غابة الحق (1881)/المحاكمة


الفصل السابع

المحاكمة

ففعل القائد حسب الأمر، وأسرع الفيلسوف وصعد على قمة الصخرة ووجَّه خطابه إلى ملك العبودية، وأنشأ يقول: أصغي أيتها العبودية لكلمات فمي، وأنصتوا يا جميع قواد الشر، هو ذا ملك التمدن قد انتصب على عرش جلاله، فلتنخفض دولة التوحش، وها ملكة الحكمة قد أبدت صوتها، فلتخرس أفواه الجهالة. أين شوكتكم يا مستعبِدي البشر وأسِنَّة الحرية لمعت في الآفاق؟ أين صولتكم يا عاملي الظلم وألوية العدل خفقت في الأعالي؟ زولوا فقد دهمتكم الغلبة، حولوا فقد أخذتكم الرِّعدة. ها قد هبَّت بكم عواصف القضاء المبرم إلى غاية الحق حيثما تصدح بلابل العدل وتتراقص أغصان الأمان تحت سماء التمدن العظيم؛ فلا عاد لسيوفكم مواقع ولا لنبالكم مرامٍ.

العبودية

فاعلم يا ملك العبودية أن جميع شرائعك وأحكامك التي كنت توسوس بها في صدور الناس قد سقطت الآن مبانيها، ودثرت أصولها، ولم يبقَ لها مدخل في جميع العالم، وكل ملوك الأرض قد نهضوا ضدها، ولكن لم يزل بعض الناس إلى الآن متمسكًا ببقية خبيثة من نواميسك التي قد نشرتها بينهم منذ ثلاثة آلاف وخمسمائة واثنتين وسبعين سنة، وهي استعباد بني البشر.

فمن المعلوم لدى العموم أن الطبيعة البشرية قد خُلِقَتْ في كمال الحرية الأدبية وأن خالقها ذاته — عز وجل — قد منحها هذه السيماء الجليلة عندما أطلق لها عنان الاختيار بين الماء والنار، واضعًا فيها معرفة الخير والشر ومبدعًا في سجيتها حركة الانعكاف على هذا والانكفاف عن ذاك. فمن أين يسوغ لبني هذه الحرية الإنسانية أن يُبيحوا تمزيق جلبابها بأنياب الأغراض لبعضهم بعضًا؟ وكيف قد أمكن للإنسان منذ القديم أن يستحسن هذه الزلة القبيحة لدى الخالق والمخلوقات وأن يسلك في شأنها رغمًا عن كراهية نفس غريزيته لهذا السلوك؛ لأنه إذا دخل كلٌّ من الناس إلى مخدع ضميره إنما يرى ذاته نافرًا كل النفار عن ارتباطه بعبودية غيره، ومتوجعًا كل التوجع لمن دفعته الأقدار في فخاخ هذه العبودية الأدبية الخاصة، زيادة على تلك الطبيعة العامة السابق ذكرها. وليس الإنسان وحده ينفر طبعًا عن هذه الغلبة بل أكثر الحيوانات أيضًا، على أنه متى عارض حركة أميالها مانعٌ ما ظهرت عليها حالًا دلائل الانزعاج وأشائر المدافعة، فلا يبرح الأسد الواقع في القنص يزأر ويضج حنينًا إلى الغاب والعرين، ولا يزال النمر الموثَّق بالسلاسل يصرخ ويعج رغبة في الوثوب إلى أعالي الجبال، ولا يفتر الكلب يَهِرُّ وينبح طالما يكون مسجونًا، ولا ينفك الطائر المأسور في القفص يخفق ويصيح شوقًا للطيران إلى رءوس الشجر وهلم جرًّا.

فإذا كان الحيوان العديم النطق لا يحتمل مضض الرق، ولا يصبر على ضنك الاستعباد، فكم يكون الإنسان الناطق خليقًا بعدم احتمال هذه المشاقِّ عندما يقع في شِراكها، وجديرًا بطلب المناص. وكم يكون خشنًا بربريًّا من يهجم على باعة الأسرى ليتعاطى بيع أو شراء أشباهه في الطبيعة وعدلائه في الحد والرسم؟! وكيف يمكن الإنسان الطبيعي أن يشاهد إنسانًا نظيره مغلولًا بقيود التعبُّد والأسر ولا يجم غضبًا ويؤخذ بخواطر الشفقة والحنانة، لا سيما إذ يرى ذلك العبد الوجع القلب والمنكسر الخاطر مرتعدًا إزاء مولاه الأليم القاسي كالفريسة بين مخالب الوحش الضاري؟! وربما أفضت قساوة ذلك المولى إلى ربط هذا المخلوق بالحبال وجلده بالسياط تحت مواقع العنف الشديد بدون أدنى رفق أو خشية آثام أيَّان دعا الداعي، وربما كانت هذه الحالة حتى إن هذا المسكين يعود صارخًا ولا مجاوب مستجيرًا ولا مجير مستغيثًا ولا منقذ.

فهل يوجد قلب مستقيم لا يلعن عادةَ اتِّخاذ العبيد بين الناس حينما يعاين إنسانًا يحوي كل الأخلاق الإنسانية متِّخذا له أسيادًا من جنسه ومقدِّمًا كل حياته ضحية في هياكل أوامرهم المظلمة حيثما لا يجازى بسوى الضرب والشتم واللعنات، فلا يأكل خبزه الدنيء إلا بالتنهد والحسرات، ولا يشرب ماءه العكر إلا بالدموع والعبرات، ولا ينام على فراشه الحجري إلا قلقًا بالأوجاع والأوصاب، وربما لا تكاد أهداب أجفانه أن ترتجف بمرور نسيم النعاس إلا ويهب من مضجعه هبوب العاصفة إذ يتخيل رنين صوت في أذنه أو هفيف وسواس ظانًّا أن سيده يدعوه لقضاء حاجة، أو سيدته أتت تنبهه ليأتي فيغير لها رفائد الولد أو يلهيه عنها إذا كان باكيًا لكي يمكنها استيفاء لذة النوم، وهكذا فلا يعطس أنف الصباح أو يسيل مخاط الشيطان إلا على يقظته.

فهات أعرِب لنا يا أيها السيد عن الامتياز الطبيعي الحاصل بينك وبين عبدك البائس، وقل لنا ما هو الفرق بينكما من حيث الشعور والإحساس. أخبرنا، هل تظن أن جلده الأسود لا يشعر بالفواعل عليه كنفس جلدك الأبيض؟ وهل تزعم أن شفاهه الغلاظ لا ترتاح إلى مناولة الأطعمة اللذيذة كعين شفاهك الرقاق؟ وهل تخال أن عينه المستديرة لا تشتاق إلى التمتع بطيب الكرى كذات عينك المستطيلة؟ وهل تفترض أن أنفه الأفطس لا يُحس بالمشمومات الذكية نظير أنفك الأقنى؟ وبالإجمال نقول: هل تتوهم أن وجوده في بيتك تحت سلطان دراهمك التي بها اشتريته يجعله غريبًا عن جنسك ومميزًا عن نوعك وبعيدًا عن حواسك؟ حاشا وكلَّا. إن جميع أعضاء هذا الأسير وطبيعته هي نظير أعضائك وطبيعتك، ولا يوجد بينكما أدنى اختلاف بسوى جلده الأسود الذي ربما يكون زاهيًا ببياض الأفعال، وبجلدك الأبيض الذي ربما يكون مدنسًا بسواد الأعمال.

فمن أين أبيح لك شراء الإنسان وعذابه وقهره يا أيها الظالم العنيت؟ وكيف تمكنك الطبيعة الإنسانية من مجاوزة حدودها وشرائعها بمثل هذه الأفعال الشريرة؟ ألم تتحرك في باطنك جوارح الشفقة عندما يكون هذا الغريب المسكين واقفًا بين يديك القاسيتين مرتعدًا مذعورًا وعيناه مغرورقتان بالدموع، ويداه مبسوطتان لديك بكل ذل وهوان عسى يتقبلان منك العفو والرأفة على ذنب ربما يكون حسنة؟ أطلِق هذا العبد الغريب فلا يسوغ لك استعباد الجنس البشري. أطلِق هذا العبد الغريب فلا عاد يحتمل أثقال تهافُتِك ومضض خدمتك. أطلِق هذا العبد الغريب فقد بُحَّ حلقه من الصراخ وذبلت عيناه من كثرة الرجاء، أطلِق هذا العبد الغريب فقد تناثرت لحومه من مقارعك وخفقت قواه من أحمالك، أطلِق هذا العبد الغريب فقد أجمع على إطلاقه كل ممالك العالم، وها رائحة بارود أميريكا منتشرة إلى الآن في آفاق المسكونة مما أثاروا من الحروب على مستعبِدي البشر، أطلِق هذا العبد الغريب أو يطلق ذاته رغمًا عنك آخذًا الإسعاف من جميع الناس ومساعدًا من نفس الحكومة المدنية بعد أن يستعطيك أجرة المثل. أطلِق هذا العبد الغريب ولا تقل إن وجوده عندي خير له وماذا يعمل خارجًا؟ لأن الله يدبره، وحسبه امتلاك بغية الطبيعة. أو خذه مستأجرًا وارفع عنه ثقل سلطانك، أطلِقه أطلِقه فلا عاد يمكنك استئسار الإنسان، وسوف ترى أن نفس حضرة قيل مصر سيبرز أمرًا بإبطال اقتناص العبيد من أعماق أفريقيا، وسيلاشي هذه العادة المذمومة من بلاده حسبما يقتضي اجتهاده بتقديم التمدن وتمهيد سبل خطوره مقتديًا بولي نعمته جلالة السلطان العثماني الأعظم ذي الشوكة والاقتدار عبد العزيز خان، دام ملكه مدى الدوران.

وإذ كان الفيلسوف مسترسلًا كلامه هذا كان الجوق القائم ورائي يعوج ويموج بين الطرب والكرب ضاجًّا بأصوات السلب والإيجاب، فكان هذا يقول: نعم، إن العبودية لا تُحتمل ولا يوجد أصعب على الطبع البشري منها ولا أشنع من عادة اتخاذ العبيد. وذا يقول: لا، لا، ليس الأمر كذلك لأن الله خلق مولًى وخلق عبدًا؛ إذ جعل إناءً للكرامة وإناءً للإهانة، والكتاب نفسه قد أمر بطاعة العبد لمولاه وصرح بدعوى هذا ودعوى ذاك؛ فعلى أي أساس نبني بطلان العادة الآخذة مبدأها من سالف الحقب. وذاك يقول: بكل حق يجب نسخ هذه العادة الخشنة التي ينفر منها الطبع الإنساني، ولا يجوز التعبُّد لسوى الله الذي هو قال: «للرب إلهك تسجد وله وحده تعبد.» وما ورد من ذكر عبد أو أَمَة في الكتاب يأخذ مفهوم الخادم أو السُّرِّية أخذًا يتضمن الانتماء البسيط من الفقير الباذل تعبه بحريته إلى الغني الدافع فضته بإرادته منتخبًا هذا ومرذلًا ذاك. وذلك يقول: إن هذا الكلام هذَيَان، كيف نترك عبيدنا الذين قد اشتريناهم بالذهب والفضة وأنفقنا عليهم كذا مصاريف من أكل وشرب وكسوة؟! (اسمعوا يا ناس، هل يطاق هذا الفشار العمي؟) ويقول الآخر: ليس الهاذي سوى من يُنزل الإنسان منزلة البهيمة بالبيع والشراء والعلف، زاعمًا أن الزنجي أو المملوك الكرجي هو حمارنا ناطق، ولا يوجد فيه أدنى إحساس إنساني (ما شاء الله على النتائج الذهنية).

وبينما كان هذا الجوق المتجاذب يتبادل النضال، وإذا إيماء وزير محبة السلام يستوقف خطاب الفيلسوف المنتصب على الصخرة كأَرز لبنان، وصوته يقول للزنجي الواحد هكذا: اشرح يا ياقوت هنا علنًا ما رويته لي خفية. فتردد العبد خجلًا ومهابة فأعيد عليه الأمر، فتقدم حينئذٍ هذا العبد الأسود قليلًا وحنى رأسه أمام المظهر الملوكي، ثم نكص إلى الوراء والتفت إلى الحاضرين وافتتح كلامه بصوت منخفض يصعب استماعه، فناداه الوزير قائلًا: اجهر صوتك، فجعل العبد يقص بكلام جهوري هكذا

إنه منذ خمس عشرة سنة بينما كنا ذات يوم أنا وأخي هذا مرجان (وأومأ إلى الزنجي الآخر) نسرح مع والدتنا في برية السودان على نحو غلوة من قريتنا، وكانت سنِّي لم تتجاوز العشر، وسنه لم تبلغ الثماني. وإذا بقافلة من فلاحي مصر نظرناها تخب في القفر بين الأمواج الرملية المستعرة بإيقاد الهجير آخذة طريق جبال القمر حيثما يتوهم انبعاث النيل. فعندما نظر إلينا بعض الركاب أخذوا يعرضون علينا عن بُعد قطعًا كانت تتلامع بأشعة الشمس مُظهِرِين قصد دفعها لنا، فهرعنا إليهم حالًا رغمًا عن ممانعة والدتنا وقتئذٍ المشتقة عند حدْس القلب. وإذ دنونا منهم على أملٍ قبضوا علينا سريعًا وأردفونا على الإبل وأطلقوا الوخد ضاربين في أودية الرمال، فطفقنا نتباكى ونتصايح باسطين أيدينا إلى والدتنا التي كانت تولول وتنوح عن بُعد بحنين يجرح الفؤاد، وتنسف الرمل على رأسها وهي تركض لتدركنا زاعمة إمكان إنقاذنا.

أما نحن فكنا نزيد في العويل ونبالغ في استنجادها كلما كانت تقرب منا. ولم تزل هذه المسكينة تجهد خطواتها حتى أدركت محلنا فأخذت تترامى على أقدام مقتنصينا سافحة دموعها السخنة وتتململ وتترجى بلغتنا التي لا يفهمونها صارخة بصوت يحرك الجلمود: أستحلفكم بما تعبدونه ردوا عليَّ ولديَّ كرمًا لرب النيل، أعطوني ولديَّ ولا تتركوني أمُتْ بفراقهما كمدًا، ردوا عليَّ ثمرة أحشائي وأنا أعطيكم كل ما أملكه من الخرز والقزاز. أما مقتنصونا فكانوا يزدادون قساوة كلما ازددنا بكاءً وازدادت والدتنا انتحابًا وململة؛ فكانوا يضربوننا ويزجرونها ويلطمونها في صدرها ويرفسونها بأرجلهم ويلقونها على الأرض، وهي لم تزل تندب وتذرف العبرات وتتوسل وتتضرع بأيديها وبكل أطوار وجهها، وهم لم يزالوا يلطمونها ويصرعونها حتى غُشي عليها وانطرحت على وجهها معفرةً وكأن لم يكن بها نفَس، وما كادوا يبعدون عنها قليلًا حتى أنعشتها أرواح الحنية وضوضاء عويلنا؛ فوثبت على أقدامها منهتكة وأطلقت المسير إلينا ثانية؛ فإذ رأوها قاصدة عادة الماضي مدَّ أحدهم على هذه الأم المنكسرة الخاطر بندقية وأطلق الرصاص في أحشائها فسقطت على البساط المقفر وتلوَّت قليلًا بتنهدات متقطعة وسلمت الروح متكفنة بالرمال.

وعندما وقعنا في اليأس من الخلاص صمتنا آخذين الصبر الذي هو سند المصابين عونًا لنا. وأخذت الأباطح تسيل بأعناق المطايا التي كانت حاملة كثيرين من بني جنسي قنصًا. ولم نزل نفري بطون السباسب والقفار حتى بلغنا الرستاق المصري. أما أنا فلم أعلم ذاتي بعدُ إلا مسلَّمًا بيد أحد تجار العبيد ومنادًى على بيعي في سوق القاهرة؛ فاشتراني رجل من الأغنياء وأدخلني في داره للخدمة، وأما أخي فما كنت عالمًا ما تم به وكأنه صار نسيًا منسيًّا، فجعل هذا الرجل يعاملني بأقسى المعاملات، وأخذت أطيعه الطاعة العمياء، ولكن لسوء حظي لم تكن طاعتي موجِبة لراحتي؛ لأنني كلما كنت أزداد نشاطًا وهمة في خدمته كان يزداد صرامة وقساوة، حتى إنه مرارًا عديدة كان يربطني بالحبال ويجلدني بالسوط لأقل سبب، كعدم طيراني كالباشق حينما يدعوني، أو عدم إجرائي ما يكون في ضميره كالواجب، وطالما كان يقول لي: أما تعلم إرادتي؟ أما فهمت مزاجي؟ هذا وقد كنت في سنٍّ لا تسمح لي بعلم الضمائر الخاص بالله، ولا بفهم الأمزجة المنوط بالأطباء.

ولم أزل صابرًا على هذا العذاب الأليم ومقاسيًا صعوبات هذا المولى الظالم، حتى بلغت الثمانية عشر عامًا وخرجت من مجزرته. وكان سبب خروجي أنه أرسلني ليلةً ما لاستدعاء أحد جلسائه عنده فخرجت مسرعًا لقضاء أمره، وكنت في أثناء طريقي أرفع نظري إلى الجوِّ لأستعلم ابتداء هبوط الأمطار؛ لأن السماء قد كانت في تلك الليلة موشَّحة بالغيوم الكثيفة ومدلهمَّة على شكل مريع جدًّا، وكانت البروق تتلوَّى كالحية الرقطاء، وتنسحب من سحابة إلى أخرى مخترقة أعماق الفلك.

فما بلغت نصف الطريق حتى انفتحت ميازيب السماء، وانحل وكاء السحاب، وابتدأ يهبط برد عظيم كالحجارة؛ بحيث صرت أظن أن السماء شرعت ترجم الأرض، أو الضربة السابعة نهضت من كمين القدم. وكانت أصوات الرعود تزلزل أساسات المسكونة، وانتشاب الرياح ينسف الجبال نسفًا؛ فأخذتني الدهشة والرعدة مما لم تتعوده عيني في تلك الديار لندرة حدوثه، فما كنت أشك حينئذٍ أن الخليقة جميعها تموج هلعًا. ولما لم يَعُدْ يمكنني المسير خوفًا من سحق حجارة البرَد رأسي وتهشيمها عظامي، تواريت في إحدى الزوايا وصرت من جملة الخبايا.

وعندما انفطر كبد الغادية وأسفر البدر عن الأضواء لدى ساعة من هيجان الطبيعة، أطلقت أقدامي إلى تتميم الرسالة فلم أجد الرجل في بيته، فرجعت إلى سيدي وأخبرته بذلك فأزبد وأرغى واخرنطم وبرطم وحملق عينه الأتونية، وقال: لماذا تأخرت إلى هذا الوقت وتركتني أموت خوفًا؟

– لأن هبوط المطر أدركني في نصف الطريق لذهابي.

– ولماذا لم تعصِه كما تعصيني وترتد حالًا يا خبيث؟

– لأنه يكسر رأسي ويهشم عظامي، ومتى عصيتك يا مولاي؟ وكيف أرتد راجعًا بدون تتميم أمرك؟!

– إذنْ أنا لا أقدر على كسر رأسك وطحن عظامك أكثر من البرد، وهل جسدك الذي هو ملكي أفضل من إرادتي يا عبد السوء؟ ثم هجم إلى العصاء مكفهر الوجه والأعين وهو يردد هذا البيت البربري ماضغًا ألفاظه:

لا تشترِ العبد إلا والعصا معه إن العبيدَ لَأنجاسٌ مناكيدُ ووثب عليَّ كالوحش الضاري، وصار يضربني ضربًا عنيفًا حتى إنه مزق جلدي وكاد ينثر لحمي وهو يقول لي بصوت أبج: هربت من غضب الله فأبشر بغضبي. وأخيرًا قلت له: اتَّق الله يا ظالم، أي ذنب جرى مني يستحق هذا القصاص؟! فأجابني: أتعنفني يا أسود الوجه؟! اخسَ واخرس. ثم ذهب فأتى بِمَسَدٍ عازمًا على ربطي وتجديد الضرب، فلما رأيت حياتي وقعت في الخطر رفعت مهابته من قلبي وهجمت عليه غائبًا عن الرشد والحس وواقعًا في اليأس؛ فمسكت يديه بقبضتي ودفعته على الحائط دفعًا شديدًا، ورفست بطنه برجلي حتى كدت أخترط أمعاه، وقلت له: أقتلك أو تطلق سبيلي يا أسود الطبع. ولما أخذ يعاركني وهو في غليان الهيجان وإغراق الافتتان تناولت الحبل المُعَدَّ لي وشددت به يديه ورجليه وألقيته موثقًا بدون حراك. وإذ نظرت ذلك امرأته وأولاده أخذوا يصيحون ويضجون ليجمعوا الجيران؛ ففتحت الباب وطلبت الفرار وأبقيتهم في طغيانهم يعمهون.

وما زلت أركض هائمًا على وجهي حتى بلغت دسكرة فدخلتها وطلبت حجرة للنوم فأجيب طلبي، فتوغَّلت في هذه الحجرة وأغلقت الباب، ثم انطرحت على الفراش كالقتيل، ولم يكن ما يُستنار به سوى سراج طفيف، ومن حيث إن أوجاعي وأفكاري كانت في غاية الثوران لم يمكن للغَمض أن يمرَّ بأجفاني، ولم يقدر الارتياح أن ينبث في عظامي. وبينما كنت أتأمل السراج الذي كان موضوعًا نُصب عيني وأنا مشمول بشمول السدر إذ رأيته يتراقص كفرائصي ويخفق كقلبي، وما لبث هكذا أن سلم روحه فاختطفتني موجة الظلام وابتلعني غمر الدجى وأطبقت البئر عليَّ فاها، وما كنت أرى سوى ظلمة الموت، ولا أسمع سوى رمز الرياح المتلاطمة بين الأبنية؛ فصارت هوام الأوهام تتطاير في حرش مخيلتي تطايُر الشرر المنتثر، وعادت غربان الوساوس تحوم على خربة رأسي من كل جهة حتى صرت أخال نفسي قائمًا في وسط جهنم.

ولم أبرح متقلبًا على فراش القلق والأرق ضاربًا في أودية الويل خابطًا في لجج الليل إلى أن تبلجت كُوَّة الحجرة بشعاع السحر؛ إذ علمت أن النجم قد غار على جواده الأدهم، والصبح قد أقبل على صهوة أشقر؛ فقفزت من مضجعي قفز الغزال المذعور، ووقفت في وسط المخدع لأجمع شوارد أفكاري وأنتخب منها ما يرشدني إلى سواء السبيل، وإذ أولجت يدي في جيبي على غير قصد إيفاءً لما تطلبه بديهة الهجس فعثرت على بعض قطع الدراهم كانت مذخورة لمصروف بيت مولاي؛ فشملني الفرح للحال وقلت في نفسي: ها قد تسلمت زمام المستقبل. ففتحت المغلق وأطلقت عنان المسير، وإذ بلغت باب الدسكرة وجدت الرئيس مدلجًا هناك فطلب مني أجرة المعرس، فأعطيته شيئًا من الدراهم وواصلت الجري حتى أصبت الجسر، فما لبثت برهة أنتقد ذاتي أن رأيت ذهبية قاصدة الإسكندرية فركبتها وأخذت تفرط زرد الماء لدى مهب الهواء.

وبعد ثلاثة أيام بلغنا الإسكندرية فصعدت إلى البر وطلبت جانب المينا فصرت هناك عتَّالًا، وبعد مُضي خمسة أشهر خلعت أبهة العتالة وصرت ملاحًا في إحدى المراكب العربية التي تشتغل في بحر الروم، ولكن بعد بضعة أشهر خطر لي أن أترك الملاحة وأدخل في إحدى المدارس التركية، وما ذاك إلا لأنني صرت أسمع شتيمة الجنس العربي واحتقاره من جميع الإفرنج الذين كانوا يصادفون مركبنا أو أحد ملاحيه، حتى إن أولادهم يظنون العرب هم نوع منقطع عن الجنس البشري، ولا يُحسب إلا من جملة الحيوانات؛ لكثرة ما سمعوه من عبارات الازدراء والتحقير من آبائهم. فقلت في نفسي إن الجهل الفاشي في هذا الجنس أوجب انحطاط شأنه لدى هذه القبائل، ولو كان عنده مدارس كما عندهم ومساعدون على تقديم العلم ومحبة وطنية منزَّهة عن أغراض الدين لما أصبح أضحوكة عندهم، بل ربما يكون أرقى من جميع العالم علمًا لشدة حذقه الطبيعي وحزمه، ولا ينكر الغرب فضل العرب عليه. ولما تمكن من فكري خاطر الدخول إلى المدرسة بِناءً على أن كلًّا يعمل على شاكلته، تركت مركبنا وركبت بخاريًّا وقصدت الآستانة العلية دار السلام فوصلت إليها. وبعد قليل من وصولي طلبت الدخول في المدرسة العسكرية؛ ففتحت لي الأحضان وشرعت في الدراسة ناسيًا كل ما جرى على رأسي.

وبينما كنت ذات يوم أتمشى على الكبري وقت الراحة، وإذا عبد نظيري يقول لي: نهارك سعيد همشري.

– نهارك سعيد ومبارك.

وبعد أن تأملته بإمعان شعرت بشرارة كهربائية طارت من دمي وسرت في جميع مفاصلي فسألته: ما الاسم؟

– مرجان.

فازددت حنوًّا.

– وكيف كان مجيئك من بلادنا؟

– بقوة الاختطاف.

– وهل خطفوك وحدك أم خطفوا غيرك معك؟

– خطفوا معي أخي أيضًا؛ لأنني كنت أتمشى معه في البرية وإذا جماعة من المصريين دنوا منا وخطفونا وقتلوا والدتنا لأنها رغبت إنقاذنا.

فما عاد لي شك أن هذا العبد هو أخي ذاته، وصارت عيني مغرورقة بالدموع وقلبي خافقًا بأجنحة الأشواق والفرح، ولكنني اجتهدت في إظهار الجلَد لأستتم التأكيد؛ فسألته: وما اسم أخيك؟

– ياقوت، وهو أكبر مني.

فقبضتُ على يده وقلت له: اتبعني لأريك أخاك. فأخذته إلى حجرتي على انفراد وقلت له: أنا هو أخوك ياقوت. فتعانقنا وتباكينا ساعة حتى أطفأنا بماء الآماق نار الأشواق، ثم قصصت عليه جميع ما جرى لي من الأول إلى الآخر، وبعدما بلغته ذلك طلبت منه أن يروي عليَّ ما جرى له وكيفية وصوله إلى الآستانة، فقال: إن تاجر العبيد في القاهرة باعني إلى رجل إسكندراني، فذهب بي إلى الإسكندرية وجعل يستخدمني في بيته وأنا صغير لا أعرف شيئًا سوى اللعب مع الأولاد، ولما بلغت أشدي باعني لأحد الأتراك فأخذني هذا الرجل وسافر بي إلى إسلامبول، وأبقاني عنده مدة سنة ثم باعني إلى رجل من كبار هذه المدينة، وها أنا منذ سبع سنين عنده.

– وكيف معاملته لك؟

– بغاية الرقة واللطافة حسبما تقتضيه طبيعة أهالي الآستانة. ولكن مع ذلك أرغب جدًّا إعتاقي؛ لأن الفكر وحده بوجودي عبدًا أو بكوني أنا ومِلكُ يَدِي لسيدي، وبأن حياتي وموتي بين شفتيه أو يديه ومتى شاء باعني ومتى شاء اشتراني؛ بحيث لا يوجد لي أدنى حرية معتوقة ولا حركة مطلوقة، يجعلني مائلًا كل الميل إلى الحرية والانعتاق، ولو صرت خادمًا بأجرة حياتي فقط عند الرعاع.

– إذن تشتهي الانعتاق؟

– نعم بكل قلبي.

– فلماذا لا تطلب من سيدك ورقة إعتاقك؟

– وهل يسمح لي بذلك؟

– نعم؛ لأنه يعلم أن الحكومة لا تسمح بأخذ العبيد، وبأنها تلزمه بتحريرك إلزامًا، فاذهب وخذ منه ورقة الإعتاق، وإذا منع ذلك فأنا المسئول.

فذهب من عندي، وبعد ثلاثة أيام أتاني ومعه ورقة الإعتاق، فأدخلته معي المدرسة، وبعد مرور خمس سنين خرجنا منها ودخلنا في خدمة دولة التمدن تحت راية جانب السلطان الأكبر. وها نحن بين أيديكم نرى أخصامنا بأعيننا ووثاقهم بأيدينا فأعز الله أنصار الحرية وأيَّد دولة الرفاهية.

وبعد تتميم الزنجي روايته التي كانت مؤثرة في جميع المحفل، جاذبة كل الالتفات إليها، أخذ السكوت موقعًا نحو دقيقة؛ إذ كانت الملكة تمسح أعينها من الدموع التي استقطرتها رواية العبد، ثم التفت وزير محبة السلام إلى الفيلسوف الذي كان مضجعًا على الصخرة بدون حراك، وأوعز إليه بإشارة أن يرجع إلى كلامه. ففرك الفيلسوف جبهته المرتفعة وأنشأ يقول: هذا ما يجب تبليغه لآذان ملك العبودية الذي إذا لم يسلك حسب مضمون ما تقرر لديه فلا قيام لمملكته إزاء تقدم هذا العصر الجديد، فليسمع قوادُه وأنصاره ما سيرد عليهم وليركنوا إلى الحق.

ثم التفت إلى قائد الجهل مبتدئًا منه وجعل يقول:

الجهل

أما أنت يا أيها الجهل فمن أخبث الأرواح الشريرة التي تفسد في الأرض وتعضد يد العبودية وتخرب أبنية العلم. فما أنت إلا السبب الأعظم لأكثر الوبال الذي جرى ويجري وسيجري في المسكونة، والأصل الأول الذي منه قد نشأت فروع البدع والخرافات التي تجعل البشر عبيدًا لأهوائهم وأباطيلهم وتحرمهم لذة حرية الحياة، فإذا كانت المسببات تستوجب مقدارًا من الجزاء فالأسباب تستلزمه مضاعفًا، فتكون إذنْ يا أيها الجهل مستلزمًا صرامة الحكم بمقتك من الناس وتبديدك وكسر شوكتك والنفار عنك؛ فإنك تعتبر كسبب موجب لتلك الآفات المحكوم عليها بالمقت والكراهية منذ بدء الخليقة، ويجب على البشر أن يعتنوا بإخضاع مملكتك لدولة العلم الذي حيثما نزل أنزل المجد والعظمة والكرامة. فبالعلم يجلس الإنسان على قمة كماله الطبيعي، ويعمل حسب استحقاق إنسانيته، وبالجهل يهبط أسفل السافلين ويتصرف كسائر الحيوانات؛ بذاك تعظم قوة الممالك وتتبين حدود الملوك، وبهذا تسقط القوات ويمد التعدي باعه، بذاك يقوم اعتبار الشعوب وتنتشر ثروة القبائل وبهذا يخفق جناح الاحتقار وينعق غراب الإقلال. بذاك قد تلألأ محيا الغرب، وبهذا قد أظلم جبين الشرق.

فكأن الشرق بابٌ للدجى
ما له خوف هجوم الصبح فتح

ومع ذلك لا يجب على التمدن أن يستأصل جميع جذورك من أرضه يا أيها الجهل؛ فإنه لا بد من بعض دخل لك في غوطته استدراكًا لشيوع الدعوى بتمام العلم مع ما بين غير أهله شيوعًا لا ينكر ضرره؛ لأن الإنسان المدعي بالمعارف على غير أصل إنما ينشئ أضرارًا جَمَّة؛ إذ يزرع في عقول أصحابه ورفقائه الذين يثقون به قواعد وحقائق كاذبة باطلة، وهم ينقلونها إلى غيرهم إلى أن تشيع وتذيع، وربما صارت أساسات يبني الناس عليها ما يفضي بهم إلى الضلال والطغيان، فيعود مقتضيًا لنفوذ أنوار الحقائق في أبصار بصائرهم عناء عظيم، ويكون سبب ذلك هذر الجاهل المدعي. فيجب إذن للتمدن أن يترك يدًا لقائد الجهل في دائرته لكي يوحي إليه بواسطة تغلب العلم أن يلطم أفواه تبعته، ويضع أقفالًا عليها؛ فلا يعودون يفوهون بما يؤذي؛ إذ يصيرون خاضعين لتبعة العلم ومجتهدين في نوال الحقائق قدر الإمكان، وعارفين أنفسهم أنهم منتسبون إلى الجهل. حتى إن المتوغلين في بواطن الأشياء أيضًا كثيرًا ما يلتجئون إلى حكم الجهل لكثرة ما يرون من المجهولات التي يفوتهم إدراكها، وكلما ازداد الإنسان علمًا ومعرفة وَجَدَ لحكم الجهل عليه اتِّسَاعًا وغلبة؛ لأن نسبة ما يمكن علمه إلى عالم المجهول هي كنسبة ما يمكن للنظر إحاطته من البحر إلى ساحة المياه جميعها أو ما يمكن رُؤياه من النجوم الظاهرة القليلة إلى بقية الأجرام المختلفة الممتنع عددها، فكما أن كروية البحر ورحابة الفلك تقدمان للنظر أمدًا وعددًا أكثر كلما ارتفع الناظر وقوَّى أسطرلابه إلى أن يحكم أخيرًا أخيرًا بعدم إمكانية الإدراك العام فيرجع بصفقة المغبون. هكذا العلم يعرض للدارس حقائق ومبادئ أكثر كلما ازداد توغُّلًا فيه إلى أن يجزم أخيرًا بامتناع الاطِّلاع المطلق، فيرتد ضاربًا أسدريه آخذًا الجهل عذرًا له.

فعلى كل حال إذنْ يجب أن يكون العلم والجهل مترافقَين في خدمة مملكة التمدن، ولكن بشرط أن يكون الثاني مردودًا إلى الأول؛ وهكذا يكون كلٌّ منهما عارفًا بواسطة رفيقه حقيقة حدوده، فيلبث الواحد مجدًّا في تمهيد مسالك العمار والطلب، ويرجع الآخر عن المعارضة إلى توقيف خطوات الخراب والدعوى؛ بحيث يصير هذا مدرِكًا حدَّه وذاك عارِفًا نفسَه.

الكبرياء

أما أنت يا أيها الكبرياء فمن أدهى الأرواح التي تتعب في مرادها الأجسام، ومن أعظم القوَّات التي تجعل البشر سالكين تحت نير العبودية؛ لأنك تتركهم عديمي الحرية في تتميم مقاصدهم وواجباتهم. فتعدم كلًّا منهم جزءًا كبيرًا ممَّا يخصه من الحقوق على الهيئة التي هي أيضًا تفقد أهم حقوقها على أبنائها؛ بحيث يصير هذا محرومًا من التمتُّع بتمام الألفة والمخالطة، وتلك معاقة عمَّا تطلبه من الانتظام والالتئام.

فهل دخلت يا أيها الروح الشرير في أحدٍ إلا وتركته خابطًا في لُجَّةِ البلبال والتعب، وجعلته مرذولًا ومبغوضًا من جميع بني نوعه، فحيثما جلس رأى نفسه أرقى من محله وأعز من جلسائه، وإذا ألقى سلامًا على أحد أو تكلم معه زعم أنه صنع تنازلًا عظيمًا أو منح الفوز الكبير وإن اقتضته الحاجة إلى السؤال على أمرٍ أو استفادة شيء ما من أحد الناس يقع في حيرة عظيمة واضطراب لا مزيد عليه، ويصير محلًّا لتنازع عوامل الطلب والترك؛ إذ يرى لسانه منبسطًا إلى المطلوب وقلبه منقبضًا عنه، فتثور في جوانحه نار الألوهية، ويأخذ في ضرب الرموز والإشارات على مقصده، عسى ينال الجواب والفائدة بدون تصريحه بسؤال رسمي. وإذا أعياه بلوغ المراد حاول أن يسبك السؤال في قالب قصد التنكير لمعرفة لا طلب التعريف لنكرة دفعًا لنسبة الجهل أو الوقوع تحت المنة واختلاسًا للفائدة. وإذا أوقعته الصدف بمرافقة أحد إلى الدخول في مكان ما حاول كل المحاولة أن يتقدم عليه ويبقيه خلفه. وهكذا لا يزال هذا المستكبر معجبًا بنفسه عاقدًا حواجبه، إذ يظن أن السماء تعنو لديه والأرض تجثو لأقدامه، مع أنه يكون بمقتضى هذه الأطوار مبغوضًا وممقوتًا من الجميع ومحلولًا من وثاق الهيئة الاجتماعية التي تتأسف عليه جدًّا، كما أنه هو نفسه يندب ذاته ويتأسف على حياته المقيدة بسلاسل العبودية لكبريائه؛ إذ يرى حاله مقهورًا لطبعه ومحرومًا من لذات الخليقة ومرذولًا لدى الخلائق ومدانًا من الخالق، فلا يعتبر إلا كورقة الخريف المستعدة للهبوط من أعاليها لدى أوهى حركة.

فقل لنا يا أيها الروح المتعجرف: من أنت وما أنت لنعطيك حقك؟ فإن كنت بشرًا فما فضلك على البشر؟ وإن كنت ملاكًا فأنت إبليس الاستكبار؛ إذ لم تسجد لآدم متواضعًا. وإن كنت ملكًا فأنت خادم الناس ما دمت كبيرهم، ولا تنفعك كبرياؤك عليهم، وستحل في قبر النسيان قبل حلولك في قبر الأبدان، وقد قال قبلك الملك والنبي داود: أنا داود ولست إنسانًا. وإن كنت نبيًّا فما عندك آية سوى الكبرياء وهذه سيماء الدجال. وإن كنت رسولًا فقد كُذِّبَتْ رسلٌ من قبلك، وإن كنت من ذوي الفضل والإحسان فهذا من الواجبات البشرية ولا يسمح لك واجبك بالعُجب والتكبُّر على غيرك، وإن كنت غنيًّا فثروتك لنفسك ولا تنفع بها أحدًا ما لم تنتفع منه أولًا، على أن الأغنياء والفقراء متبادلون حقوق المعيشة سواء. وإن كنت حيوانًا فأنت مخضع تحت قدمَي الإنسان؛ إذ تكون نعجة أو بقرة أو إحدى بهائم البقاع.

ومع ذلك لا ينبغي الرفض المطلق لقائد الكبرياء من مملكة التمدُّن حذرًا من حصول الدناءة التي لا تليق بالبشر، بل يجب تركه مقيدًا بحكم الاتِّضَاع حتى يستوفي كلٌّ منهما حقه حسبما يقتضي الحال، فتكون النتيجة حصول عزة النفس المقبولة في شرائع التمدن، وزوال عبودية الاستكبار عن الأنفس.

تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهْو رفيع
ولا تكُ كالدخان يرفع نفسه
إلى طبقات الجو وهْو وضيع

الحسد والطمع

ها قد وصلنا إلى هذا الروح الذي كثر شَرُّهُ وعظُم ضره منذ البدء إلى الآن؛ أعني به قائد الحسد والطمع كعبة الشقاء وركن الفساد، فما أنت يا أيها الروح الشرير إلا آلة بها يفتك الناس ببعضهم، وبها نشأ كل كريهة وعدوان. فكم كنت سببًا لسقوط ممالك وزوال ملوك وعظماء! فبك تشتت قايين إذ أوقعته في معصية القتل، وبك جمدت امرأة لوط إذ أطعمتها بسبر غضب الله، وبك طردت هاجر إذ نزلتَ في قلب سارة، وبك طلب يعقوب الفرار إذ أثرت سخط العيس، وبك سقط يوسف في البئر وبيع وأُسر إذ فشيت في أرواح إخوته، وبك زهقت روح شاول إذ ملأته حنقًا على داود، وبك تبلبلت دولة المكدونيين إذ أفرغت فيها سمومك، وبك قُتل يوليوس قيصر إذ دخلت في قلوب أصحابه، وبك وبأفعالك قد رُجمت الفلاسفة ورُذلت العلماء وانخذلت الأمة.

فكم يجب على البشر أن ينفروا عنك ويبغضوك يا أيها الحسد والطمع؛ لأنك تجتهد على الدوام في إلقاء الحقد والبغض ما بينهم وفي تفريق شملهم؛ إذ تجعلهم أخصامًا وأعداءً لبعضهم إفرادًا وإجمالًا، فمتى دخلت في قلب إنسان جعلته عدوًّا مبينًا لأنداده، ونازعته الراحة والحرية، فإذا كان ملكًا أخذ يضارب الملوك ويشن الغارات عسى ينال المرتبة الأولى على الجميع. وإذا كان وزيرًا جعل يناكد الوزراء ويوشي بهم عند الملك رغبة في الارتقاء عليهم، وإذا كان شريفًا شرع ينم على الأشراف ويستهجنهم إزاء العامة ويقذفهم بكلمات الاحتقار أملًا في أن يعمي عيون الناس عن أن ترى شريفًا سواه. وإذا كان غنيًّا تاجرًا طفق يسخر بالأغنياء التجار ويشنع بهم ويشيع عنهم أخبار الإفلاس لكي يفتك باعتبارهم مؤمِّلًا أن ينحط عمود ثقتهم بقوة ذلك التشنيع والإشاعة؛ فيُسر فرحًا، وإذا ساقه الحديث أخذ يسند غناهم إلى عامل الشح والبخل وإن كان هو أشح وأبخل، ولم يزل يتزايد حسدًا حتى إنه ربما لا يعود يمكنه النظر إلى ثوب جديد غير ثوبه أو طعام لذيذ غير طعامه، وإذا كان عالمًا أو شاعرًا أخذ يزدري بمؤلفات العلماء ويهزأ بقصائد الشعراء باذلًا جهده في تحصيل زلاتهم وغلطاتهم على خطأ كان أو صواب، حتى إذا عثر على شيء من ذلك أخذ بوق الانتقاد وجعل ينشر بصراخه كل أموات الغفلة. وربما أفضى به الحال إلى أن يطرح من يده كل مؤلف أو قصيدة ممَّن سواه من العلماء والشعراء ولا يتنازل إلى القراءة حذرًا من أن يرى فكرًا أجلَّ من أفكاره أو قاعدة لا يعرفها، وبقدر ما يرى من سموِّ أفكار غيره وجمالها يكون إشعاره بثوران لهيب غضبه وهيجان بركان انتقاده، وهكذا فقد لا يعود لفمه إمكان أن يلفظ بسوى الشتائم والمَسَبَّات التي أخفها قوله: بجق، علك، ركاكة. وذلك بدون إبراز أقل حجة يحتج بها. هذا إذا لم يطرح قياد العلوم والقرائح في عهدة الجنس أو المذهب، وقس على ذلك سائر المراتب والصنوف من البشر الذين يأخذهم روح الحسد والطمع. فكم يستفز هذا الروح شرورًا وبغضًا بين البشر! وكم يهتك بحرمة هيئتهم ويخترق ستار اعتصابهم!

فماذا ينفعك الحسد يا أيها الحاسد الجاهل؟ وهل تظن أن هذه السيماء توصلك إلى أوطارك وآمالك؟ حاشا لله. إن هذه السيماء لا تُسدِيك سوى التقلُّب على النار الدائمة في الدارين، ولا تجديك سوى قلق الفكر وعذاب النفس والتنهُّدات والحسرات، وتجعلك مضغة في أفواه الناس ومهملًا من الجميع.

ولا يخفى ما يترك الحسد والطمع من الشوائب الذميمة في الإنسان، وذلك نظير البغض والحقد والحنق والاختلاس وحب القتل والإضرار. وكلٌّ من هذه الأطوار الرديئة يترك وراءه أطوارًا أُخَر أشد رداءة، إلى أن يصبح الحاسد مؤلفًا من كافة الأرواح الخبيثة. فلا بدع إذا كان الحسد يشبه الشجرة الهندية التي كلما وصل غصن منها إلى الأرض نبت وصار الشجرة، وهكذا إلى أن تنقلب أخيرًا إلى غابة عظيمة تعشو إليها طيور السماء والهيرودي يسكن في مقادمها.

فلا يوجد شيء أشد مقدرة على استعباد النفس من الحسد والطمع؛ فإن هذا الروح إذا تمكَّن من الأنفُس أوثقها بجندل العبودية القصوى لسلطان الانفعالات، وقيَّدها عن التمتع بأدنى لذة أدبية، فتبقى مرتجفة بين فواعل الشهوات كارتجاف العصفور بين مخالب العُقاب، فاقدة كل سلامة الحواس؛ إذ لا تعود ترى سوى تناثُر شرر الاضطراب والطموح، ولا تسمع سوى دوي أصوات القنوط والأكدار، ولا تذوق سوى حرارة الأميال والآلام، ولا تشم سوى رائحة الزهاق العصبي، ولا تلمس سوى خشونة الأشياء التي ليست بقبضتها.

ومع ذلك فلا بأس من ترك بعض دخل لقائد الحسد والطمع في أحكام التمدن؛ لأن هذا الروح يقود الناس إلى الغَيْرَة والتنافس التي ينجم عنها فوائد جزيلة لترقية الجمعية، كالهجوم على درس العلوم، وتنشيط الأشغال، وتنبيه القوى الاختراعية ونحو ذلك، ولكن يجب أن يرفق هذا القائد بالرِّضَا والقناعة، ويكون خاضعًا له لكي يمتنع ضرر ذاك ويقوم نفع هذا؛ فتحصل المغايرة.

البخل

هو ذا ضجيج عظيم آتٍ من كافة أقطار الأرض، صراخ شديد يدوي تموُّجه في المسامع، فأميلوا آذانكم يا قاصدي التفتيش. وأصغوا لنرى ما هذه الضوضاء الآتية من بعيد، وعلام ذلك الصباح المرعد، ها قد بدا يلوح لي أن فتنةً كبرى تثور في العالم. نعم، فتنة كبرى آخذة في الثَّوَرَان؛ لأن أصوات لعنات وشتائم تتوارد إلى آذاني محمولة مع طلقات الضجيج، فما سبب هذا الافتتان العظيم؟ وعلى من يدور مداره؟ لعل ذلك على البخل لأن أكثر تلك اللعنات والمسبات تنطق على اسمه كما تسمعون. بلى، على البخل على البخل، ولا يوجد ما يستحق نهوض العالم لضده نظير البخل؛ لأنه يجتهد على الدوام أن يحتشد أرزاق البشر ويحشر قوت العباد احتشادًا وحشرًا يوجبان خلل النظام العام واستعباد الأنام.

وهاك قائد البخل منتصبًا لدينا تجاه الكرم وهو قابض بيديه على ساعد دولاب المعاملات ومساعد قيام الحياة، فلنوجِّهْ خطابنا إليه قائلين: ها قد نهضت المسكونة عليك يا أيها الروح الخبيث قائد البخل والشح، وها جميع الناس يقذفونك باللعنات والمسبَّات؛ فأنت مستوجب أن يحكم عليك بالخذل والرذل بدون تردد؛ لأنك توَد أن ينغلق كل باب لتقدُّم الخلائق وتفتح كل سبل التقهقر؛ فتخزن الأموال ولا تدع لها منفذًا. أما تعلم أن العطاء ينهج طرق الخير ويسند أخاك الجائع، وتكنز الدنانير والدراهم في أعماق الصناديق حذرًا من أن يلامسها الهواء أو يمسها الضياء. أما تدري أن الدراهم قد صارت الآن محورًا لمدار عالم المعاطاة، وأن حجزها يضيق دائرة العلاقات البشرية ويعيق تبادل المعاملات، وتطرد كل سائل ومحتاج ولو على فلس، وتميل عن كل عمل كريم أو سمة تقتضي بذل الورق؟ أما تعرف أن العضد الأعظم لترتيب حياتك يؤخذ من مثل السائلين والمحتاجين؟ فهم يبنون دارك وحانوتك، وهم ينسجون ثوبك ورداءك، وهم يجهزون كل أدوات طعامك وشرابك، وهم يتسارعون إليك من كل الجهات ليحرسوك من وثبات المختلس وهجمات العدو، وهم يمدون أيديهم ليرفعوك لئلا تعثر رجلك بحجر، وإذا انتشبت حريقة في منزلك ألقوا أرواحهم لينقذوك وأولادك ويحموا أمتعتك. فلماذا تدوس في أعناقهم إذا انطرحوا تحت قدميك يطلبون إسعافًا؟ ولماذا تُعرض عنهم وتشتمهم إذا مدوا أيديهم إليك ليطلبوا سداد رمقهم، حتى إذا أمكن للإلحاح أن يقتلع من فولاذ يدك بارة واحدة استشعرت بألم اقتلاع الضرس.

ولماذا تعصي الآمر بإشباع الجائع وستر العريان؟ أما تخشى وقوع في ثورتَي الدنيا والآخرة؟ وكم تهجس على مضجعك في أمر التوفير وتتصل به إلى حسابات وكميات تفوق طور الإدراك مرتقيًا في سلسلة التضعيف والضرب حيث تقول في ضميرك: إنني من الغد سأشرع في تنقيص كمية اللحوم والبقول والزيوت، وفي إجهاد الأولاد في تتميم الأعمال الخدمية استغناءً بهم عن الخدم. ولم أزل أنقص مقدار الطعام وأعوِّد الأولاد على الخدمة حتى نصير أخيرًا قابلين أن نعيش على النزر من الخبز والقليل من الجبن أو الزعتر، وقادرين على قضاء كل الأعمال الشاقة. وبهذا العمل يمكنني أن أجمع كل مال العالم؛ لأن درهمًا ودرهمًا درهمان، ودرهمين ودرهمين أربعة دراهم، وأربعة دراهم في أربعة دراهم ستة عشر درهمًا، و١٦ × ١٦ = ٢٥٦، و٢٥٦ × ٢٥٦ = ٦٥٥٣٦. وهكذا ترتقي من المضروب إلى المضروب فيه إلى أن تبلغ الحاصل الأعلى حيثما لا يوجد رقم ولا يجري قلم. وحينئذٍ تأخذ نفَسًا، وتقول: ها أنا مزمع أن أملك العالم بأسره وأوقف كل دواليب الأشغال وأجعل الناس عبيدًا لي.

نعم ستفعل هكذا يا هذا البخيل، ولكن بعد ألوف من السنين إذا لم تمت بداء التكميل. فليعش رأسك الكريم ولينجح مقصدك العظيم، ولا عتب عليك إذا فكرت في نفسك هكذا؛ لأنك ترافق القمر في مشروعه، فكما أن هذا الجِرم يخال أنه سيوقف دوران الأرض بعد عدد من ألوف ألوف من السنينَ لا يُحصى؛ وذلك بتأخير جاذبيته لحركتها ست ثوانٍ في كل جيل، هكذا تخال أنت أيضًا أنك ستوقف حركة الأشغال بجذبك كل الأموال من أيدي الناس وتعود منفردًا بالسطوة والغنا بعد العمر الطويل.

فتبًا لهواجسك وبُعدًا لمقاصدك وسُحقًا لك، أما ترى كيف تخفق على البشر أجنحة الموت بينما يكونون غارقين في لجج مطامعهم وتأهباتهم، وراتعين في حدائق أفراحهم ومسراتهم؟ أما تعلم أن السارق قد يأتيك من حيث لا تعلم؟ أما يلوح في رأسك الممتلي من أفكار الثراء مساءً فكرٌ واحد بإمكان انحداره في حفرة الثرى صباحًا؟ ولماذا هذا البخل الكثير وذاك العناء الغزير؟ وَهَبْكَ ملكت خزائن الملوك وجمعت كل ثروة العالم، أليس مصيرك إلى الزوال والفناء وأنت حامل على ظهرك كل تلك الأحمال الثقال؟ وهل يمكنك أن تمد عمرك إلى أمد أطول مما تقتضيه الطبيعة؟ وهل يمكنك أن تمد عمرك إلى أمد أطول مما تقتضيه الطبيعة؟ وهل تستطيع أن تردع بقوة أموالك مسير المركبات إلى الانحلال؟ فسوف توجد راحتاك المنقبضتان على كل تلك الكنوز التي جمعتها بالوهم منبسطتين إشارة إلى خروجك من هذه الدنيا بلا شيء، وربما لا تُجزى ممن يَرِثك بسوى اللعنة ولو كان ابنَك الحبيب الذي به سُررت.

فلا يعتب العالم إذن إذا أثار عليك الفتن يا قائد البخل، وارتفعت أصواته ضدك وتبادرت قواته إلى الفتك بك؛ لأنك أنت العدو المبين له ولكل صوالحه، وأنت المُصِرُّ على هتك ستار هيئته واستعباد قلوب أبنائه بحشرك أهم أدوات مداره، ومع كل هذا فلا بأس من ترك ظفر لك في جسد التمدن لتكون مانعًا لهجوم التبذير الكثير الضرر، ولكن يجب أن تكون ملحوقًا بأوامر الكرم لكي تحصل الرتبة المطلوبة ما بين التبذير والبخل.

الضغينة

مَن هذا الرجل المنتصب تلقاء عرش التمدن ذو الأسنان المكزوزة والأعين المتوقدة بالشرر؟ مَن هذا الواقف وقوف النمر المستعد للوثوب على الفريسة؟ هل هذا هو قائد الضغينة؟ نعم، هذا هو قائد الضغينة المستعد لأن يغدر بكل من يمحضه السلام ويركن إليه.

فما أنت يا أيها الروح الحقود سوى عذاب أليم للأرواح؛ لأنك متى أوقعت أمَّاراتك في أحد أعدمته الراحة والسكون وجعلته كالوحش الحائم على ما يفترسه؛ فلا ينام إلا على فراش الغضب، ولا يستيقظ إلا بأعين الانتقام، ولا يروي إلا بكرع الدماء، ولا يجد في نفسه حركة لأنه يقضي الليل والنهار مملوكًا لخلقه ومأسورًا لحب انتقامه وواقعًا في خطر مبدآت كفايته. وهكذا فيعيش عبدًا وأسيرًا لأطواره ومعادًى ومباعدًا من معاشرة الذين يستلمحون طلائع هجماته فيجتنبونه.

فلا ريب إذن في أضرار هذا الروح لائتلاف البشر؛ إذ إنه يوقع النفار ما بينهم ويبعد بعضهم عن بعض خلافًا لما يطلبه ميلهم إلى الالتئام في دائرة التمدُّن توطئة للاعتضاد في الانتفاع، فمن الواجب والحالة هذه أن يكون الصفح مرافقًا قائد الضغينة ورادعًا جماحه، كما يجب على الضغينة أيضًا أن ترد اندفاع الصفح في بعض الظروف حذرًا من انغلاق أبواب السلام أو انطلاق أشواط التهافُت، ولكلٍّ وقت وأوان.

النميمة

ما لي أرى هؤلاء القوم يرشقون هذا الشخص السابع بنظرات النفور والاشمئزاز؟ ويبعدون عنه كأنه جيفة نتنة أو جرب مُعْدٍ؟ وجميعهم يومِئُون إليه بالبَنان ويتوامرون؟ ولماذا كلٌّ يظهر إشارات الخوف منه والابتعاد؟ ولماذا قد أطبق الجمع على اجتناب هذا الرجل المسكين، حتى لم يعد أحد راضيًا أن يكلمه أو يلقي عليه السلام، فليت شعري هل هذا رجل النميمة حيث لا يوجد من يستحق معاملة كهذه سوى النمامين؟

نعم، هذا هو رجل النميمة وقائدها؛ ولذلك يتحاشاه جميع الناس ويبتعدون عنه غاية الابتعاد حذرًا من آثاره الرديئة وأطواره الذميمة؛ لأن دأبه أن يهتك حرمة الأسرار ويكشف الستر عن معائب البشر، ويظهر كل الأعمال الصائرة منهم سرًّا، حتى إنه يفعل هذا مع أخص أصدقائه، وربما تعمد أن يصاحب أحدًا ليطَّلع على خفياته بالاستيداع ثم يذيعها بالنميمة. ولا يبالي من ارتداد وجعه على رأسه في أحوال شتى، وذلك عندما تستقر الخيانة فيه فيستوجب لعنة الجماعة ويعاقَب بالصد والجفاء مثل الأفعوان الأسود الذي إذ يلسع تنسحق أنيابه ويسيل منها سم فيمتصه فيموت.

فلا شك إذن في عظم أضرار هذا الروح الخبيث، وبكل عدل يجب طرده من عالم الآداب والتهذيب وكسر شوكته، وبكل حق يتعين النفار عنه واجتنابه على من ليس يرضى بهتك أسراره وخفياته، ولا يوجد أصعب على الإنسان من وقوع أعماله السرية في السنة العامة وإظهار عيوبه. ولو أمكن وجود إنسان خالٍ من النقيضة لَحُقَّ له أن ينتقد نقائص غيره، ولكن يمتنع وجود ذاك فلا حَقَّ في الانتقاد لهذا.

ولما كان السقوط المطلق لقائد النميمة قد يفتح طريقًا لهجوم الأشرار على عمل العيوب بدون خشية كشف النقاب الذي يردع كثيرين عن الكبائر بِلَجْمِه جماح الشهوات، كان الأفضل أن يبقى له صوت في آذان العموم لأجل التهديد، ولكن بشرط أن يكون زمامه محفوظًا في يد الكتمان.

الكذب والنفاق

أما أنت يا قائد الكذب والنفاق فلا تعتبر إلا كهادم لمباني الآداب الإنسانية، ومفسدًا لصلاح الغريزية ومستعبِدًا لحرية الفطرة؛ لأنك متى أوقعت أحكامك على أحد أحدثت فيه بلبالًا عظيمًا ظاهرًا وباطنًا إذ تجعله الخصم الألد لضميره كلما فتح فاه. وتبقيه أضحوكة في أفواه سامعيه فتكسبه العار والفضيحة، حتى إنه يعود متقلبًا على جمر الندم ومشمولًا بقنوط النفس كلما خلا في نفسه وتبصر بما أنشأ لسانه من الأكاذيب والنفاق في مسامع الناس، وبما سيرد عليه من التكذيب والإذلال، فيثني مصممًا أن يحفظ لسانه من شين المين، ولكن غلبة الملكة لا تسمح له بذلك ما لم يحتمل مشقة عظمى؛ فيعيش أسيرًا وعبدًا لك يا قائد الكذب والنفاق.

ولما كان الطبع البشري يأنف ويستنكف جدًّا من تكلُّم الخلاف، ولا يميل إلا إلى صدق المقال وإثبات الحقيقة، كان الإنسان الذي لا يصدق بلسانه ولا يستقيم بجناحه مكروهًا حتى من نفس طبعه أيضًا، على أنه يرى طبعه مضادًّا طبيعته فيكره نفسه.

فيجب على كلٍّ من الناس أن لا ينقاد إلى حكم هذا الروح الشرير منذ نعومة أظفاره عندما يكون التعوُّد سهلًا، وأن يرفض كل تلفُّظ يُنسب إليه مهما كان وهنًا؛ لأن الذي يبتدئ بالصغائر قد تهون عليه الكبائر، والذي يفكر في القليل يتصل إلى الكثير؛ لأن الفكر من شأنه أن يطير بأجنحة أدنى تصوُّرًا إلى قبة فلك التصورات حيثما لا يوجد نهاية ولا قرار.

وهكذا فلا جناح على ملك التمدن إذا كان يهلك كل الذين يتكلمون بالكذب؛ لأنهم يسعون في خراب مملكته بما تترك ألسنتهم المنافقة من الأضرار الكلية والجريئة؛ كإثارة الفتن وإلقاء الفساد وتبغيض المحبِّين وإغراء ذوي الغفلة والسذاجة ونحو ذلك، فهذه جميعها أطوار تعارض سير التمدن وتباين آرابه ولا تتفق مع نزاهة الطبع الإنساني بما فيها من الآثار الذميمة، فلا ظلم إذا طُرد قائد الكذب والنفاق طردًا مطلقًا لعدم نفعه في شيء، وإقامة الصدق والحق مكانه.

ولما كانت الخيانة قائدة كل هؤلاء القواد وحاملة بيرقهم الأسود وأصلًا تتفرع عنه أكثر الخصال الناقصة والصفات غير الصافية، كان الواجب أن يُحكم عليها كما حُكِم على أولئك القوم، وإن تُعامَل بالطرد المطلق نظير قائد الكذب.

لا عاش من للعهد خان خونَا
وبئس وغدٌ لا يصون صونَا
جرى أمامي الدهر فاتبعته
عسى أرى خلًّا فما وجدته
صحبت نذلًا يستدرُّ وُدِّي
وهو مولعٌ بنكثِ عهدي
قد كان يدعو نفسه رَبَّ الوَفَا
والآن في ذكري يهز الكتفا
أظهر لي الوُدَّ ليجني زهري
ومُذ تولاه لوى بالظهر
فصار قمحي عنده زوانَا
ودرري أضحت له أدرانَا
عن مثل ذا داود قد تنبَّا
قد أكلوا خبزي وداروا العقبَا
لا بارك الله لذي الخيانة
ولا رعى من لا له أمانة