عبقرية محمد (1941)/محمد الرئيس
الرئيس الصديق
من الحسن أن نكتب عن محمد الرئيس ، بعد كتابتنا عن محمد الصديق ، لأنه هو قد جعل للرئاسة معنی الصداقة المختارة فمحمد الرئيس هو الصديق الأكبر لمرؤوسيه ، مع استطاعته أن يعتز بكل ذريعة {{حا|وسيلة}ج من ذرائع السلطان..
فهناك الحكم بسلطان الدنيا •
وهناك الحكم بسلطان الآخرة •
وهناك الحكم بسلطان الكفاءة والمهابة.
وكل أولئك كان لمحمد الحق الأول فيه : كان له من سلطان الدنيا كل ما للأمير المطلق اليدين في رعاياه ، وكان له من سلطان الآخرة كل ما للنبي الذي يعلم من الغيب ما ليس يعلم المحكومون وكان له من سلطان الكفاءة والمهابة ما يعترف به بين أتباعه اكفا كفؤ وأوقر مهیب.
ولكنه لم يشأ الا أن يكون الرئيس الأكبر ، پسلطان الصديق الأكبر سلطان الحب والرضا والاختيار.
فكان أكثر رجل مشاورة للرجال ، و كان حب التابعين شرطا عنده من شروط الامامة في الحكم بل في العبادة ، فالامام المكروه لا ترضي له صلاة .. وكان يدين نفسه بما يدين به أصغر أتباعه • فروي أنه كان في سفر ، وأمر أصحابه باصلاح شاة ، فقال رجل : يا رسول الله ! علي ذبحها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : علي سلخها ، وقال آخر : علي طبخها فقال عليه السلام : وعلي جمع الحطب ، فقالوا : يا رسول الله تكفيك العمل ، قال : علمت أنكم تكفونني ، ولكن أكره أن . و "
فأحسب أتميز عليكم ، أن الله سبحانه وتعالى يكره من عبده أن يراه متميزا بين أصحابه .
وابی ، و المسلمون يعملون في حفر الخندق حول المدينة ، الا أن يعمل معهم بيديه ، ولولا أنها سنة حميدة يستنها للرؤساء في حمل التكاليف الأعفی نفسه من ذلك العمل و أعفاه المسلمون منه شاکرین - وجعل قضاء حوائج الناس أمانا من عذاب الله أو كما قال : « أن الله تعالی عبادا اختصهم بحوائج الناس ، يفزع اليهم الناس في حوائجهم . أولئك الآمنون من عذاب الله ».
وقد كان أعلم الناس أن الأعمال بالنيات ، ولكنه علم كذلك و ان الأمير أذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم » فوكل الضمائر الى اصحابها والى الله ، وحاسب الناس بما يجدي فيه الحساب.
سمع خصومة بباب حجرته ، فخرج اليهم قائلا : إنما أنا بشر وانه يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض أنه صدق ، فأقضي له بذلك ، فمن قضيت له بحق مسلم فانما قطعة من النار فليأخذها أو فليتر کھا .
واليوم يكثر اللاغطون ١ بحرية الفكر ، و يحسبونها کشفا من كشوف الثورة الفرنسية وما بعدها ، ويحرمون على الحاكم أن يؤاخذ الناس بما فكروا به ما لم يتكلموا أو يعملوا ويكن في كلامهم وعملهم ما يخالف الشريعة ..
فهذا الذي يحسبونه کشفا من كشوف العصر الأخير قد جرى عليه حكم النبي قبل أربعة عشر قرنا ، وشرعه لأمته في أحاديثه حيث قال عليه السلام : « إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به ».
وزعموا كذلك أن تقديم الرحمة على العدل في تطبيق الشريعة دعوة من دعوات المسلحين المحدثين لم يسبقوا اليها وهي هي دعوة النبي العربي التي كررها ولم يدع قط الى غيرها فقال : و أن الله تعالى لما خلق الخلق كتب بيده على نفسه ، أن رحمتي تغلب غضبي ، وقال : « أن الله تعالی رفیق ، يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف و وقال : « أن الله تعالى لم يبعثني معنا ولا متعنتا ، ولكن بعثني معلما میسرا ». وروی عنه صاحبه من أصحابه انه ما خير بين حكمين الا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه خرق٢ للدين. وكان يوصي بالضعفاء و يقول لصحبه : « أبغوني الضعفاء فانما ترزقون وتنصرون بضعفائكم» ويذم الترفع ٣ على الخدم والفقراء « فما استكبر من أكل مع خادمه ، وركب الحمار بالأسواق واعتقل٤ الشاة فحلبها » . لكنه مع الرحمة بالصغير لا ينسى حق الكبير : « من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا .. . اذ ليس الانصاف حراما على الكبراء ، حلالا لمن صفر دون من كبر ، فلكل حق ولكل انصاف ، وانزال الناس منازلهم كما أمر قومه ، وهو خير شعار تستقيم عليه الحكومة وتنعكس أمور الأمم بانعكاسه.
و كان النبي الرئيس يعلم أن الرئاسة لجميع المرءو سین وليست للموافقين منهم دون المخالفين ، فيأمر قومه أن : « اتقوا دعوة المظلوم وان كان كافرا فانها ليس دونها حجاب ».
واذا قال هذا رئیس و نبي ، فانها الأولى السنن أن يتبعها الرؤساء كافة ، لأنهم لم يبعثوا لنشر الدين ومحفو الكفر كما بعث الأنبياء.
لقد كانت سنة الرئاسة عند محمد هي سنة الصداقة ۰۰
فلو استغني حكم عن الشريعة ، لاستغني عنها حكم هذا الرئيس الذي جاء بالشريعة لجميع متبعية..