عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات/المقدمة الثالثة



المقدمة الثالثة
في معنى الغريب


الغريب كل أمر عجيب قليل الوقوع مخالف للعادات المعهودة والمشاهدات المألوفة، وذلك إِمّا من تأثير نفوس قوية، وتأثير أمور فلكية، أو أجرام عنصرية، كل ذلك بقدرة الله تعالى وإرادته.

فمن ذلك معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين كانشقاق القمر، وانفلاق البحر، وانقلاب العصا ثعباناً، وكون النار برداً وسلاماً، وخروج الناقة من الصخرة الصمّاء، وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، ومنها كرامات الأولياء الأبرار، فإِن تأثير نفوسهم تتعدّى إلى غير أبدانهم حتى يحدث عنها انفعالات غريبة في العالم فيشفى المريض باستشفائهم وتسقى الأرض باستسقائهم، وربما يحدث الخسف والزلزلة والطوفان والصواعق بدعواتهم، ويصرف الوباء والموتان باستدعائهم، وتبدل لم نفرة الطيور بالهدوء والوقوع وصولة السباع وشدتها باللين وخضوع.

ومنها أخبار الكهنة والكهانة اندرست بمبعث النبي وكانوا يأتون الجاهلية بأمور غريبة زعموا أنْها كانت بواسطة اختلاط نفوسهم بنفوس الجن، ومنها الإصابة بالعين، فإن العائن إذا تعجب من شيء كان تعجبه مهلكاً للمتعجب منه بخاصية لنفسه لا يوقف عليها، ومنها اختصاص بعض النفوس من الفطرة بأمر غريب لا يوجد مثله لغيرها، كما ذكر أنَّ في الهند قوماً إذا اهتموا بشيء اعتزلوا عن الناس وصرفوا همتهم إلى ذلك الشيء، فيقع على وفق اهتمامهم.

ومن هذا القبيل ما حكي أنّ السلطان محمود غزا بلاد الهند، وكان فيها مدينة كل من قصدها مرض، فسأل عن ذلك، فقالوا: إن عندهم جمعاً من الهند يصرفون هممهم على ذلك، فيقع المرضى على وفق اهتمامهم، فأشار إليه بعض أصحابه بدق الطبول ونفخ البوقات الكثيرة ليشوش همههم ففعلوا ذلك، فزال المرض، واستخلصوا المدينة.

ومن هذا القبيل ما ذكر أن رجلاً فيلسوفاً في زمن خوارزم محمد بن تكش جاء من بلاد الهند إلى خراسان فأسلم، وكان يقال له داناي هند يستخرج طالع كل إنسان أراد حتى جربوه بالطوالع الرصدية فلم يخط شيئاً، وزعم أن ذلك له بواسطة حساب يعرفه، فرفع أمره إلى السلطان، فقال له: هل تقدر على استخراج غير الطوالع؟ قال: نعم، قال: أخبرني عمًا رأيت البارحة في نومي، فرجع إلي نفسه وحسب ثم قال: رأى السلطان أنّه في سفينة، وبيده سيف، فقال السلطان: لقد أصاب، لكنًا لا نقنع بهذا القدر لأني على طرف جيحون كثيراً ما أركب السفينة، والسيف لا يفارقني، فربما قال اتفاقاً، فامتحنه مرّة أخرى فأصاب، فقرّبه من نفسه، وكان يستعين به في أموره.

ومن ذلك أمور سماوية كظهور الكواكب ذوات الأذناب، والتماثيل والشانين، وانقضاض شهب يستضيء الجو منها، ومنها سقوط جسم من الجو ثقيل كما ذكر الشيخ الرئيس أنه سقط في زمائه بأرض جوزجانان جسم كقطعة حديد قدر خمسين منّاً مثل حبات الجاورش المنضمة، فأرادوا كسرها، فما كان يعمل فيها الحديد البتة.

ومنها سقوط ثلج أو برّد في غير أوانه كما حكي عن بعض شيوخ قزوين أنّه أتاهم في زمن المشمش برد عظيم كل واحدة على قدر الجوزة، فأهلك كثيراً من الحيوان والنبات، والمشمش لا يدرك بقزوين إلا في الصيف. ومتها سقوط أحجار من الحديد والنحاس في وسط الصواعق، وذلك يوجد بلاد الترك، وربّما يوجد بأرض جيلان أيضاً. وحكى أبو الحسن علي بن الأثير الجزري فى تاريخه أنه نشأت بإفريقية في سنة إحدى عشرة وأربعمائة سحابة شديدة الرعد والبرق، فأمطرت حجارة كثيرة وأهلكت كل من أصابته. وأغرب من هذا ما حكاه الجاحظ أنه نشأت سحابة بأيدج وهي مدينة بين أصبهان وجوزستان سحابة طحيا تكاد تمس رؤوس الناس، وسمعوا منها كهدير الفحل، ثم إنها دفعت بأشد مطر ثم استسلموا للغرق، ثم دفعت بالضفادع والشبابيط العظام السمان، والشبوط نوع من السمك، فأكلوا وملحوا وادّخروا كثيراً.

ومن ذلك أمور أرضية مثل صيرورة اليبس بحراً كأرض يونان، فإنها كانت بلاداً معمورة والآن استولى الماء عليها، وصيرورة البحر يبساً كأرض ساوة، فإنها كانت بحراً والآن لا يرى فيها أثر البحر.

ومنها ما زعموا أنّه يصعد من الأرض بخار لا يصيب شيئاً من الحيوان والنبات إلا جعله حجراً صلداً، وآثار ذلك ظاهرة بانضا من أرض مصر، ومثله شم بأرض قزوين، ومنها وقوع خسف بناحية من الأرض، وخروج ماء أسود منها، وقد شوهد ذلك في كثير من النواحي، منها مدينة عنجرة بأرض الروم، وقرية دركزين من أعمال همدان، ومنها زلزلة تبقى شهراً أو أكثر ببعضي النواحي، وقد شوهد ذلك بأرض نيسابور والري، وحدّثني أبو القاسم الرافعي قدّس الله روحه أنه شاهد في هذه الزلزلة سقفاً قد أنشق حتى رأى الكواكب من جانبه، ثم عاد إلى حاله ولم يظهر عليه أثر الشق.

ومنها ظهور معدن ببعض الأصقاع لم يعرف قبل ذلك من الزمان كصهور معدن الذهب عند الإسماعيلية.

ومنها ظهور نبت بأرض لا عهد للناس بوجوده هناك كظهور الترنجبين بأرض ساوة. ومنها تولد حيوان غريب الشكل لم ير مثله، كما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه رأى باليمن إنساناً من وسطه إلى أسفله بدن امرأة، ومن وسطه إلى فوق بدنان مفترقان بأربع أياد ورأسين ووجهين، وهما يأكلان ويشربان ويختصمان ويصطلحان، وذكر أن امرأة بكلوسامان من قرى بلخ ولدت شخصاً له نصف بدن ونصف رأس، ويد واحدة ورجل واحدة على صورة النسناس الذي يوجد في غياض الشجر باليمن، ثم حملت مرّة أخرى فولدت بدناً له رأسان، وزعم الحكماء أنهم وجدوا ثلاثة معان من الأمور غريبة، وقد وضعوا لكل معنى اسماً، وأحد هذه المعاني: الآثار النفسانية والانفعالات التابعة للتصورات من غير واسطة أمر طبيعي، فاستعمال تلك التصورات في الخير معجرة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وكرامة من الأولياء عليهم الرحمة والرضوان واستعمالها في الشر سحر من النفوس الشرية، وثانيها: أمور غريبة تحدث من قوى سماوية وأجسام عنصرية مخصوصة بهيئات وأشكال وأوضاع تسمّى الطلسمات، وثالثها: أمور غريبة تحدث من أجساد أرضية كجذب المغناطيس الحديد، وتسمّى النيرنجات، وهذا هو القول الكلي في الأمور الغريبة: وسيأتي الككلام في جزئياتها إن شاء الله تعالى.