عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات/المقالة الأولى/النظر الثاني عشر



النظر الثاني عشر
في سكان السمـٰوات وهم الملائكة


زعموا أنّ الملك جوهر بسيط ذو حياة وفطر وعقل، والاختلاف بين الملائكة والجن والشياطين كالاختلاف بين الأنواع، واعلم أن الملائكة جواهر مقدسة عن طلب الشهوة، وكدورة الغضب لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، طعامهم التسبيح، وشرابهم التقديس، وأُنسهم بذكر الله تعالى، وفرحهم بعبادته، خلقوا على صور مختلفة، وأقدار متفاوتة لإصلاح مصنوعاته وإسكان سمـٰواته وقال : « أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها قدر شبر إلا وفيه ملك راكع أو ساجدة ». وقال بعض الحكماء: إن لم يكن في فضاء الأفلاك وسعة السمـٰوات خلائق، فكيف يليق بحكمة الباري جلت قدرته تركها فارغة مع شرف جوهرها، فإنه لم يترك قعر البحار المالحة المظلمة فارغاً حتى خلق فيه أجناس الحيوانات وغيرها، ولم يترك جو الهواء الرقيق حتى خلق أنواع الطير، ولم يترك البراري اليابسة والآجام والجبال حتى خلق فيها أجناس الهوام والحشرات. وأمًا أصناف الملائكة فلا يعرفهم غير خالقهم كما قال تعالى : ﴿ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ﴾ غير أن صاحب الشرع أعلم ببعضهم، وبحسب وقوع الحوادث اهتدى العقل إلى بعضهم حتى قيل: ما من ذَرّةَ من ذرَات العالم إلا وقد وُكَل بها ملك أو ملائكة، وما من قطرة إلا ومعها ملك ينزل بها من السحاب، ويدعها في المكان الذي قدر الله تعالى، هِذا حال الذرّات والقطرات فما ظنك بالأفلاك والكواكب والهواء والغيوم والرياح والأمطار والجبال والقفار والبحار والعيون والأنهار والمعادن والنبات والحيوان، فبالملائكة صلاح العالم، وكمال الموجودات بتقدير العزيز العليم، ولنذكر بعض من أخبر بهم صاحب الشريعة صلوات الله عليه وسلامه وهم الملائكة المقرّبون عليه وعليهم الصلاة والسلام.

فمنهم حملة العرش صلوات الله عليهم، وهم أغز الملائكة وأكرمهم على الله تعالى تتقرّب إليهم سائر الملائكة ويسلمون عليهم بالغدو والرواح لمكانتهم عند الله تعالى وهم يسبحون بحمد ربّهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا، فمنهم من هو على صورة النسر، ومنهم من هو على صورة الثور، ومنهم من هو على صورة الأسد، ومنهم من هو على صورة البشر. قال ابن عباس رضي الله عنهما: خلق الله حملة العرش، وهم اليوم أربعة، فإذا كان يوم القيامة أمدّهم الله تعالى بأربعة أخرى. فذلك قوله تعالى: ﴿ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾وهو عظم لا يوصف، فمنهم كما تقدّم من هو على صورة ابن آدم يشفع لبني آدم فى أرزاقهم، ومنهم من هو على صورة الثور يشفع للبهائم في أرزاقها، ومنهم من هو على صورة النسر يشفع للطيور في أرزاقها، ومنهم من هو على صورة الأسد يشفع للسباع في أرزاقها.

ومنهم الروح الأمين عليه السلام، وهو ملك يقوم صفاً والملائكة كلهم صفاً لكرامته عند الله تعالى وعظمته، وإنّما سمي روحاً لأن كل نفس من أنفاسه يصير روحاً لحيوان، وقد وكله الله تعالى بإدارة الأفلاك وحركات الكواكب، وبما تحت فلك القمر من العناصر من المولدات والمعادن والنبات والحيوانات، وهو أكبر من الفلك وأقوى منه وأعظم وأشرف وأعلى من الجسمانيات، وهو قادر على تسكين الأفلاك، كما هو قادر على تحريكها بإذن الله تعالى.

منهم إسرافيل عليه السلام، وهو مبلغ الأوامر ونافخ الأرواح في الأجساد، قال رسول : « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وأصغى بالأذن حتى يؤمر فينفخ » قال مقاتل القرن الصور، وذلك أن إسرافيل عليه السلام واضع فاه على القرن وهو كهيئة البوق، ودائرة رأس البوق كعرض السمـٰوات ومن في الأرض، وهو شاخص ببصره نحو العرش، ينظر متى يُؤمر فينفخ فإذا نفخ صعق من في السمـٰوات والأرض إلا من شاء الله تعالى. قالت عائشة رضي الله عنها: قلت لكعب الأحبار رضي الله عنه، سمعت رسول الله يه يقول: « يا رب جبريل وميكائيل وإسرافيل » أما جبريل وميكائيل فسمعت بهما في القرآن، وأمًا إسرافيل فأخبروني عنه، فقال كعب: إنه ملك عظيم الشأن له أربعة أجنحة، أحدهما سد به المشرق والآخر سد به المغرب، والثالث ينزل به من السماء إلى الأرض والرابع التثم به من عظمة الله تعالى، قدماه تحت الأرض السابعة، ورأسه ينتهي إلى أركان قوائم العرش، وبين عينيه لوح من جوهر، فإذا أراد الله عزّ وجل أن يحدث أمراً في عباده أمر القلم أن يخط في اللوح، ثم أدنى اللوح إلى إسرافيل، فيكون بين عينيه، ثم هو ينتهي إلى ميكائيل صلوات الله وسلامه عليهم، فهم أعوان في جميع العالم حتى على الأركان والمولدات، ينفخون أرواحها فيها فيصير معدناً ونباتاً وحيواناً، وهي القرى التي بها صلاحها وحياتها، فسبحان الخالق البارىء المصوّر.

ومنهم: جبريل الأمين عليه السلام، وهو أمين الوحي وخازن القدس، ويقال له الروح الأمين، وروح القدس، والناموس الأكبر، وطاووس الملائكة. جاء في الخبر أن الله تعالى إذا تكلم بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون، ولا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل عليه السلام، فإذا جاءهم فزع عن قلوبهم، قالوا: ماذا قال: ربكم قالوا: الحق، فينادون الحق بالحق، وجاء في الخبر أيضاً أن النبي قال لجبريل عليه السلام: « إني أحب أن أراك على صورتك التي صورك الله فيها » فقال: إنك لا تطيق ذلك، فقال : «أرني» فواعده جبريل بالبقيع في ليلة مقمرة فأتاه فنظر إليه النبي فإذا هو قد سد الآفاق فوقع مغشياً عليه فلمًا أفاق عاد جبريل عليه السلام إلى صورته الأولى قال ما ظننت أن أحداً من خلق الله تعالى هكذا فقّال له جبريل عليه السلام: كيف لو رأيت إسرافيل إن العرش لعلى كاهله، وإنْ رجليه قد مرقتا تحت تخوم الأرض السفلى، وإنه ليتصاغر من عظمة الله تعالى حتى يصير كالوسع والوسع العصفور الصغير. وقال كعب الأحبار رضي الله عنه أن جبريل عليه السلام من أفضل الملائكة، له ست أجنحة، في كل واحد مائة جناح وله وراء ذلك جناحان لا ينشرهما إلا عند هلاك القرى ولمّا نزل على رسول ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ ﴾ سأله رسول الله قوّته، فقال: رفعت قرى قوم لوط بجناحي وصعدت بها حتي سمع أهل السماء صياح ديكتهم، ثم قلبتها وأعوانه موكلون على جميع العالم، من شأنهم إحداث القوة الغضبية والحمية لدفع الشر والإيذاء.

ومنهم ميكائيل عليه السلام، وهو موكل بالأرزاق للأجساد والحكمة والمعرفة للنفوس، قال كعب الأحبار: في السماء السابعة البحر المسجور، وعليه من الملائكة ما شاء الله، وميكائيل قائم على البحر المسجور، لا يعرف وصفه وعدد أجنحته إلا الله تعالى، ولو أنّه فتح فاه لم تكن السمـٰوات فيه إلا كخردلة في بحر، ولو أشرف على أهل السمـٰوات والأرض لاحترقوا من نوره، وله أعوان موكلون على جميع العالم من شأنهم إحداث قوة النهوض قي الأركان والمولدات وغيرها التي بها الوصول إلى الغايات وبلوع الكمال في الكائنات.

ومنهم عزرائيل عليه السلام، وهو مسكن الحركات ومفرّق الأرواح من الأجساد. قال كعب الأحبار: عزرائيل في سماء الدنيا، وخلق الله تعالى رجليه في تخوم الأرضين، ورأسه في السماء العليا، ووجهه مقابل اللوح المحفوظ، وله أعوان بعدد من يموت، والخلق كلهم بين عينيه، لا يقبض روح مخلوق إلا بعد أن يستوفي رزقه، ويتقضي أجله. وعن أشعث بن أسلم أن إبراهيم عليه السلام سأل ملك الموت عليه الصلاة والسلام فقال له: ماذا تصنع إذا كان نفس بالمشرق ونفس بالمغرب ووقع الوباء بأرض والتقى الزحفان بأخرى؟ فقال: أدعو الأرواح بإذن الله تعالى، فتكون بين اصبعي هاتين. وعن وهب بن منبه رضي الله عنه أن سليمان بن داود عليهما السلام تمنّى أن يرى ملك الموت لِيتّخذه صديقاً فلم يشعر سليمان حتى أتاه كأنّه خرج من تحت سريره، فقال له سليمان: من أنت؟ نقال : ملك الموت، فصعق سليمان عليه السلام، فلمّا رأى ملك الموت ذلك قال: اللّهم إِنّ عبدك سليمان تمناني ونزل به ما ترى، اللّهم إني أسألك أن تقويه على رؤيتي، فأوحى الله تعالى إليه أن ضع يدك على صدره، ففعل ذلك، فأفاق سليمان عليه السلام وقال: يا ملك الموت، إني أراك عظيم الخلق أو كل الملائكة مثلك؟ فقال: والذي بعثك بالحق نبيّاً إن رجلى الآن على منكبي ملك قد جاوزت رأسه السمـٰوات السبع وارتفع فوق ذلك بمسيرة خمسمائة عام، ورجلاه قد جاوزتا الثرى بمسيرة خمسمائة عام، رشو فاتح فاه، رافع رأسه، باسط يديه، فلو أذن الله تعالي أن يطبق شفته العليا والسفلى لأطبق على ما بين السماء والأرض، فقال له سليمان عليه السلام: لقد وصفت أمراً عظيماً، فقال له: كيف لو رأيتني على صورتي التي أقبض فيها أرواح الكفّار، فصار ملك الموت صديقاً له ويأتيه كل خميس ويقعد عنده إلى أن تزول الشمس، فقال له سليمان عليه السلام يوماً: ما لي أراك لا تعدل بين الناس تأخذ هذا وتدع هذا؟ فقال له ملك الموت: ليس المسؤول بأعلم من السائل، إِنّما هي كتب فيها أسماء المقبوضين تلقى إلي ليلة الصك، وهي ليلة النصف من شعبان إلى مثلها من السنة القابلة، فأما أهل التوحيد فأقبض أرواحهم بيميني في حريرة بيضاء مغموسة في المسك، وترفع إلى عليين، وأما أهل الكفر فأقبضى أرواحهم بشمالي في سرباك من قطران، وتنزل إلى سجين، وأمرهم إلى عالم الغيب والشهادة، فينبئهم بما كانوا يعملون، وعن الأعمش عن خيثمة قال: دخل ملك الموت على سليمان عليهما السلام فجعل ينظر إلى أحد جلسائه ويديم النظر إليه، فلمّا خرج ملك الموت قال الرجل: يانبي الله من كان هذا؟ قال: إِنّه ملك الموت، قال: رأيته ينظر إلى كأنّه يريدني، أريد أن تخلصني منه بأن تأمر الريح لتحملني إلى أقصى بلاد الهند، فأمر سليمان الريح بذلك؛ ففعلت، فلمًا عاد ملك الموت إلى سليمان عليه السلام قال: هل رأيتك تديم النظر إلى بعض جلسائي، قال: كنت أعجب منه لاني أمرت أن أقبضى روحه بأقصى الهند في ساعة قريبة، رأيته عندك. وقال وهب: قبض ملك الموت روح جبار من الجبايرة، فقالت الملائكة لملك الموت: لمن كنث أشد رحمة ممن قبضت أرواحهم؟ فقال: أمرت بقبض روح امرأة في فلاة من الأرض، فأتيتها وقد ولدت مولوداً فرحمتها لغربتها، ورحمت ولدها لصغره، وكونه فى فلاة لا أحد بها، فقالت الملائكة: الجبار الذي قبفت الآن روحه هو ذلك المولود، فقال ملك الموت: سبحان اللطيف بعبادة.

ومنهم الكروبيون عليهم السلام، وهم العاكفون في حظيرة القدس لا التفات لهم إلى غير الله تعالى لاستغراقهم بجمال حضرة الربوبية يسبّحون الليل والنهار، لا يفترون، وفي الخبر أنَّ لله تعالى أرضاً بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوماً محشوة خلقاً من خلق الله تعالى لا يعلمون أن الله تعالى يعصى طرفة عين، قالوا: يارسول الله أمن ولد آدم هم؟ قال: « يعلمون أن تعالى خلق آدم » قيل: يا رسول الله أَنّى غفل عنهم إبليس؟ قال: « لا يعلمرن أن االله تعالى خلق إبليس » ثم تلا قوله تعالى: ﴿ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾.

ومنهم ملائكة سبع سمـٰوات قال كعب الأحبار: هؤلاء ملائكة مداومون على التسبيح والتهليل في القيام والقعود والركوع والسجود، يسبحون الليل والنهار لا يفترون حتى تقوم الساعة، فإذا قامت الساعة يقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك، وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال: ملائكة سماء الدنيا على صور البقر، وقد وكّل الله تعالي بهم ملكاً اسمه إسماعيل، وملائكة السماء الثانية على صورة العقاب، ووكّل الله بهم ملكأ اسمه ميخائيل، وملائكة السماء الثالثة على صورة النسر، والملك الموكل بهم اسمه صاعد يابيل، وملائكة السماء الرابعة على صورة الخيل والملك الموكّل بهم اسمه صلصايبل، وملائكة السماء الخامسة على صورة الحور العين، والملك الموكل بهم أسمه كلكابيل، وملائكة السماء السادسة على صورة الولدان، والملك الموكل بهم اسمه سمخائيل، وملائكة السماء السابعة على صورة بني ادم، والملك الموكل بهم اسمه روقائيل. قال وهب: وفوق السمـٰوات السبع حجب فيها ملائكة لا يعرف بعضهم بعضاً لكثرة عددهم، يسبحون الله تعالى بلغات مختلفة كالرعد القاصف.

ومنهم الحفظة عليهم السلام، وهم الكرام الكاتبون، قال أبن جريج: هما ملكان موكلان بابن آدم أحدهما عن يميئه والآخر عن يساره، وقال بعضهم هم أربعة اثنان بالليل، واثنان بالنهار، وخامس لا يفارق ليلاً، ولا نهاراً وللكفار أيضاً حفظة لأن آية الحفظة نزلت في شأن الكفار، وهي قوله تعالى: ﴿ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ وفي الخبر أن الملك ليرفع القلم عن العبد إِذا أذنب ست ساعات، فإذا تاب واستغفر لم يكتبه عليه وإلاّ كتبه، وفي رواية أخرى: فإذا كتبه عليه وعمل حسنة، قال صاحب اليمين لصاحب الشمال وهو أمين عليه ألق هذه السيئة حتى ألقي من حسناته واحدة من تضعيف العشرة، وأرفع تسع حسنات، فيفعل صاحب الشمال. وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله قال: « إن الله تعالى وكل بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا: يا رب قبضت عبدك فلاناً، إلى أين تذهب؟ قال الله تعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يعبدونني وأرضي مملوءة من خلقي يطيعوني اذهبا إلى قبر عبدي، فُسبحاني وكبراني وهللاني واكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة.

ومنهم المعقبات عليهم السلام، وهم الملائكة الذين ينزلون بالبركات ويصعدون بأرواح بني آدم، وأعمالهم بالليل والنهار، فإذا واظب الإنسان على الصلوات في أوَّل أوقاتها، فإذا صلى الفجر أتاه ملائكة النهار وجدوه مصلياً وفارقه ملائكة الليل وتركوه مصلياً، وهكذا إذا صلى المغرب وما بين الصلاتين من الذنوب تكفرها الصلاة، وإذ كان كذلك فلا يرفعون له غير الحسنات، ويحقق أمر هذه الملائكة ما روي هن النبيّ أنه قال: « يقول الله تعالى: يا ابن ادم ما تنصفني أتحبب إليك بالنعم وتمقت إلي بالمعاصي خيري إليك نازل وشرّك إلي صاعد ولا يزال ملك كريم يأتبنى عنك في كل يوم وليلة بعمل قبيح، يا أبن آدم لو سمعت وصفك من غيرك وأنت لا تعلم من الموصوف لأسرعت إلى مقته ».

ومنهم منكر ونكير عليهما السلام؛ وهما ملاكان فظان غليظان يسألان في القبر كل أحد عن ربّه ونبيه، عن أنس بن مالك رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : « إِنّ العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه وهو يسمع قرع نعالهم أتاه ملكان، فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل يعني محمد ؟ فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدل بمقعد من الجنة، فيراهما جميعاً، وأمًا المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول فى هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري أقول ما يقول الناس، فيقال له لا دريت ولا تليت ويضرب بمطراق من حديد ضربة فيصيح صبحة يسمعها من يليه غير الثقلين ».

منهم السياحون عليهم السلام: وهم صنف من الملائكة يحبون مجالس الذكر فإذا رأوا مجالس الذكر احتووا عليها، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله أنه قال: « إن لله تعالى ملائكة سياحون في الأرض فضلا عن كتّاب الناس، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تعالى ينادون هلموا إلى بغيتكم، فيجيئون بهم إلى السماء الدنيا، فإذا انصرفوا يقول الله تعالى على أي شيء تركتم عبادي يصنعونه؟ فيقولون تركناهم يحمدونك ويمجّدونك ويقدسونك، فيقرل الله تعالى: وهل رأوني؟ فيقولون لا فيقول: كيف لى رأوني؟ فيقولون: لو رأوك لكانوا أشد تسبيحاً وتحميداً وتمجيداً، فيقول لهم: من أي شيء يتعوّذرن؟ فيقولون: من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون لا، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشد هرباً منها وأشد تعوّذا، فيقول: أي شيء بطلبونه؟ فيقولون: الجنّة فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: كيف لو رأوها؟ فيقولون: لو رأوها لكانوا أشدّ طلباً لها، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقولون: كان فيهم فلان، لم يردّهم إنما جاء لحاجة فيقول: هم القوم الذين لا يشفى بهم جليسهم ».

منهم هاروت وماروت هما ملكان معذبان ببابل عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما خرج آدم من الجنّة عرياناً نظرت إليه الملائكة. وقالت إلهنا هذا آدم بديع فطرتك، أقله ولا تخذله، فمر بملأ من الملائكة، فوبّخوه على نقضه عهد ربّه، وكان ممن وبّخه يومئذ هاروت وهارورت، فقال آدم: يا ملائكة ربي ارحموا ولا توبخوا، فذلك الذي جرى علي كان قضاء ربي فأبلاهما الله تعالى حتى عصيا ومنعا من الصعود إلى السماء، فلمّا كان أيام إدريس عليه السلام صارا إليه، وذكرا له قصتهما، ثم قالا له: هل لك أن تدعو لنا حتى يتجاوز عنّا ربّنا؟ فقال إدريس عليه السلام: كيف لي العلم بالتجاوز عنكما؟ قالا: ادع لنا، فإتن رأيتنا فهو الاستجابة، وإن لم ترنا هلكنا، فتوضاً إدريس عليه السلام وصلى ودعا الله تعالى، ثم التفت فلم يرهما، فعلم أن العقوبة قد حلت بهما، واختطفا إلى أرض بابل، ثم خيّرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا، فهما مسلسلان معذيان في بئر بأرض بابل منكسين إلى يوم القيامة.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله قال: « أشرفت الملائكة على أهل الدنيا فرأوهم يعصون الله فقالوا: يا ربنا ما أقل معرفة هؤلاء بعظمتك، فقال الله تعالى: لو كنتم في سلاحهم لعصيتموني، قالوا: كيف يكون هذا ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك؟ فقال: اختاروا ملكين، فاختاروا هاروت وماروت ثم أهبطا إلى الأرض وركبت فيهم شهوات بني ادم ومثلث لهما، فما عصما حتى واقعا المعصية فخيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فنظر أحدهما إلى صاحبه، فقال له: ما تقول؟ فقال: أقول إنّ عذاب الدنيا ينقطع وعذاب الآخرة لا ينقطع، فاختارا عذاب الدنيا » ، فهما اللذان ذكرهما الله تعالى في قوله: ﴿ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ ﴾ وفي رواية أخرى قال لهما: إني أرسل رسولاً إلى الناس، وليس بيني وبينكما رسول انزلا ولا تشركا بي شيئاً ولا تقتلا ولا تسرقا، قال كعب: فما استكملا يومهما الذي نزلا فيه حتى أتيا ما حرم عليهما.

ومنهم الملائكة الموكلون بالكائنات لإصلاحها ودفع الفساد عنها، وقد وكّل بل فرد من أفرادها، من الملائكة ما شاء الله تعالى، وروى أبو أمامة رضى الله عنه عن رسول الله أنه قال: « وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لا يقدر عليه من ذلك بالبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب الذباب عن قصعة العسل فى اليوم الصائف » وأمًا المائة والستّون فأمر عرفه النبيّ بنور النبوّة ولكنًا نمثل جهة التغذي، فإنّه أمر مشترك بين الحيوان والنبات، وأنت تقيس عليه غيره من الجهات.

فنقول إنّ جزءاً من الغذاء لا يصير جزءاً من المغتذي حتى يعمل فيه عدّة من الملائكة، ومعنى التغذي أن يصير جزء من الغذاء جزءاً من المغتذي، فَإِنّ الغذاء جماد لا يصير دما ولحماً وعظماً بنفسه، كما أنّ البر لا يصير طحيناً وعجيناً ورغيفاً حتى تعمل قيه الصناع، فصناع الظاهر أناس وصناع الباطن الملائكة، فقد أسبغ الله عليك نعمه ظاهرة وباطنة، وأقول أوّلا لا بد من ملك يجذب الغذاء إلى جوار اللحم والعظم، إن الغذاء لا يتحرك بنفسه، ولا بد من ثان يمسكه حتى تعمل فيه الحرارة، ثم لا بد من ثالث يلبسها صورة الدم ثم، لا بد من رابع يدفع القدر الفاضل عن الغذاء، ثم لا بد من خامس يميّز العظم واللحم والعروق وما يليق بها ثم لا بد من سادس يلصق ما اكتسب صورة العظم بالعظم وما اكتسب صورة اللحم باللحم ثم لا بد من سابع يراعي المقادير في الإلصاق فيلحق بالمستدير ما لا يبطل استدارته، وبالعريض ما لا يبطل عرضه، وبالمجوف ما لا يبطل تجويفه، ويحفظ على كل واحد مقدار حاجته ويدفع الزائد فإنّه لو جمع على الأنف من الغذاء مقدار ما يجمع للفخذ لتشؤهت الصورة، بل ينبغي أن يسوق إلى الأجفان رقيقها وإلى الحدقة صافيها وإلى الأفخاذ غليظها وإلى العظم صلبها مع مراعاة القدر والشكل وإلا بطلت الصورة، فلو لم يراع هذا الملك هذا القسط فساق الغذاء إلى جميع البدن، ولم يسق إلى رجل واحدة مثلاً لبقيت تلك الرجل كما كانت في أيام الصغر وكبر جميع البدن فترى شخصاً في ضخامة رجل له رجل كأنّها رجل صبي ولا ينتفع بنفسه البتة، فمراعاة هذه الهندسة مفوّضة إلى هذا الملك، فهذا حال بعض الملائكة الموكلين ببدن بني آدم، نهم مشتغلون بك وأنت في النوم أو تتردد في الغفلة وهم يصلحون بدنك ﴿ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ وهكذا حال جميع الكائنات، فما من شيء إلا وقد وكل الله به ملكا أو ملائكة، والله الموفق.