عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات/المقالة الثانية/النظر الثاني
في كرة النار
النار جرم بسيط، طباعه أن يكون حارّا يابسا مكانه تحت كرة الفلك لا لون لها، زعموا أن النار الصرف لا يدركها البصر لأنا نرى الشمع إذا اشتعل كانت شعلته منفصلة عن الفتيلة ولا شك أن الحرارة عند اتصال الفتيلة أقوى، وأيضا إن كير الحدادين إذا بالغوا في نفخه صار هواء، بحيث إذا دنا منه شيء يحترق ولا ضوء له، فعلم أن النار القوية الصرف لا لون لها، والنار هي فوق العناصر في غاية القوة والخواص، فلذلك لا تدركه الأبصار، انظر إلى حكمة الباري كيف جعل كرة الأثير دون فلك القمر كيما تحترق بحرارتها الأدخنة الغليظة الصاعدة، وتلطف البخارات العفنة ليكون الجو أبدا شفافاً، وجعلها طبقة واحدة شديدة الحرارة، محيلة لكل ما وصل إليها من الأبخرة والأدخنة ناراً صرفا لما ذكرنا من الحكمة وخلقها غير ملونة إذا لو كانت مضيئة كالنار التي عندنا لمنعت الإبصار عن رؤية عالم الأفلاك ثم حجبها بكرة الزمهرير ليمنع برد الزمهرير رهج الأثير عن الحيوانات والنبات، وإلا لأدى إلى هلاكها، ثم أي شيء أعجب من خروج هذا الجرم النوراني من الحديد والحجر الكثيفين، أو من الشجر الأخضر الذي يخالف طبيعة النار، أو من الحرارة والضياء اللتين يلازمانها ثم من غلبتها وسلطانها على الأجسام حتى على الصخرة الصماء، فتجعلها ترابا، وعلى الحديد فتذيبه، وإذا تفكرت في المصابيح المتعلقة بها للخلق سيما لنوع الإنسان وجدت فهم الإنسان عن ضبطها قاصرا ولهذا قال تعالى: ﴿ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ فسبحان ما أعظم شأنه.
ومن النيران العجيبة نار خلقها اللّه لقبول القرابين تنزل من السماء تأكل القربان المقبول، وهي التي أكلت قربان هابيل دون قربان قابيل، وكان ذلك الامتحان في بني إسرائيل أيضا إذا أرادوا امتحان إخلاصهم تركوا القربان في بيت لا سقف له ونبيهم يدخل البيت ويدعو اللّه تعالى، والناس خارج البيت، فينزل من السماء نار بيضاء لها دوي محيط بالقربان فتأكله، وهي التي أخبر اللّه تعالى عنها حيث قال: ﴿ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ﴾ فهذه نار الرضا، فسبحان من جعلها مرة للرضا و مرة للسخط.
ومنها نار جعلها اللّه تعالى لسخطه كنار أصحاب الجنة التي ذكرها اللّه تعالى، وهو أنه كان لرجل صالح بستان إذا كان يوم قطافه يطعم من جاء من المساكين، فلما مات عزم أولاده على أن لا يعطوا المساكين شيئاً يقطفوها سرّا، فلما ذهبوا إليها وجدوها قد احترقت، ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ إلى قوله: ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ﴾.
ومنها نار الصاعقة وهي نار تسقط من السماء تحرق أي جسم صادفته وتنقد في الصخرة الصماء لا يرد عليها إلا الماء، ذكروا أنها ربما تحجرت فتصير ألماسا فقطاع الألماس منها، واللّه تعالى أعلم بذلك.
ومنها نار الحرتين، كانت ببلاد عبس، فإذا كان الليل تسطع من السماء، وكانت بنو طيئ تنفش بها إبلها من مسير ثلث، وربما بدر منها عبق، فيأتي كل شيء بقربها فتحرقه، وإذا كان النهار كانت دخانا، فبعث اللّه تعالى خالد ابن سنان العبسي وهو أوّل نبي من بني إسماعيل فاحتفر لها بئراً وأدخلها والناس ينظرون حتى غيبها، وقصتها مشهورة.
في الشهب وانقضاض الكواكب
زعموا أن الدخان إذا صعد الهواء ولم تصبه برودة حتى يصل إلى الطبقة النارية، فإن لم تنقطع مادته عن الأرض وكان في الدخان دهنية تشتعل النار فيه، ويصير كله نارا، ويرجع إلى مادة الدخان، مثاله: أن السراج إذا طفئ وجعل تحت شعلته سراج آخر، فإذا وصل دخان المنطفئ إلى الشعلة ترجع النار عن الشعلة وتوقد السراج المنطفئ، وأما إذا كانت مادته لطيفة تأخذها النار وتصير نارا صرفا، وقد ذكرنا أن النار الصرف لا ترى وإن كانت المادة كثيفة، فإذا أخذت النار فيها تبقى زمانا، فترى منها أشكالا بحسب مادة الدخان وهيئتها، فربما ترى كوكبا ذا زاوية على شكل تنين أو على شكل حيوان ذي قرنين، أو على شكل أعمدة مخروطة، وربما يرى على شكل كرة تتدحرج على شكل الفلك، وربما كانت المادة الدخانية كثيرة، فإذا أخذت النار فيها اشتعلت اشتعالاً عظيما حتى أضاء الهواء منها، واستنار وجه الأرض منها، واللّه الموفق للصواب.
خاتمة: من الحكماء من شبه تعلق النفس الإنسانية ببدنه إذا صار مستعدّا لقبول النفس بتعلق النار بالفتيلة إذا صارت مستعدة لذلك، وكما أن إبطال هذا التعلق سهل بنفخة أو غيره، فكذلك إبطال تعلق النفس بالبدن سهل بطريق سهل الاحترام، وكما أن السراج ينطفيء بانتهاء الدهن، فكذلك النفس تفارق عند انتهاء الرطوبة الغريزية بحدوث الحمى وغيرها، والإنسان يعيش في مكان لا ينفطئ فيه النار، لذلك إذا أراد أصحاب المعادن والخبايا دخول فتق أو مغارة أخذوا شعلة على رأس خشبة طويلة وقدموها، فإن بقيت الشعلة دخلوها، وإن انطفأت لم يتعرضوا لها وتركوها. والمصباح عند ذهاب دهنه وانطفائه ينتعش مرتين أو ثلاث انتعاشا ساطعا ثم يخمد، كما أن الإنسان قبيل موته يزيد قوة وتسمى راحة الموت، ولم يكن بعد ذلك لبث، واللّه الموفق للصواب.