[قال الشافعي]: رحمه الله: الحال التي يبلغ فيها الرجل والمرأة رشدهما حتى يكونا يليان أموالهما قال الله عز وجل {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا}.
[قال الشافعي]: فدلت هذه الآية على أن الحجر ثابت على اليتامى حتى يجمعوا خصلتين: البلوغ والرشد فالبلوغ استكمال خمس عشرة سنة الذكر والأنثى في ذلك سواء إلا أن يحتلم الرجل أو تحيض المرأة قبل خمس عشرة سنة فيكون ذلك البلوغ ودل قول الله عز وجل {فادفعوا إليهم أموالهم} على أنهم إذا جمعوا البلوغ والرشد لم يكن لأحد أن يلي عليهم أموالهم وكانوا أولى بولاية أموالهم من غيرهم وجاز لهم في أموالهم ما يجوز لمن خرج من الولاية ممن ولي فخرج منها أو لم يول وأن الذكر والأنثى فيهما سواء. والرشد والله أعلم الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة وإصلاح المال وإنما يعرف إصلاح المال بأن يختبر اليتيم والاختبار يختلف بقدر حال المختبر فإن كان من الرجال ممن يتبذل فيختلط الناس استدل بمخالطته الناس في الشراء والبيع قبل البلوغ وبعده حتى يعرف أنه يحب توفير ماله والزيادة فيه وأن لا يتلفه فيما لا يعود عليه نفعه كان اختبار هذا قريبا وإن كان ممن يصان عن الأسواق كان اختباره أبعد قليلا من اختبار الذي قبله.
[قال الشافعي]: ويدفع إلى المولى عليه نفقة شهر فإن أحسن إنفاقها على نفسه وأحسن شراء ما يحتاج إليه منها مع النفقة اختبر بشيء يسير يدفع إليه فإذا أونس منه توفير له وعقل يعرف به حسن النظر لنفسه في إبقاء ماله دفع إليه ماله. واختبار المرأة مع علم صلاحها بقلة مخالطتها في البيع والشراء أبعد من هذا قليلا فيختبرها النساء وذوو المحارم بها بمثل ما وصفنا من دفع النفقة وما يشترى لها من الأدم وغيره فإذا آنسوا منها صلاحا لما تعطى من نفقتها كما وصفت في الغلام البالغ فإذا عرف منها صلاح دفع إليها اليسير منه فإن هي أصلحته دفع إليها مالها نكحت أو لم تنكح لا يزيد في رشدها ولا ينقص منه النكاح ولا تركه كما لا يزيد في رشد الغلام ولا ينقص منه وأيهما نكح وهو غير رشيد وولد له ولي عليه ماله؛ لأن شرط الله عز وجل أن يدفع إليه إذا جمع الرشد مع البلوغ، وليس النكاح بواحد منهما، وأيهما صار إلى ولاية ماله فله أن يفعل في ماله ما يفعل غيره من أهل الأموال وسواء في ذلك المرأة والرجل وذات زوج كانت أو غير ذات زوج، وليس الزوج من ولاية مال المرأة بسبيل، ولا يختلف أحد من أهل العلم علمته أن الرجل والمرأة إذا صار كل واحد منهما إلى أن يجمع البلوغ والرشد سواء في دفع أموالهما إليهما؛ لأنهما من اليتامى فإذا صارا إلى أن يخرجا من الولاية فهما كغيرهما يجوز لكل واحد منهما في ماله ما يجوز لكل من لا يولى عليه غيره. فإن قال قائل: المرأة ذات الزوج مفارقة للرجل لا تعطي المرأة من مالها بغير إذن زوجها قيل له كتاب الله عز وجل في أمره بالدفع إلى اليتامى إذا بلغوا الرشد يدل على خلاف ما قلت؛ لأن من أخرج الله عز وجل من الولاية لم يكن لأحد أن يلي عليه إلا بحال يحدث له من سفه وفساد، وكذلك الرجل والمرأة أو حق يلزمه لمسلم في ماله فأما ما لم يكن هكذا فالرجل والمرأة سواء فإن فرقت بينهما فعليك أن تأتي ببرهان على فرقك بين المجتمع فإن قال قائل فقد روي أن (ليس للمرأة أن تعطي من مالها شيئا بغير إذن زوجها). قيل: قد سمعناه، وليس بثابت فيلزمنا أن نقول به والقرآن يدل على خلافه ثم السنة ثم الأثر ثم المعقول فإن قال فاذكر القرآن قلنا الآية التي أمر الله عز وجل بدفع أموالهم إليهم وسوى فيها بين الرجل والمرأة، ولا يجوز أن يفرق بينهما بغير خبر لازم. فإن قال أفتجد في القرآن دلالة على ما وصفت سوى هذا؟ قيل نعم قال الله عز وجل {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير} فدلت هذه الآية على أن على الرجل أن يسلم إلى المرأة نصف مهرها كما كان عليه أن يسلم إلى الأجنبيين من الرجال ما وجب لهم. ودلت السنة على أن المرأة مسلطة على أن تعفو من مالها وندب الله عز وجل إلى العفو وذكر أنه أقرب للتقوى وسوى بين المرأة والرجل فيما يجوز من عفو كل واحد منهما ما وجب له يجوز عفوه إذا دفع المهر كله وكان له أن يرجع بنصفه فعفاه جاز، وإذا لم يدفعه فكان لها أن تأخذ نصفه فعفته جاز لم يفرق بينهما في ذلك. وقال عز وجل: {وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا} فجعل في إيتائهن ما فرض لهن من فريضة على أزواجهن يدفعونه إليهن دفعهم إلى غيرهم من الرجال ممن وجب له عليهم حق بوجه وحل للرجال أكل ما طاب نساؤهم عنه نفسا كما حل لهم ما طاب الأجنبيون من أموالهم عنه نفسا وما طابوا هم لأزواجهم عنه نفسا لم يفرق بين حكمهم وحكم أزواجهم والأجنبيين وغير أزواجهم فيما أوجبه من دفع حقوقهن، وأحل ما طبن عنه نفسا من أموالهن وحرم من أموالهن ما حرم من أموال الأجنبيين فيما ذكرت. وفي قول الله عز وجل {وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا} الآية. وقال عز وجل {فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} فأحله إذا كان من قبل المرأة كما حل للرجل من مال الأجنبيين بغير توقيت شيء فيه ثلث، ولا أقل، ولا أكثر وحرمه إذا كان من قبل الرجل كما حرم أموال الأجنبيين أن يغتصبوها قال الله عز وجل {ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد} الآية. فلم يفرق بين الزوج والمرأة في أن لكل واحد منهما أن يوصي في ماله وفي أن دين كل واحد منهما لازم له في ماله فإذا كان هذا هكذا كان لها أن تعطي من مالها من شاءت بغير إذن زوجها وكان لها أن تحبس مهرها وتهبه، ولا تضع منه شيئا وكان لها إذا طلقها أخذ نصف ما أعطاها لا نصف ما اشترت لها دونه إذا كان لها المهر كان لها حبسه وما أشبهه. فإن قال قائل: فأين السنة في هذا؟ قلت [أخبرنا] مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن أخبرته (أن حبيبة بنت سهل الأنصارية كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله ﷺ خرج لصلاة الصبح فوجد حبيبة بنت سهل عند بابه في الغلس فقال رسول الله ﷺ من هذه؟ فقالت أنا حبيبة بنت سهل يا رسول الله فقال ما شأنك؟ فقالت لا أنا، ولا ثابت بن قيس لزوجها فلما جاء ثابت بن قيس قال له رسول الله ﷺ هذه حبيبة بنت سهل قد ذكرت ما شاء الله أن تذكر فقالت حبيبة يا رسول الله كل ما أعطاني عندي فقال رسول الله ﷺ خذ منها فأخذ منها وجلست في أهلها).
[قال الشافعي]: أخبرنا مالك عن نافع عن مولاة لصفية بنت أبي عبيد أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر.
[قال الشافعي]: فدلت السنة على ما دل عليه القرآن من أنها إذا اختلعت من زوجها حل لزوجها الأخذ منها، ولو كانت لا يجوز لها في مالها ما يجوز لمن لا حجر عليه من الرجال ما حل له خلعها. فإن قال قائل: وأين القياس والمعقول؟ قلت إذا أباح الله تعالى لزوجها ما أعطته فهذا لا يكون إلا لمن يجوز له ماله وإذا كان مالها يورث عنها وكانت تمنعه زوجها فيكون لها فهي كغيرها من ذوي الأموال قال، ولو ذهب ذاهب إلى الحديث الذي لا يثبت أن ليس لها أن تعطي من دون زوجها إلا ما أذن زوجها لم يكن له وجه إلا أن يكون زوجها وليا لها، ولو كان رجل وليا لرجل أو امرأة فوهبت له شيئا لم يحل له أن يأخذه؛ لأن هبتها له كهبتها لغيره لزمه أن يقول لا تعطي من مالها درهما، ولا يجوز لها أن تبيع فيه، ولا تبتاع، ويحكم لها وعليها حكم المحجور عليه، ولو زعم أن زوجها شريك لها في مالها سئل أبالنصف؟ فإن قال نعم قيل فتصنع بالنصف الآخر ما شاءت ويصنع بالنصف ما شاء؟ فإن قال ما قل أو كثر؟ قلت فاجعل لها من مالها شيئا فإن قال: مالها مرهون له. قيل له: فبكم هو مرهون حتى تفتديه؟ فإن قال: ليس بمرهون. قيل له: فقل فيه ما أحببت فهو لا شريك لها في مالها، وليس له عندك وعندنا أن يأخذ من مالها درهما، وليس مالها مرهونا فتفتكه، وليس زوجها وليا لها، ولو كان زوجها وليا لها، وكان سفيها أخرجنا ولايتها من يديه وولينا غيره عليها ومن خرج من هذه الأقاويل لم يخرج إلى أثر يتبع، ولا قياس، ولا معقول. وإذا جاز للمرأة أن تعطي من مالها الثلث لا تزيد عليه فلم يجعلها مولى عليها، ولم يجعل زوجها شريكا، ولا مالها مرهونا في يديه، ولا هي ممنوعة من مالها، ولا مخلى بينها وبينه ثم يجيز لها بعد زمان إخراج الثلث والثلث بعد زمان حتى ينفد مالها فما منعها مالها، ولا خلاها وإياه والله المستعان. فإن قال هو نكحها على اليسر قيل أفرأيت إن نكحت مفلسة ثم أيسرت بعد عنده أيدعها ومالها؟ فإن قال: نعم فقد أخرجها من الحجر وإن قال: لا فقد منعها ما لم تغره به أورأيت إذا قال غرته فلا أتركها تخرج مالها ضرارا؟ قيل أفرأيت إن غر فقيل هي جميلة فوجدها غير جميلة أو غر فقيل هي موسرة فوجدها مفلسة أينقص عنه من صداقها أو يرده عليها بشيء؟ أو رأيت إذا قال هذا في المرأة فإذا كان الرجل دينا موسرا فنكح شريفة، وأعلمتنا أنها لم تنكحه إلا بيسره ثم خدعها فتصدق بماله كله فإذا جاز ذلك له فقد ظلمها بمنعها من مالها ما أباح له. وإن قال أجبرها بأن تبتاع له ما يتجهز به مثلها؛ لأن هذا مما يتعامل به الناس عندنا، وذلك أن المرأة تصدق ألف درهم وتجهز بأكثر من عشرة آلاف وتكون مفلسة لا تجهز إلا بثيابها وبساطها ومما يتعامل الناس به أن الرجل المفلس ذا المروءة ينكح الموسرة فتقول يكون قيما على مالي على هذا تناكحا ويستنفق من مالها وما أشبه هذا مما وصفت ويحسن مما يتعامل الناس وللحاكم الحكم على ما يجب ليس على ما يجمل ويتعامل الناس عليه.
[قال الشافعي]: والحجة تمكن على من خالفنا بأكثر مما وصفت، وفي أقل مما وصفت حجة، ولا يستقيم فيها قول إلا معنى كتاب الله عز وجل والسنة والآثار والقياس من أن صداقها مال من مالها، وأن لها إذا بلغت الرشد أن تفعل في مالها ما يفعل الرجل لا فرق بينها وبينه.