قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة/الصفحة الحادية عشر



وقال تعالى 1: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. فبين سبحانه أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر، وقال تعالى 2: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ}، وقال تعالى 3: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}، وقال تعالى 4: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ}، وقال تعالى5: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ}، وقال تعالى 6: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وقال تعالى عن صاحب يس 7: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، ءَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ ءَالِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنْقِذُون، إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِين، إِنِّي ءَامَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ}.

فالشفاعة نوعان: أحدهما الشفاعة التي نفاها الله تعالى كالتي أثبتها المشركون ومن ضاهاهم من جهال هذه الأمة.

والثاني: أن يشفع الشفيع بإذن الله، وهذه التي أثبتها الله تعالى لعباده الصالحون، ولهذا كان سيد الشفعاء إذا طلب منه الخلق الشفاعة يوم القيامة يأتي ويسجد، قال: "فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي لا أحسنها الآن، فيقال: أي محمد، ارفع رأسك، وقل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع". فإذا اذن له في الشفاعة شفع تسليما.

قال أهل هذا القول:ولايلزم من جواز التوسل والاستشفاع به -بمعنى أن يكون هو داعيا للمتوسل به- أن يشرع ذلك في مغيبه وبعد موته، مع أنه هو لم يدع للمتوسل به، بل المتوسل به أقسم به أو سأل بذاته.

مع كون الصحابة فرقوا بين الأمرين وذلك لأنه في حياته يدعو هو لمن توسل به، ودعاؤه هو لله سبحانه أفضل دعاء الخلق، فهو أفضل الخلق وأكرمهم على الله، فدعاؤه لمن دعا له وشفاعته له أفضل دعاء مخلوق لمخلوق، فكيف يقاس هذا بمن لم يدع له الرسول ولم يشفع له؟ ومن سوى بين من دعا له الرسول وبين من لم يدع له الرسول، وجعل هذا التوسل كهذا التوسل، فهو من أضل الناس.

وأيضا فإنه ليس في طلب الدعاء منه، ودعائه هو، والتوسل بدعائه، ضرر، بل هو خير بلا شر، وليس في ذلك محذور ولامفسدة، فإن أحدا من الأنبياء عليهم السلام لم يعبد في حياته بحضوره، فإنه ينهى من يعبده ويشرك به ولو كان شركا أصغر، كما نهى النبي من سجد له عن السجود له.

وكما قال: "لاتقولوا ماشاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ماشاء الله ثم شاء محمد". وأمثال ذلك.

وأما بعد موته، فيخاف الفتنة والإشراك به كما أشرك بالمسيح والعزير وغيرهما عند قبورهم وغير قبورهم.

ولهذا قال النبي : " لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله" أخرجاه في الصحيحين.

وقال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد".

وقال: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مافعلوا.

وبالجملة فمعنا اصلان عظيمان، أحدهما: أن لانعبد إلا الله. والثاني: ان لانعبده إلا بما شرع، لانعبده بعبادة مبتدعة.

وهذان الأصلان هما تحقيق: " شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله" كما قال تعالى: 8: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا}.

قال الفضيل بن عياض: أخلصه وأصوبه. قالوا: ياأبا علي ماأخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا. والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. وذلك تحقيق قوله تعالى 9: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}.

وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب يقول في دعائه: اللهم اجعل عملي كله صالحا، واجعله لوجهك خالصا، ولا تجعل لأحد فيه شيئا. وقال تعالى 10: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ}.

وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي أنه قال: "من أحدث في أمرنا [هذا] ماليس منه فهو رد".

وفي لفظ في الصحيح: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".

وفي الصحيح وغيره أيضا يقول الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك".

ولهذا قال الفقهاء: العبادات مبناها على التوقيف، كما في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قبل الحجر الأسود، وقال: "والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك".

والله سبحانه أمرنا باتباع الرسول وطاعته، وموالاته ومحبته، وأن يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما، وضمن لنا بطاعته ومحبته محبة الله وكرامته. فقال تعالى 11: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} وقال تعالى 12: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} وقال تعالى 13: {وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}. وأمثال ذلك في القرآن كثير.

ولاينبغي لأحد أن يخرج في هذا عما مضت به السنة، وجاءت به الشريعة، ودل عليه الكتاب والسنة، وكان عليه سلف الأمة، وما علمه قال به، وما لم يعلمه أمسك عليه، ولا يقفو ماليس له به علم، ولا يقول على الله مالم يعلم؛ فإن الله تعالى قد حرم ذلك كله.

وقد جاءت في الأحاديث النبوية ذكر مايسأل الله تعالى به، كقوله : "اللهم إني أنسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام، ياحي، ياقيوم". رواه أبو داود وغيره، وفي لفظ: "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله، لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد". رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه.

وقد اتفق العلماء على أنه لا ينعقد اليمين بغير الله تعالى، وهو الحلف بالمخلوقات، فلو حلف بالكعبة، أو بالملائكة، أو بأحد من الشيوخ، أو الملوك لم ينعقد يمينه، ولا يشرع له ذلك، بل ينهى عنه، إما نهي تحريم، وإما نهي تنزيه.

ففي الصحيح عن النبي أنه قال: " من كان حالفا فليحلف بالله، أو ليصمت".

وفي الترمذي عنه أنه قال: " من حلف بغير الله فقد أشرك".

ولم يقل أحد من العلماء المتقدمين: إنه ينعقد اليمين بأحد من الخلق، إلا في نبينا ، فإن عن أحمد روايتين في أنه ينعقد اليمين به، وقد طرد بعض أصحابه - كابن عقيل - الخلاف في سائر الأنبياء، وهذا ضعيف.

وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ، ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم، والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا ينعقد اليمين به، كإحدى الروايتين عن أحمد، وهذا هو الصحيح.

وكذلك لا يستعاذ بالمخلوقات، بل إنما يستعاذ بالخالق تعالى وأسمائه وصفاته، ولهذا احتج السلف -كأحمد وغيره- على أن كلام الله غير مخلوق فيما احتجوا به بقول النبي : "أعوذ بكلمات الله التامات" قالوا: فقد استعاذ بها، ولا يستعاذ بمخلوق.

وفي الصحيح عنه أنه قال: " لابأس بالرُّقى مالم تكن شركا".

فنهى عن الرقى التي فيها شرك، كالتي فيها استعاذة بالجن كما قال تعالى 14:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}، ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والأقسام التي يستعملها بعض الناس في حق المصروع وغيره، التي تتضمن الشرك، بل نهوا عن كل مالايعرف معناه من ذلك خشية أن يكون فيه شرك، بخلاف ماكان من الرقى المشروعة فإنه جائز. فإذا لا يجوز أن يقسم لاقسما مطلقا، ولاقسما على غيره إلا بالله عز وجل، ولا يستعيذ إلا بالله عز وجل.

والسائل لله بغير الله إما أن يكون مقسما عليه، وأما أن يكون طالبا بذلك السبب: كما توسل الثلاثة في الغار بأعمالهم، وكما يتوسل بدعاء النبي والصالحين. فإذا كان إقساما على الله بغيره فهذا لا يجوز، وإن كان سؤالا بسبب يقتضي المطلوب كالسؤال بالأعمال التي فيها طاعة الله ورسوله، مثل السؤال بالإيمان بالرسول، ومحبته، وموالاته ونحو ذلك فهذا جائز.

وإن كان سؤالا بمجرد ذات الأنبياء والصالحين فهذا غير مشروع، وقد نهى عنه غير واحد من العلماء وقالوا: إنه لا يجوز، ورخص فيه بعضهم، والأول أرجح كما تقدم، وهو سؤال بسبب لا يقتضي حصول المطلوب.

بخلاف من كان طالبا بالسبب المقتضي لحصول المطلوب، كالطلب منه سبحانه بدعاء الصالحين، وبالأعمال الصالحة، فهذا جائز؛ لأن دعاء الصالحين سبب لحصول مطلوبنا الذي دعوا به، وكذلك الأعمال الصالحة سبب لثواب الله لنا، وإذا توسلنا بدعائهم وأعمالنا كنا متوسلين إليه تعالى بوسيلة، كما قال تعالى 15: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، والوسيلة هي الأعمال الصالحة، وقال تعالى 16: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ}.

وأما إذا لم نتوسل إليه سبحانه بدعائهم، ولا بأعمالنا، ولكن توسلنا بنفس ذواتهم لم تكن نفس ذواتهم سببا يقتضي إجابة دعائنا، فكنا متوسلين بغير وسيلة،ولهذا لم يكن هذا منقولا عن النبي نقلا صحيحا، ولامشهورا عن السلف.

وقد نقل في منسك المروذي عن أحمد دعاء فيه سؤال بالنبي ، وهذا قد يخرج على إحدى الروايتين عنه في جواز القسم به، وأكثر العلماء على النهي في الأمرين. ولاريب أن لهم عند الله الجاه العظيم - كما قال تعالى في حق موسى وعيسى عليهما السلام، وقد تقدم ذكر ذلك - لكن مالهم عند الله من المنازل والدرجات أمر يعود نفعه إليهم، ونحن ننتفع من ذلك باتباعنا لهم ومحبتنا لهم، فإذا توسلنا إلى الله تعالى بإيماننا بنبيه ومحبته وموالاته واتباع سنته فهذا من أعظم الوسائل.

وأما التوسل بنفس ذاته مع عدم التوسل بالإيمان به وطاعته فلايجوز أن يكون وسيلة، فالمتوسل بالمخلوق إذا لم يتوسل لا بما من المتوسل به ولا بما منهم، فبأي شيء يتوسل؟ والإنسان إذا توسل إلى غيره بوسيلة فإما أن يطلب من الوسيلة الشفاعة له عند ذلك، مثل أن يقال لأبي الرجل أو صديقه أو من يكرم عليه: اشفع لنا عنده، وهذا جائز.

وإما أن يقسم عليه، والإقسام على الله تعالى بالمخلوقين لا يجوز، ولا يجوز الإقسام على مخلوق بمخلوق، وإما أن يسأل بسبب يقتضي المطلوب، كما قال الله تعالى17:{ وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} وسيأتي بيان ذلك.

وقد تبين أن الإقسام على الله سبحانه بغيره لا يجوز، ولا يجوز أن يقسم بمخلوق أصلا، وأما التوسل إليه بشفاعة الماذون لهم في الشفاعة فجائز.

والأعمى كان قد طلب من النبي أن يدعو له كما طلب الصحابة منه الاستسقاء، وقوله: " أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة"، أي بدعائه وشفاعته لي، ولهذا تمام الحديث: "اللهم فشفعه فيَّ"، فالذي في الحديث متفق على جوازه، وليس هو مما نحن فيه. وقد قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ}.

فعلى قراءة الجمهور بالنصب إنما يسألون بالله وحده، لا بالرحم، وتساؤلهم بالله تعالى يتضمن إقسام بعضهم على بعض بالله، وتعاهدهم بالله.

وأما على قراءة الخفض، فقد قال طائفة من السلف: هو قولهم أسألك بالله وبالرحم، وهذا إخبار عن سؤالهم، وقد يقال: إنه ليس بدليل على جوازه، فإن كان دليلا على جوازه، فمعنى قوله أسألك بالرحم ليس إقساما بالرحم -والقسم هنا لا يسوغ - لكن بسبب الرحم، أي لأن الرحم توجب لأصحابها بعضهم على بعض حقوقا كسؤال الثلاثة لله تعالى بأعمالهم الصالحة، وكسؤالنا بدعاء النبي وشفاعته. ومن هذا الباب ماروى عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن ابن أخيه عبدالله بن جعفر كان إذا سأله بحق جعفر أعطاه.

وليس هذا من باب الإقسام، فإن الإقسام بغير جعفر أعظم، بل من باب حق الرحم؛ لأن حق الله إنما وجب بسبب جعفر، وجعفر حقه على علي.

ومن هذا الباب، الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أبي سعيد عن النبي في دعاء الخارج إلى الصلاة: " اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك، وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياءً ولاسمعةً، ولكن خرجت اتقاء سخطك، وابتغاء مرضاتك. أسألك أن تنقذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". وهذا الحديث في إسناده عطية العوفي وفيه ضعف.

فإن كان من كلام النبي فهو من هذا الباب لوجهين:

أحدهما: لأن فيه السؤال لله تعالى بحق السائلين، وبحق الماشين في طاعته، وحق السائلين أن يجيبهم، وحق الماشين أن يثيبهم، وهذا حق أوجبه الله تعالى، وليس للمخلوق أن يوجب على الخالق تعالى شيئا. ومنه قوله تعالى 18: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ}، وقوله تعالى 19: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}، وقوله تعالى 20: {وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ}.

وفي الصحيح في حديث معاذ: "حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن لا يعذبهم".

وفي الصحيح عن أبي ذر عن النبي فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا". وإذا كان حق السائلين والعابدين له هو الإجابة والإثابة بذلك فذاك سؤال لله بأفعاله كالاستعاذة بنحو ذلك في قوله : " أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك". فالاستعاذة بمعافاته التي هي فعله، كالسؤال بإثابته التي هي فعله.

الوجه الثاني: أن الدعاء له سبحانه وتعالى والعمل له سبب بحصول مقصود العبد، فهو كالتوسل بدعاء النبي والصالحين من أمته.

وقد تقدم أن الدعاء بالنبي والصالح إما أن يكون إقساما به، أو سببا به، فإن كان قوله: "بحق السائلين عليك" إقساما فلايقسم على الله إلا به، وإن كان سببا فهو سبب بما جعله هو سبحانه سببا، وهو دعاؤه وعبادته. فهذا كله يشبه بعضه بعضا، وليس في شيء من ذلك دعاء له بمخلوق من غير دعاء منه، ولاعمل صالح منا.

وإذا قال السائل: أسألك بحق الملائكة، أو بحق الأنبياء، وحق الصالحين - ولا يقول لغيره أقسمت عليك بحق هؤلاء- فإذا لم يجز له ان يحلف به، ولا يقسم على مخلوق به، فكيف يقسم على الخالق به؟ وإن كان لا يقسم به، وإنما يتسبب به فليس في مجرد ذوات هؤلاء سبب يوجب تحصيل مقصوده، ولكن لابد من سبب منه كالإيمان بالملائكة والأنبياء، أو منهم كدعائهم، ولكن كثيرا من الناس تعودوا ذلك، كما تعودوا الحلف بهم، حتى يقول أحدهم: وحقك على الله، وحق هذه الشيبة على الله.

وإذا قال القائل: أسألك بحق فلان، أو بجاهه، أي أسألك بإيماني به، ومحبتي له، وهذا من أعظم الوسائل. قيل: من قصد هذا المعنى، فهو معنى صحيح، لكن ليس هذا مقصود عامة هؤلاء، فمن قال: أسألك بإيماني بك وبرسولك ونحو ذلك، أو بإيماني برسولك ومحبتي له ونحو ذلك، فقد أحسن في ذلك كما قال تعالى في دعاء المؤمنين 21: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}، وقال تعالى 22: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، وقال تعالى 23: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}. وقال تعالى 24: {رَبَّنَا ءَامَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}.

وكان ابن مسعود يقول: اللهم أمرتني فأطعت، ودعوتني فأجبت وهذا سحر فاغفر لي.

ومن هذا الباب حديث الثلاثة الذين أصابهم المطر، فأووا إلى الغار، وانطبقت عليهم الصخرة، ثم دعوا الله سبحانه بأعمالهم الصالحة، ففرج عنهم وهو ماثبت في الصحيحين.

وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا خالد بن خراش العجلاني وإسماعيل بن إبراهيم، قال حدثنا صالح المري عن ثابت عن أنس قال: دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ثقيل، فلم نبرح حتى قبض، فبسطنا عليه ثوبه، وله أم عجوز كبيرة عند رأسه، فالتفت إليها بعضنا، وقال: ياهذه احتسبي مصيبتك عند الله. قالت: وما ذاك، مات ابني؟ قلنا: نعم. قالت: أحق ماتقولون؟ قلنا: نعم. فمدت يديها إلى الله فقالت: اللهم إنك تعلم أني أسلمت وهاجرت إلى رسولك رجاء أن تعقبني عند كل شدة فرجا، فلاتحمل عليَّ هذه المصيبة اليوم. قال: فكشفت الثوب عن وجهه فما برحنا حتى طعمنا معه.

وروي في كتاب الحلية لأبي نعيم أن داود قال: بحق آبائي عليك، إبراهيم وإسحاق ويعقوب. فأوحى الله تعالى إليه: ياداود! وأي حق لآبائك عليَّ؟.

وهذا وإن لم يكن من الأدلة الشرعية فالإسرائيليات يعتضد بها، ولا يعتمد عليها.

وقد مضت السنة أن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه سائر مايقدر عليه، وأما المخلوق الغائب والميت، فلا يطلب منه شيء. يحقق هذا الأمر أن التوسل به والتوجه به لفظ فيه إجمال واشتراك بحسب الاصطلاح، فمعناه في لغة الصحابة أن يطلب منه الدعاء والشفاعة، فيكونون متوسلين ومتوجهين بدعائه وشفاعته. ودعاؤه وشفاعته من أعظم الوسائل عند الله عز وجل. وأما في لغة كثير من الناس فمعناه أن يسأل الله تعالى ويقسم عليه بذاته.

والله تعالى لا يقسم عليه بشيء من المخلوقات، بل لا يقسم بها بحال، فلايقال أقسمت عليك يارب بملائكتك، ولابكعبتك، ولابعبادك الصالحين، كما لا يجوز أن يقسم الرجل بهذه الأشياء، بل إنما يقسم بالله تعالى بأسمائه وصفاته، ولهذا كان السنة أن يسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته، فيقول: " أسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، ياذا الجلال والإكرام، ياحي ياقيوم".

وأسألك بأنك أنت الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

وكذلك قوله: " اللهم إني أسألك بمعاقد العز من عرشك، ومنتهي الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم، وجدك الأعلى، وبكلماتك التامات".

مع أن هذا الدعاء الثالث، في جواز الدعاء به قولان للعلماء:

قال الشيخ أبو الحسين القدوري في كتابه المسمى بشرح الكرخي: قال بشر بن الوليد، سمعت أبا يوسف قال: قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: "بمعاقد العز من عرشك" أو "بحق خلقك".

وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: " معقد العز من عرشه" هو الله، فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: "بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت والمشعر الحرام".

قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لاحق للمخلوق على الخالق، فلايجوز - يعني وفاقا - وهذا من أبي حنيفة، وأبي يوسف، وغيرهما يقتضي المنع أن يسأل الله بغيره.

فإن قيل: الرب سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته، وليس لنا أن نقسم عليه إلا به. فهلا قيل: يجوز أن يقسم عليه بمخلوقاته، وأن لا يقسم على مخلوق إلا بالخالق تعالى؟.

قيل: لأن إقسامه سبحانه بمخلوقاته من باب مدحه والثناء عليه وذكر آياته، وإقسامنا نحن بذلك شرك إذا أقسمنا به لحض غيرنا أو لمنعه أو تصديق خبر أو تكذيبه.

ومن قال لغيره: أسألك بكذا؛ فإما أن يكون مقسما فهذا لا يجوز بغير الله تعالى، والكفارة في هذا على المقسم، لاعلى المقسم عليه، كما صرح بذلك أئمة الفقهاء، وإن لم يكن مقسما فهو من باب السؤال، فهذا لاكفارة فيه على واحد منهما.

فتبين أن السائل لله بخلقه إما أن يكون حالفا بمخلوق، وذلك لا يجوز. وإما أن يكون سائلا به، وقد تقدم تفصيل ذلك.

وإذا قال: "بالله افعل كذا" فلا كفارة فيه على واحد منهما، وإذا قال: " أقسمت عليك بالله لتفعلن" أو "والله لتفعلن" فلم يبر قسمه لزمت الكفارة للحالف. والذي يدعو بصيغة السؤال فهو من باب السؤال به.

وأما إذا أقسم على الله تعالى مثل أن يقول: أقسمت عليك يارب لتفعلن كذا، كما كان يفعل البراء بن مالك وغيره من السلف، فقد ثبت في الصحيح عن النبي أنه قال: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره".

وفي الصحيح أنه قال، لما قال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية الربيع، فقال النبي : " ياأنس، كتاب الله القصاص" فعفا القوم، فقال النبي : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره".

وهذا من باب الحلف بالله لتفعلن هذا الأمر، فهو إقسام عليه تعالى، وليس إقساما عليه بمخلوق.

وينبغي للخلق أن يدعوا بالأدعية الشرعية التي جاء بها الكتاب والسنة، فإن ذلك لاريب في فضله وحسنه، وأنه الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

وقد تقدم أن مايذكره بعض العامة من قوله : "إذا كانت لكم حاجة فاسألوا الله بجاهي"، حديث باطل لم يروه أحد من أهل العلم، ولا هو في شيء من كتب الحديث، وإنما المشروع الصلاة عليه في كل دعاء.

ولهذا لما ذكر العلماء الدعاء في الاستسقاء وغيره ذكروا الصلاة عليه، ولم يذكروا فيما شرع للمسلمين في هذه الحال التوسل به، كما لم يذكر أحد من العلماء دعاء غير الله والاستعانة المطلقة بغيره في حال من الأحوال. وإن كان بينهما فرق فإن دعاء غير الله كفر، ولهذا لم ينقل دعاء أحد من الموتى والغائبين -لا الأنبياء ولاغيرهم- عن أحد من السلف وأئمة العلم، وإنما ذكره بعض المتأخرين ممن ليس من أئمة العلم المجتهدين، بخلاف قولهم: أسألك بجاه نبينا أو بحقه، فإن هذا مما نقل عن بعض المتقدمين فعله، ولم يكن مشهورا بينهم ولافيه سنة عن النبي ، بل السنة تدل على النهى عنه كما نقل ذلك عن ابي حنيفة وأبي يوسف وغيرهما.

ورأيت في فتاوي الفقيه أبي محمد بن عبدالسلام قال: لا يجوز أن يتوسل إلى الله بأحد من خلقه إلا برسول الله إن صح حديث الأعمى. فلم يعرف صحته.

وقد تقدم أن هذا الحديث لا يدل إلا على التوسل بدعائه، ليس من باب الإقسام بالمخلوق على الله تعالى، ولا من باب السؤال بذات الرسول كما تقدم.

والذين يتوسلون بذاته لقبول الدعاء وعدلوا عما أمروا به وشرع لهم -وهو من أنفع الأمور لهم- إلى ماليس كذلك، فإن الصلاة عليه من أعظم الوسائل التي بها يستجاب الدعاء، وقد أمر الله بها.

والصلاة عليه في الدعاء هو الذي دل عليه الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى 25: {إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

وفي الصحيح عنه أنه قال: "من صلى عليَّ مرة صلى الله عليه عشرا".

وعن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله قال: سمع رسول اله رجلا يدعو في صلاته لم يحمد الله، ولم يصل على النبي ، فقال رسول اله : "عجل هذا!" ثم دعاه فقال له أو لغيره: " إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد ربه، ثم يصلي على النبي، ثم يدعو بعده بما شاء" رواه أحمد وأبوداود. -وهذا لفظه- والترمذي والنسائي. وقال الترمذي حديث صحيح.

وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي يقول: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل مايقول، ثم صلوا عليَّ، فإن من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة".

وفي سنن أبي داود والنسائي عنه أن رجلا قال: يارسول الله إن المؤذنين يفضلوننا، فقال رسول الله : "قل كما يقولون، فإذا انتهيت سل تعطه".

وفي المسند عن جابر بن عبدالله قال: "من قال حين ينادي المنادي: اللهم رب هذه الدعوة القائمة والصلاة النافعة صل على محمد وارض عنه رضا لاسخط بعده. استجاب الله له دعوته".

وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة". رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديث حسن.

وعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله : " ساعتان تفتح فيهما أبو اب السماء قلما ترد على داعٍ دعوته: عند حصول النداء، والصف في سبيل الله"، رواه أبو داود.


هامش

  1. (3: 79-80)
  2. (34: 22-23)
  3. (2: 255)
  4. (10-3)
  5. (32-4)
  6. (10-18)
  7. (36: 22-25)
  8. (11: 7)
  9. (18: 110)
  10. (42: 21)
  11. (3: 31)
  12. (24: 54)
  13. (4: 13)
  14. (72: 6)
  15. (5: 35)
  16. (17: 57)
  17. (4: 1)
  18. (6: 64)
  19. (30: 47)
  20. (9: 111)
  21. (3: 193)
  22. (3: 19)
  23. (22: 109)
  24. (3: 53)
  25. (33: 56)


قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لابن تيمية
الصفحة الأولى | الثانية | الثالثة | الرابعة | الخامسة | السادسة | السابعة | الثامنة | التاسعة | العاشرة | الحادية عشر | الثانية عشر