غابة الحق (1881)/اليقظة


الفصل الثامن

اليقظة

وإذ أتم الفيلسوف كلامه حنى رأسه لدى المنتصب الملوكي، ونزل من فوق الصخرة، وبينما كان السكوت يحكم في المرسح لمعت بارقة تخطف الأبصار وأعقبها رعد يزعزع أركان القلوب، فسقطت على الأرض ارتياعًا ودهشة. وبعد زوال هذه الوثبة الجوِّيَّة نهضت من سقطتي لأرى ماذا جرى، فغشَّى نواظري ضباب التحير، ولبثت عديم الحركة؛ لأنني لم أعد أشاهد شيئًا ممَّا كان إذ وجدت نفسي منفردًا في برِّيَّة منخفضة لا نبات فيها ولا حيوان.

وعندما أَجَلْتُ نظراتي في أقطار هذه الفلاة المقفرة أخذتني رعدة الخوف والهلع، وشملتني شمول الكمود والكآبة، وعدت حائرًا في أمري؛ فسكوت الموت كان يحوم على هذا القفر الوجوم، ولم يوجد فيه من الكائنات سوى أتربة تبعذِرها أرجل الرياح. وحصباء توهم فراش بحرٍ جاف، وصخور تشهد على قساوة الزمان، وكان الشفق كالحديد المحمي يتطفَّا على كور المغرب بمنظر يستفز الكروب ويستهز الرعشة، ولم يكن مسموعًا في هذا الغور الراسخ في حضن الوحدة سوى تعب الْبُوم وصراخ ابن آوي، وكلما كنت أثبت تأمُّلي كان يتزايد في باطني حراك الكمد والكرب، وكلما أطلقت أنظاري إلى السماء لأنال تعزية رددتها ممتلئة من البهتة والجمود؛ لأنها ما كانت ترى سوى سحابات متوقِّدة تندفع من الجنوب إلى الشمال، طارحة على الأرض نارًا ودُخَانًا، وبينما كنت أردد أفكاري في هذا المشهد الصامت وأسرح نواظري في هذه البيداء المجدبة، وإذا تَلٌّ مرتفع يلوح لي فسرت إليه وصعدت على قمته ووجهت وجهي إلى جهة المشرق حيثما كان القفر يسبح تحت أعيني في تيار الظلام، وإذ أعطيت صغيًا سمعت صوتًا ينادي من بعيد هكذا: هذه برية الشهباء فلتبشر بقدوم الخير.

فقلت في نفسي: من أين سيأتي الخير إلى هذه القفار المجدبة والساقطة من أعين العناية منذ ألف سنة فأكثر؟ إن في هذه البشرى ضربًا من المحال، ثم التفتُّ إلى جهة الغرب لعدم اهتمامي بما سمعته، وإذا مدٌّ من الاخضرار يتموج من جانب الأفق وكأنه يهم أن يندفق على كل تلك القفار اليابسة، فشملني العجب للحال وأخذت أشخص في هذا المظهر العجيب ذي الجمال الغريب، وبعد أن تفرَّست قليلًا سمعت صوتًا يدوِّي من خلال الغمام وينادي قائلًا: أبشري أبشري يا برية أرام القديمة، وافرحي وابتهجي يا شهباء سوريا، فها العناية الملوكية مقبلة إليك، والمراحم السلطانية هاجمة عليك؛ فلا عاد يفترسك المحل أو يهتك بك الإهمال. فلما سمعت هذا النداء الكريم طفقت أرجف من شدة سروري وفرحي، وقلت: لا شك ولا ريب في قدوم الخير والرخاء إلى هذه الديار المستعدَّة لقبول كل إصلاح؛ لأنها قد وقعت تحت أنظار عناية حضرة ذي الشوكة والاقتدار عبد العزيز خان دام ملكه مدى الدوران، وقد تشرفت بنعمته وجودته. ومما شملني من الاندهاش أثبت نواظري في متن الأفق، وبينما كنت مشخصًا فيه رأيته قد استحال إلى بحر من النور الساطع وأخذ يتلألأ كالشمس. الضاحية في السماء الصاحية، وإذ لم يعد يمكنني النظر إلى هذا المشهد المنير أغمضت أعيني على غشاوة الانبهار، وأخذت أضرب في أودية الهواجس، ولما فتحت أجفاني وجدت نفسي مضجعًا على فراش النوم تحت سماء اليقظة.