيان في المقام إن شاء الله تعالى.