عبقرية الامام علي (دار الكتاب العربي 1967)/مفتاح شخصيته

عبقرية الامام علي
 المؤلف عباس العقاد
مفتاح شخصيته


٢

مِفتاح شخصيّته

«آداب الفروسية»، هي مفتاح هذه الشخصِّية النبيلة الذي يفض منها كل مُغلق ويفسّر منها كل ما احتاج الى تفسير.

وآدابُ الفروسية هيَ تلك الآداب التي نلخصُّها في كلمةٍ واحــدة وهي النخوة..

وقد كانت النخوةُ طبعا في عليِّ فُطرَ عليـه، وأدباً من آداب الأسرة الهاشمية نشأ فيه، وعادةٌ من عادات « الفروسية » العملية التي يتعودُها كل فارس وشجاع متغلب على الأقران، وان لم يطبع عليها وينشأ في حجرها. لأن للغلبة في الشُّجاع أنفة تأبى عليه أن يسفّ الى ما يُخجله ويُشينه، ولا تزال به حتى تعلمه النخوة تعلماً، وتمنعه أن يعمل في السر ما يزري به في العلانية.

وهكذا كان علي رضي الله عنه في جميع أحواله وأعماله : بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى ، ولا سيما في معاملة الضعفـاء من الرجال والنساء . فلم ينس الشرف قط ليغتنم الفرصة ، ولم يساوره الريب قط في الشرف ، والحق انها قائمـان دائمان كانهما مودعان في طبائع الأشياء . فاذا صنع ما وجب عليه فلينس" من شاءوا ما وجب عليهم، وإن أفادوا كثيرا وباء هو بالخسار..

أصاب المقتل من عدوه مرات فلم يهتبل الفرصة السانحة بين يديه، لأنه أراد أن يغلب" عدوه غلبة الرجل الشجاع الشريف ، ولم يرد أن يغلبه أو يقتص منه كيفما كان سبيل الغلب والقصاص ..

قال بعض من شهدوا معركة صفين : لما قدمناعلى معاوية وأهل الشام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلا اختار وه مستويا بساطاً واسعاً وأخذوا الشريعة .. أي مورد الماء ... فهي" في أيديهم . وقد أجمعوا على أن يمنعونا الماء . ففزعنا الى أمير المؤمنين فخبر ناه بذلك فدعا صعصعة بن صوحان فقال له : إنت معاوية وقل له انا سرنا مسيرنا هذا اليكم ونحن نكره قتالكم قبل الاعذار اليكم ، وانك قدمت الينا خيلك ورجلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك و بدأتنا ، ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك ، وهذه أخرى قد فعلتموها اذ حلتم بين الناس وبين الماء . والناس غير منتهين أو يشربوا فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء ويكفوا حتى ننظر فيما بيننا وبينكم وفيها قدمنا له وقدمتم له...

ثم قال راوي الخبر ما معناه أن "معاوية سأل أصحابه فأشاورا عليه أن يحول بين علي وبين المورد غير حافل بدعوته إلى السلم ولا بدعوته الى المفاوضة في أمر الخلاف ، فأنفذ معاوية مددا الى حراس المورد يحمونه ويصدون من يقترب منه ، ثم كان بين العسكرين تراشق بالنبل فطعن بالرماح فضرب بالسيوف حتى اقتحم أصحاب على طريق الماءو ملكوه .

وهنا الفرصة الكبرى لو شاء على أن يهتبلها ، وأن يغلب أعداءه بالظما كما أرادوا أن يغلبوه به قبيل ساعة .. وقد جاء أصحابه يقولون : والله لا نسقيهموه . فكأنما كان هو سفير معاوية وجنده إليهم يتشفع لهم ويستلين قلوبهم من أجلهم . وصاح بهم : «خذوا من الماء حاجتكم وأرجعوا إلى عسكركم وخلوا عنهم ، فإن الله عز وجل قد نصر كم عليهم بظلمهم وبغيهم» ۔

ولاحت له فرصة قبل هذه الفرصة في حرب أهل البصرة ، فابي أن يهتبلها وأغضب أعوانه انصافا لأعدائه ، لأنه نهاهم أن يسلبوا المــال ويستبيحوا السبي وهو في رأيهم حلال . قالوا : أتراه يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم ؟ .. فقال : ( إنما القوم أمثالكم ، من صفح عنا فهو منا ونحن منه،ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر وسن لهم سنة الفروسية أو سنة النخوة حين أوصاهم ألا يقتلوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يكشفوا ستراً ولا يمدوا يدا الى مال .

ومن الفرص التي أبت عليه النخوة أن يهتبلها فرصة عمرو بن العاص وهو ملقى على الأرض مكشوف السواة لا يبالي أن يدفع عنه الموت بما حضره من وقاء، فصدف بوجهه عنه آنفا ان يصرع رجلا يخاف الموت هذه المخافة التي لا يرضاها من منازله في مجال صراء. ولو غير على أتيح له أن يقضي على عمرو لعلم انه قاض, على جرثومة عداء ودهاء فلم يبال أن يصيبه حيث ظفر به، ولا جناح عليه.

***

لقد كان رضاء من الآداب في الحرب والسلم رضا الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها.

فكان يعرف العدو عدوا حيثما رفع السيف..لقتاله ولكنه لا يعادي امرأة ولا رجلا موليا ولا جريحاعاجزا عن نضال ولا ميتا ذهبت حياته ولو ذهبت في سبيل حربه.. بل لعله يذكر له ماضيه يومئذ فيقف على قبره ليبكيه ويرثيه ويصلي عليه.

وهذه الفروسية هي التي بغضت اليه أن ينال أعداءه بالسباب وليس من دأب الفارس أن ينال" أعداءه بغير الحسام.

فلا سمعَ قوما من أصحابه يسبون أهل الشام أيام حروبهم بصفين قال لهم : « اني أكره أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم اياهم : اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالهم حتى يعرف الحق من جهله ، و يرعوي عن الغي والعدوان من لهج به». وربما شذ عن سنته هذه في بعض الأحايين فاذا به لا يشذ عنها الأكا يشذ الفرسان حين تغلبهم بوادر اللسان .. فندر بين رجال السيف من يسمع الكلمة المغضبة فلا ينطق لسانه بكلمة عوراء يجاري بهـا غضبه الذي طبع على ابدائه ولم يطبع على كتمانه.

ومن قبيل هذا كلمات قالها على في ابن العاص وفي معاوية وفي الأشعث بن قيس وغير هؤلاء. ولكنه لم يجعلها ديدنا له كما سبوه على المنابر وأشاعوا مذمته بين أهل الأمصار .

شغب عليه الأشعث بن قيس ومرد عليه الجند وأفشى بين أنصاره الفتنة وقاطعه مرة وهو يخطب على منبر الكوفة فأغضبه وهاج غيظه فبدره بقوله : ( عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين : حائك بن حائك ، منافق ابن كافر ، والله لقد أسرك الكفر مرة والاسلام أخرى ، فها فداك من واحدة منها ما لك ولا حسبك ، وأن امرأ ولى على قومه السيف وساق إليهم الحتف لحري" أن يمقته الأقرب ولا يأمنه الأبعد ».

***

وطفق ابن العاص ينعته بين أهل الشام بالهزل والدعابة ويأمر بسبه على المنابر حتى وجب رده وادحاض زعمه، فقال رضي الله عنه في بعض خطبه : عجبا لابن النابغة !.. يزعم لأهل الشام ان في دعابة ، اني امرؤ تلعابة : اعانس وامارس١. لقد قال باطلا ونطق آثما • أما ـ وشر القول الكذب ـ انه ليقول فيكذب ، ويعد فيخلف ، و يسأل فيبخل ، ويخون العهد ويقطع الآل٢ ، فاذا كان عند الحرب فاي زاجر وآمر هو ما لم تأخذ السيوف مآخذها . فاذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القوم سبته . أما والله اني ليمنعني من اللعب ذكر الموت . وانـه ليمنعه من قول الحق" نسيان الآخرة . انه لم يبايع معاوية حتى شرط أن يؤتيه آتية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة٣

وكذلك كان يجبه معاوية وغيره بنظاير هذه الكلمات حين يجترئون عليه بما يغض" من حقه ويقدح في دعوته ، فلا يشذ عن ديدن الفرسان في روية فكره ولا بوادر لسانه ، ولكن الفلتات التي من هذا القبيل شية واتخاذ السباب صناعة دائمة وسلاحا مشهوراً وسبيلاً الى القول الباطل شيء آخر ..

ولقد كانت للامام رضي الله عنه شواغل أخرى غير الفروسية تجري في مجراها حينا وتبدو غريبة عنها حينا آخر في عرف بعض الناقدين ، ومنها التفقه والنزوع الى « التصوف ، واستنباط حقائق الأشياء .

***
فهذه في عرف في بعض الناقدين ليست من مزاج الفروسية على

ظاهر ما قدروه .. ولكن ما التصوف أو التجرد للحقيقة ..؟ أليس هو في معدنه جهاداً في الحق أو جهاداً في الله ..؟ أليست طبيعة الجهاد وطبيعة الفروسية من معدن واحد ..؟ ألم تعهد في كل ملة وكل زمان فئات من الناس يجاهدون لأنهـــــــم متدينون متنطسون ، أو يتدينون ويتنطشون لأنهم مجاهدون ..؟

فالامام علي رضي الله عنه فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين بل هو أحرى أن يسلكه فيها . ولا يخرجه من الفروسية بعض المقـال في خصومه بل هي بوادر الفرسان بعينها ، ولا تزال آداب الفروسية بشئی عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هـذه النفس فاذا هو منكشف للناظر عما يليه .


  1. المعانسة : مضاربة الناس مزاحا ومغازلة النساء.
  2. الآل : القرابة والرحم .
  3. الآتية : العطية . ومثلها الرضيخة مع قلة .