عبقرية الامام علي (دار الكتاب العربي 1967)/إسلامه


٣

إسلامه

ولد علي في داخل الكعبة، وكرم الله وجهه عن السجود لأصنامها، فكانما كان ميلاده ثمة ايذانا بعهد جديد للكعبة وللعبادة فيها.

وكاد علي أن يولد مسلما..


بل لقد ولد مسلما على التحقيق اذا نحن نظرنا إلى ميلاد العقيدة والروح، لأنه فتح عينيه على الاسلام ولم يعرف قط عبادة الأصنام.

فهو قد تربى في البيت الذي خرجت منه الدعوة الاسلامية وعرف العبادة من صلاة النبي وزوجته الطاهرة قبل أن يعرفها من صلاة أبيه وأمه، وجمعت بينه وبين صاحب الدعوة قرابة مضاعفة ومحبة أوثق من محبة القرابة. فكان ابن عم محمد عليه الصلاة والسلام وربيبه الذي نشأ في بيته و نعم بعطفه وبره. وقد رأينا الغرباء يحبون محمداً ويؤثرونه على آبائهم وذويهم. فلاجرم يحبه هذا الحب من يجمعـه به جد ، ويجمعه به بيت ، ويجمعه به جميل معروف : تجميل أبي طالب يؤديه محمد وجميل محمد يحسه ابن أبي طالب وياوي إليه ..

واختلفوا في سننه حين اسلامه من السابعة الى السادسة عشرة،ولعله أسلم في نحو العاشرة لأنه كان يناهزها عند اعلان الدعوة المحمدية ، وكان النبي عليه السلام يتعبد في بيته عبادة الاسلام قبـل الدعوة بفترة غير قصيرة ، وليس ما يمنع عليا أن يألف تلك العبادة في طفولته الباكرة .

فاذا هو نفر منها وأعرض عنها لغير سبب في تلك الطفولة الباكرة فالعجيب انه يعود إلى ألفتها والرضا بها بعد أن بلغ السن التي يعرف فيها معنى الغضب لعبادة الآباء والأجداد .

ولولا ألفة علي لابن عمه وكافله لما قربته القرابة وحدها من الدين الذي دعي اليه،فقد أصر كثير من أقرباء النبي على الشرك زمنا طويلا، منهم عقيل أخوه وأحب اخوته الى ابيه . فحارب" المسلمين في بدر ولم يسلم وقد وقع في أسر النبي وصحبه : بل افتداه عمه العبـاس وخرج من الأسر وهو على دينه ، ثم أسلم بعد صلح الحديبية مع طائفة من الغرباء و الأقربين

على أن الألفة بين ابني العم الكريمين قد أوشكت أن تكون عائقاً لاسلام علي في طفولته الباكرة . لأن النبي عليه السّلام أبى أن ينتزع الطفل من دين أبيه وابوه لا يعلم ، وأشفق أن يكون بره بعمه وبابن عمه سبيلا الى التفرقة بين الأب وابنه وهو لا يدرك ما يفعل ، ولم يشأ أن يعود الطفل الصغير أن يخفي سرا عن أبيه كأنه يخدعه بإخفائه ولو في سبيل الهداية والخير ، فظل هذا الحرج الكريم عائقاً عسيراً أعسر ما فيه انه عائق اختيار يهون معه الاضطرار ، أو عائق حيرة تقل فيها حيلة الكريم ، حتى شاع أمر الدعوة المحمدية وعلم بها أبو طالب و نصر ابن أخيه وأمر عليا بمتابعة أبن عمه ونصره ، فأقبل الغلام البر بأبيه وبكافله اقبال لا تلجلج فيه على الدين الجديد .

وملأ الدين الجديد قلبا لم ينازعه فيه منازع من عقيدة سابقة ولم يخالطه شوب يكدر صفاءه ويرجع به الى عقابيله .. فبحق ما يقال ان عليا كان المسلم الخالص على سجيته المثلى ، وأن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق اسلاما منه ولا اعمق نفاذا فيه .

***

كان المسلم حق المسلم في عبادته ، وفي علمه وعمله ، وفي قلبـه و عقله ، حتى ليصح أن يقال انه طبع على الاسلام فلم تزده المعرفة الا ما يزيده التعليم على الطباع ..

كان عابدأ يشتهي العبادة كأنها رياضة تريحه وليست أمرأ مكتوباً عليه. وكان يرى في كهولته وكأنما جبهته ثفنة بعير من أدمان السجود. وكان على محجة في الاسلام لا يحيد عنها لبغية ولا لخشية ، فكلمـا زينوا له الهوادة أبي «أن يداهن في دينه ويعطي الدنيـة في أمره ، وآثر الخير" كما تراه على الخير كما يراه الناس ..

وكان دينه له ولعدوه ، بل له ولعدو" دينه ، فما كان الحق" عنده لمن يرضاه دون من يقلاه ، ولكنه كان الحق لكل" من استحقه وإن بهته وآذاه ..

وجد درعه عند رجل نصراني فاقبل به الى شريح ... قاضية ... يخاصمه مخاصمة رجل من عامة رعاياه ، وقال : انها درعي ولم أبع ولم أهب ، فسأل شريح النصراني : ما تقول فيا يقول أمير المؤمنين ..؟ قال النصراني : ما الدرع الا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب ! .. فالتفت شريح إلى علي يسأله : يا أمير المؤمنين هل من بينة ! .. فضحك علي وقال : أصاب شريح . مــالي بينة ! .. فقضى بالدرع للنصراني فأخذها ومشى و «أمير المؤمنين، ينظر إليه ... إلا أن النصراني لم يخط خطوات حتى عاد يقول : أما أنا فأشهد ان هذه احكام أنبياء .. أمير المؤمنين يدينني الى قاضيه يقضي عليه ! . أشهد أن لا اله الا الله وان محمداً رسول الله ، والدرع والله درعك يا أمير المؤمنين . اتبعت الجيش وانت منطلق الى صفين فخرجت من بعيرك الأورق ، فقال : أما اذا أسلمت فهي لك ، وشهد الناس هذا الرجل" بعد ذلك وهو من أصدق الجند بلاء في قتال الخوارج يوم النهرون .

***
وأحسن الاسلام علما وفقہا کا أحسنه عبادة وعملاً . فكانت فتاواه

مرجعا للخلفاء والصحابة في عهود أبي بكر وعمر وعثمان ، و ندرت مسألة من مسائل الشريعة لم يكن له رأي فيها يؤخذ به أو تنهض له الحجة بين أفضل الآراء

الا ان المزية التي امتاز بها على بين فقهاء الاسلام في عصره انه جعل الدين موضوعا من موضوعات التفكير والتأمل ولم يقصره على العبادة واجراء الأحكام ، فاذا عرف في عصره اناس "فقهوا في الدين ليصححوا عباداته ويستنبطوا منه أقضيته وأحكامه ، فقد امتاز" على بالفقه الذي يراد به الفكر المحض والدراسة الخالصة ، وأمعن فيـه ليغوص في أعماقه على الحقيقة العلمية ، أو الحقيقة الفلسفية كما نسميها في هذه الأيام .

ويصح أن يقال ان عليا ، رضي الله عنه أبو يعلم الكلام في الاسلام ، لأن المتكلمين أقاموا "مذاهبهم على أساسه كما قال ابن ابي الحديد في شرح نهج البلاغة . فواصل بن عطاء كبير هم تلميـذ أبي هاشم عبد الله ابن محمد بن الحنفية ، وابو هاشم تلميذ أبيه ، وأبوه تفيـذ علي رضي الله عنه . وأمـا الأشعرية فأنهم ينتمون الى أبي الحسن علي بن أبي الحسن على بن أبي بشر الأشعري" وهو تلميذ أبي علي الجبـائي ، وأبو علي الجبائي أحد مشايخ المعتزلة الذين علمهم واصل بن عطاء .. أما الفقه فأمامه الأكبر أبو حنيفه قرأ على جعفر بن محمد وجعفر بن محمد قرأ على أبيه وهكذا ينتهي الأمر الى علي رضي الله عنه، وقدقرأ مالك بن أنس على ربيعة الرأي ، وقرأ ربيعة على عكرمة ، وقرأ عكرمة على عبدالله ابن عباس وقرأ عبد الله بن عباس على علي رضي الله عنه . وقيل لابن عباس : أين علمك من علم ابن عمك؟: فقال : كنسبة قطرة من المطر الى البحر المحيط.

***

قال ابن أبي الحديد : « ومن العلوم علم الطريقة والحقيقة وأحوال التصوف ، وقد عرفت ان أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام اليه ينتهون وعنده يقفون . وقـد صرح بذلك الشبلي والجنيد وسري وأبو زيد البسطامي وأبو محفوظ معروف الكرخي وغيرهم .ويكفيك دلالة على ذلك: الخرقة التي هي شعارهم الى اليوم ، وكونهم يسندونها باسناد متصل اليه عليه السلام » .

***

وقد جمع « نهج البلاغة » نماذج شتى من الكلمات التي تنسب اليه ويصح أن تحسب أصلا « للعلم الالهي ، أو لأسرار التصوف في صـدر الاسلام قبل اشتغال المسلمين بفلفسة اليونان وحكمة الأمم الاجنبية .وربما وقع الشك في نسبة بعض الكلمات الى علي رضي الله عنه لأنها تجمعت بعد عصره بزمن طويل وامتزج بهـا ما لا بد أن يمازجها من علوم القرن الثالث وما بعده ، ولكن شيئا على هذا النهج لا بد أن يكون قد صدر منه حقا حتى جاز أن يتصل النسب بينه وبين أئمة التوحيد وعلم الكلام على النحو الذي تواترت به الاقوال ، وأجمله ابن أبي الحديد فيها تقـدم . .

***

ولنا أن نقول أنه كان رضي الله عنه يتتلمذ القرآن الكريم ويستوحيه نصا في عرفان اسلامه وتقرير ايمانه . فكانت نظرته الى الخلق والخالق نظرة قرآنية يبتكر مـا شاء ابتكار التلميذ في الحكاية عن الأستاذ ، فكلامه عن الطاووس والخفاش والزرع والسحاب انمـا هو الدرس القرآني الذي وعاه من أمر الكتاب بالنظر في المخلوقات ووصف الكتاب لطوائف منها كالنمل والنحل والطير والأجنة في الأرحام . فهو تلميذ ربه جل وعلا في قوله عن الخفـــاش : « من لطائف صنعته وعجائب حكمته ما أرانا من غوامض الحكمة في هذه الخفافيش التي يقبضها الضياء الباسط لكل شيء ويبسطها الظلام القابض لكل حي ، وكيف غشيت أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورا تهتدي به في مذاهبها .. فسبحان من جعل الليل لها نهاراً ومعاشاً . والنهار لها سكنا وقرارا ، وجعل لها أجنحة من لحمها تعرج بها عند الحاجة الى الطيران كانها شظايا الآذان ، غير ذوات ريش ولا قصب .. تطير وولدهـا لاصق بها لاجيء إليها، يقع اذا وقعت، ويرتفع اذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه ، ويحمله للنهوض جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه، فسبحان الباريء لكل شيء على غير مثال خلاف غيره» . ومثله قوله عن الطاووس: «ومن أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل • نضد ألوانه في أحسن تنضيد ، بجناح أشرج قصبه وذنب أطال سحبه ، اذا درج الى الأنثى نشره من طيه ، وسما به مظلا على رأسه . وقـد ينحسر من ريشه ويعرى من لباسه فيسقط تترى وينبت تباعا ، فينحت من قصبة نحتـات أوراق الأغصان ، ثم يتلاصق ثانيا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه لا يخالف سالف ألوانه ولا يقع لون في غير مكانه».

ونحن لا نستغرب ابتداء هـذا النمط من النظر الفلسفي على نحو من الأنحاء في عصر الامام علي رضي الله عنه . لأنه كان عهدا نبتت فيـه أصول الفرق الاسلامية جميعاً من الخوارج والشيعة والقائلين بالرجعة و تناسخ الأرواح والمجتهدين في قراءة القرآن وتفسيره على شتى المذاهب . فاقرب شيء إلى المعقول أن يكون أمام العصر كله قدوة في الاجتهـاد والنظر وعنوانا للنوازع التي تفرقت بين أهل زمانه وتعبيرا صادقا لتفكيره ووعيه ، وصاحب أقوال من قبيل هذه الأقوال التي قدمناها وان لم تكن هي اياها بالنص والتفصيل .

ويستقيم مع هذا التقدير أن يكون الامام على سجيته مؤثرا للاجتهاد ما استطاعه ، معرضا عن التقليد ما استغنى عنه ، فوافق الخلفاء من قبله في أمور وخالفهم في أمور ، وأبى أن يأتم بعملهم فيها يراه وما لا يراه ، وأوصى ابنه الحسن وقد بلغ الستين فقال : « .. اعلم يا بني ان أحب ما أنت آخذ به الي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك والصالحون من أهل بيتك ، فأنهم لم يدعوا ان نظروا إلى أنفسهم كما أنت ناظر وفكروا كما أنت مفكر .. فان أبت نفسك أن تقبل ذلك دون أن تعلم کا علموا فليكن طلبك ذلك بتفهم وتعلم ، لا يتورط الشبهات ، وعلـق الخصومات ، وابتدىء قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بالهك، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كل شائبة أولجتك في شبهة أو أسلمتك الى ضلالة ، فان أيقنت أن فد صفا قلبك ، وتم رأيك فاجتمع ، وكان همك في ذلك هما واحـــدا فانظر فيا فسرت لك .. »

وربما كانت هذه الوصية وحدها كافية للتعريف باسلام علي كما ارتضاه لنفسه وارتضاه للقادرين عليه من أتباعـه فانما هو اسلام المسلم - المطبوع ، الذي يبتكر دينه لأنه يعتمد فيه على وحي بصيرتـه وارتجال مزاجه ، وانما هو اسلام الحكيم المجتهد الذي يرجع في الحكمة والاجتهاد الى رياضـة النفس على سنة النساك وتمحيص الفكر على سنـة العلماء ، وإنما هو أسلام الرجل الذي أتيح له أن يتتلمذ لربه ويتربى في حجر نبيه ويصبح إماماً للمقتدين من بعده .