كتاب الأم/الشهادات/الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي



الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي


[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وتجوز الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي في كل حق للآدميين من مال، أو حد، أو قصاص وفي كل حد لله تبارك وتعالى قولان: أحدهما: أنها تجوز، والآخر لا تجوز من قبل درء الحدود بالشبهات، فمن قال تجوز فشهد شاهدان على رجل بالزنا وأربعة على شهادة آخرين بالزنا لم تقبل الشهادة حتى يصفوا زنا واحدا وفي وقت واحد ويثبت الشاهدان على رؤية الزنا وتغيب الفرج في الفرج وتثبت الشهود على الشاهدين مثل ذلك، ثم يقام عليه الحد [قال]: وهكذا كل شهادة زنا لا يقبلها الحاكم فيحد بها حتى يشهدوا بها على زنا واحد فإن شهدوا، فأبهموا ولم يصفوا أنها رؤية واحدة، ثم مات أحدهم، أو ماتوا، أو غاب أحدهم، أو غابوا لم يحدده ولم يحددهم من قبل أنهم لم يثبتوا عليه ما يوجب عليه الحد [قال]: وهكذا لو شهد ثمانية على أربعة في هذا القول أقيم عليه الحد.

[قال]: وإذا سمع الرجلان الرجل يقول: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل لهما اشهدا فليس عليهما أن يقوما بهذه الشهادة فإن قاما بها فليس للقاضي أن يحكم بها؛ لأنه لم يسترعهم الشهادة فيكون إنما شهد بحق ثابت عنده، وقد يجوز أن يقول أشهد أن لفلان عليه ألف درهم وعده إياها، أو من وجه لا يجب لأنه غير مأخوذ بها فإذا كان مؤديها إلى القاضي، أو يسترعي من يؤديها إلى القاضي لم يكن ليفعل إلا وهي عنده واجبة وأحب للقاضي أن لا يقبل هذا منه، وإن كان على الصحة حتى يسأله من أين هي له عليه فإن قال بإقرار منه، أو ببيع حضرته، أو سلف أجازه فإن قال هذا ولم يسأله القاضي كان موضع سغبا ورأيته جائزا من قبل أنه إنما شهد بها على الصحة.

[قال]: وإن أشهد شاهد على شهادة غيره فعليه أن يؤديها وليس للقاضي أن يقبلها حتى يكون معه غيره [قال]: وإذا سمع الرجل الرجل يقر لرجل بمال وصف ذلك من غصب، أو بيع، أو لم يصف ولم يشهده المقر فلازم له أن يؤديها وعلى القاضي أن يقبله، وذلك أن إقراره على نفسه أصدق الأمور عليه [قال]: وإذا سمع الرجل الرجل يقول أشهد أن لفلان على فلان حقا لم يلزم فلانا لأنه لم يقر به وإقرار غيره عليه لا يلزمه ولا يلزمه شيء من ذلك إلا أن يكون شاهدا عليه والشهادة عليه أن يقوم بها عند الحاكم، أو يسترعيها شاهدا، فأما أن ينطق بها وهي عنده كالمزاح فيسمع منه ولا يسترعيها فهذا بين أن ما أقر به على غيره ولا يلزم غيره إقراره ولم يكن شاهدا به فيلزم غيره شهادته.

[قال]: وإذا شهد الشاهدان على رجل أنه قد سرق مالا لرجل فوصفا المال ولم يصفا من حيث سرقه، أو وصفا من حيث سرقه ولم يصفا المال فلا قطع عليه؛ لأنه قد يكون سارقا لا قطع عليه، وذلك أن يختلس، أو يسرق من غير حرز، أو يسرق أقل من ربع دينار فإن مات الشاهدان، أو غابا لم يقطع، وإذا ماتا خلي بعد أن يحلف فإذا غابا حبس حتى يحضرا ويكتب إلى قاضي البلد الذي هما فيه فيقفهما، ثم يقبل ذلك من قبل كتاب القاضي في السرقة ومن لم يقبل كتاب القاضي في السرقة لم يكتب، وإن كانا وصفا السرقة ولم يصفا الحرز أغرمها السارق ولم يقطع.

[قال]: وإذا شهد شهود الزنا على الزنا لم يقم الحد حتى يصفوا الزنا كما وصفت فإن فعلوا أقيم الحد وإن لم يفعلوا حتى غابوا، أو ماتوا، أو غاب أحدهم حبس حتى يصفه فإن مات أحدهم خلى سبيله ولا يقيم الحد عليه أبدا حتى يجتمع أربعة يصفون زنا واحدا فيجب بمثله الحد، أو يحلفه ويخليه ويكون فيما يسأل الإمام الشهود عليه أزنى بامرأة لأنهم قد يعدون الزنا وقع على بهيمة ولعلهم أن يعدوا الاستمناء زنا فلا نحده أبدا حتى يثبتوا الشهادة ويبينوها له فيما يجب في مثله الزنا.

[قال]: وإذا شهد ثلاثة على رجل بالزنا، فأثبتوه فقال الرابع رأيته نال منها ولا أدري أغاب ذلك منه في ذلك منها؟ فمذهب أكثر المفتين أن يحد الثلاثة ولا يحد الرابع، ولو كان الرابع قال أشهد أنه زان، ثم قال هذا القول انبغى أن يحد في قولهم؛ لأنه قاذف لم يثبت الزنا الذي في مثله الحد ولم يحدوا، وهكذا لو شهد أربعة فقالوا رأيناه على هذه المرأة فلم يثبتوا لم يحد ولم يحدوا، ولو قالوا زنى بهذه المرأة، ثم لم يثبتوا حدوا بالقذف؛ لأنهم قذفة لم يخرجوا بالشهادة.

[قال]: وإذا شهد الشهود على السارق بالسرقة لم يكن للإمام أن يلقنه الحجة، وذلك أنه لو جحد قطع ولكن لو ادعيت عليه السرقة ولم تقم عليه بينة فكان من أهل الجهالة بالحد إما بأن يكون مسلما بحضرة سرقته جاء من بلاد حرب وإما أن يكون جافيا ببادية أهل جفاء لم أر بأسا بأن يعرض له بأن يقول لعله لم يسرق، فأما أن يقول له اجحد فلا.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وإذا شهد الشاهدان على سرقة فاختلفا في الشهادة فقال أحدهما سرق من هذه الدار كبشا لفلان وقال الآخر، بل سرقه من هذه الدار، أو شهدا بالرؤية معا وقالا معا سرقه من هذا البيت وقال أحدهما بكرة وقال الآخر عشية، أو قال أحدهما سرق الكبش وهو أبيض وقال الآخر سرقه وهو أسود، أو قال أحدهما كان الذي سرق أقرن وقال الآخر أجم غير أقرن، أو قال أحدهما كان كبشا وقال الآخر كان نعجة فهذا اختلاف لا يقطع به حتى يجتمعا على شيء واحد يجب في مثله القطع ويقال للمسروق منه كل واحد من هذين يكذب صاحبه فادع شهادة أيهما شئت واحلف مع شاهدك فإن قال أحدهما سرق كبشا ووصفه بكرة وقال الآخر سرق كبشا ووصفه عشية فلم يدع المسروق إلا كبشا حلف على أي الكبشين شاء وأخذه، أو ثمنه إن فات، وإن ادعى كبشين حلف مع شهادة كل واحد منهما وأخذ كبشين إذا لم يكونا وصفا أن السرقة واحدة واختلفا في صفتهما فهذه سرقتان يحلف مع كل واحد منهما ويأخذه.

[قال]: وكذلك لو شهد عليه شاهد أنه شرب خمرا اليوم وشاهد آخر أنه شرب خمرا أمس لم يحد من قبل أن أمس غير اليوم، وكذلك لو شهد عليه شاهدان أنه زنى بفلانة في بيت كذا وشهد آخران أنه زنى بها في بيت غيره فلا حد على المشهود عليه ومن حد الشهود إذا لم يتموا أربعة حدهم، وإذا شهد شاهد على رجل أنه قذف رجلا اليوم وشهد آخر عليه أنه قذفه أمس فلا يحد من قبل أنه ليس ثم اثنان يشهدان على قذف واحد، وهكذا لو شهدا عليه بالطلاق فقال أحدهما قال لامرأته أمس أنت طالق وقال الآخر قال لها اليوم أنت طالق فلا طلاق من قبل أن طلاق أمس غير طلاق اليوم وشهادتهما على ابتداء القول الذي يقع به الآن الحد، أو الطلاق، أو العتق كشهادتهما على الفعل وليس هذا كما يشهدان عليه بأنه أقر بشيء مضى منه [قال]: ويحلف في كل شيء من هذا إذا أبطلت عنه الشهادة استحلفته ولم يكن عليه شيء.

[قال]: وهكذا لو قال أشهد أنه قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فدخلها وقال الآخر أشهد أنه قال لامرأته أنت طالق إن ركبت الدابة فركبتها لم تطلق امرأته؛ لأن كل واحد منهما يشهد عليه بطلاق غير طلاق الآخر.

[قال]: وإذا سرق السارق السرقة فشهد عليه أربعة فشهد اثنان أنه ثوب كذا وقيمته كذا وشهد الآخران أنه ذلك الثوب بعينه وقيمته كذا فكانت إحدى الشهادتين يجب فيها القطع، والأخرى لا يجب بها القطع فلا قطع عليه من قبل أنا ندرأ الحدود بالشبهة وهذا أقوى ما يدرأ به الحد ونأخذه بالأقل من القيمتين في الغرم لصاحب السرقة وليس هذا كالذي يشهد عليه رجلان رجل بألف، والآخر بألفين من قبل أنه قد يكون لذلك ألف من وجه وألفان من وجه وهذا لا يكون له إلا ثمن ذلك الثوب الذي اجتمعوا عليه وليس شهود الزيادة بأولى من شهود النقص وأحلفه مع الشاهد الواحد على القيمة إذا ادعى شهادة اللذين شهدا على أكثر القيمتين.

[قال]: ومن شهد على رجل بغير الزنا فلم تتم الشهادة فلا حد على الشاهد ولا بأس أن يفرق القاضي بين الشهود إذا خشي عبثهم، أو جهلهم بما يشهدون عليه، ثم يوقفهم على ما شهدوا عليه وعلى الساعة التي يشهدون فيها وعلى الفعل، والقول كيف كان وعلى من حضر ذلك معهم وعلى ما يستدل به على صحة شهادتهم وشهادة من شهد معهم [قال]: وهكذا إذا اتهمهم بالتحامل، أو الحيف على المشهود عليه والتحامل لمن يشهدون له، أو الجنف له فإن صححوا الشهادة قبلها، وإن اختلفوا فيها اختلافا يفسد الشهادة ألغاها.

[قال]: وإذا أثبت الشهود الشهادة على أي حد ما كان، ثم غابوا، أو ماتوا قبل أن يعدلوا، ثم عدلوا أقيم عليه الحد، وهكذا لو كانوا عدولا، ثم غابوا قبل أن يقام الحد أقيم وهكذا لو خرسوا، أو عموا [قال]: وإذا كان الشهود عدولا، أو عدلوا عند الحاكم أطرد المشهود عليه جرحتهم وقبلها منه على من كان من الناس لا فرق بين الناس في ذلك لأنا نرد شهادة أفضل الناس بالعداوة، والجر إلى نفسه والدفع عنها، ولا تقبل الجرح من الجارح إلا بتفسير ما يجرح به الجارح المجروح فإن الناس قد يجرحون بالاختلاف، والأهواء ويكفر بعضهم بعضا ويضلل بعضهم بعضا ويجرحون بالتأويل فلا يقبل الجرح إلا بنص ما يرى هو مثله يجرح كان الجارح فقيها، أو غير فقيه؛ لما وصفت من التأويل.

[قال]: وإذا شهد شهود على رجل بحد ما كان، أو حق ما كان فقال المشهود عليه هم عبيد، أو لم يقله فحق على الحاكم أن لا يقبل شهادة أحد منهم حتى يثبت عنده بخبرة منه بهم، أو ببينة تقوم عنده أنهم أحرار بالغون مسلمون عدول فإذا ثبت هذا عنده أخبر المشهود عليه، ثم أطرده جرحتهم فإن جاء بها قبلها منه، وإن لم يأت بها أنفذ عليه ما شهدوا به.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلا يمحض الطاعة، والمروءة حتى لا يخلطهما بشيء من معصية ولا ترك مروءة ولا يمحض المعصية ويترك المروءة حتى لا يخلطه بشيء من الطاعة والمروءة. فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة، والمروءة قبلت شهادته، وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة رددت شهادته وكل من كان مقيما على معصية فيها حد وأخذ فلا نجيز شهادته وكل من كان منكشف الكذب مظهره غير مستتر به لم تجز شهادته، وكذلك كل من جرب بشهادة زور وإن كان غير كذاب في الشهادات ومن كان إنما يظن به الكذب وله مخرج منه لم يلزمه اسم كذاب وكل من تأول، فأتى شيئا مستحلا كان فيه حد، أو لم يكن لم ترد شهادته بذلك ألا ترى أن ممن حمل عنه الدين ونصب علما في البلدان من قد يستحل المتعة فيفتي بأن ينكح الرجل المرأة أياما بدراهم مسماة، وذلك عندنا وعند غيرنا من أهل الفقه محرم وأن منهم من يستحل الدينار بعشرة دنانير يدا بيد، وذلك عندنا وعند غيرنا من أهل الفقه محرم وأن منهم من قد تأول فاستحل سفك الدماء ولا نعلم شيئا أعظم من سفك الدماء بعد الشرك ومنهم من تأول فشرب كل مسكر غير الخمر وعاب على من حرمه وغيره يحرمه. ومنهم من أحل إتيان النساء في أدبارهن وغيره يحرمه، ومنهم من أحل بيوعا محرمة عند غيره فإذا كان هؤلاء مع ما وصفت وما أشبهه أهل ثقة في دينهم وقناعة عند من عرفهم، وقد ترك عليهم ما تأولوا، فأخطئوا فيه ولم يجرحوا بعظيم الخطإ إذا كان منهم على وجه الاستحلال كان جميع أهل الأهواء في هذه المنزلة فإذا كانوا هكذا فاللاعب بالشطرنج وإن كرهناها له وبالحمام وإن كرهناها له أخف حالا من هؤلاء بما لا يحصى ولا يقدر، فأما إن قام رجل بالحمام، أو بالشطرنج رددنا بذلك شهادته، وكذلك لو قامر بغيره فقامر على أن يعادي إنسانا، أو يسابقه، أو يناضله، وذلك أنا لا نعلم أحدا من الناس استحل القمار ولا تأوله ولكنه لو جعل فيها سبقا متأولا كالسبق في الرمي وفي الخيل قيل له قد أخطأت خطأ فاحشا ولا ترد شهادته بذلك حتى يقيم عليه بعدما يبين له، وذلك أنه لا غفلة في هذا على أحد وأن العامة مجتمعة على أن هذا محرم قال وبائع الخمر مردود الشهادة لأنه لا فرق بين أحد من المسلمين في أن بيعها محرم، فأما من عصر عنبا فباعه عصيرا فهو في الحال التي باعه فيها حلال كالعنب يشتريه كما يأكل العنب وأحب إلي له أن يحسن التوقي فلا يبيعه ممن يراه يتخذه خمرا فإن فعل لم أفسخ البيع من قبل أنه باعه حلالا ونية صاحبه في إحداث المحرم فيه لا تحرم الحلال ولا ترد شهادته بذلك من قبل أنه قد يعقد ربا ويتخذ خلا فإذا كانت الحال التي باعه فيها حلالا يحل فيها بيعه، وكان قد يتخذ حلالا وحراما فليس الحرام بأولى به من الحلال، بل الحلال أولى به من الحرام وبكل مسلم [قال]: وإذا شهد الشهود بشيء فلم يحكم به الحاكم حتى يحدث للشهود حال ترد بها شهادتهم لم يحكم عليه، ولا يحكم عليه حتى يكونوا عدولا يوم يحكم عليه ولكنه لو حكم بشهادتهم وهم عدول، ثم تغيرت حالهم بعد الحكم لم يرد الحكم؛ لأنه إنما ينظر إلى عدلهم يوم يقطع الحكم بهم.

[قال]: وإذا شهد الشهود على رجل فادعى جرحتهم أجل في جرحتهم بالمصر الذي هو به وما يقاربه فإن جاء بها وإلا أنفذ عليه الحكم، ثم إن جرحهم بعد لم يرد عنه الحكم وإن جاء ببعض ما يجرحهم مثل أن يأتي بشاهد واستأجل في آخر رأيت أن يضرب له أجلا يوسع عليه فيه حتى يجرحهم، أو يعوزه ذلك فيحكم عليه.

[قال]: وإذا شهد الرجل بشهادة، ثم رجع إلى الحاكم فشك فيها، أو قال قد بان لي أني قد غلطت فيها لم يكن للحاكم أن ينفذها ولا يناله بعقوبة؛ لأن الخطأ موضوع عن بني آدم فيما هو أعظم من هذا وقال له لقد كنت أحب أن تتثبت في الشهادة قبل أن تثبت عليها فإن قال قد غلطت على المشهود عليه الأول وهو هذا الآخر طرحتها عن الأول ولم أجزها على الآخر لأنه قد أطلعني على أنه قد شهد فغلط ولكن لو لم يرجع حتى يمضي الحكم بها، ثم يرجع بعد مضي الحكم لم أرد الحكم، وقد مضى وأغرمهما إن كانا شاهدين على قطع دية يد المقطوع في أموالهما حالة؛ لأنهما قد أخطآ عليه، وإن قال عمدنا أن نشهد عليه ليقطع، وقد علمنا أنه سيقطع إذا شهدنا عليه جعلنا للمقطوع الخيار إن شاء أن يقطع يديهما قصاصا، وإن شاء أن يأخذ منهما دية يده أخبرنا سفيان عن مطرف عن الشعبي عن علي رضي الله تعالى عنه [قال]: وإذا كان الراجع شاهدا واحدا بعد مضي الحكم فالقول فيه كالقول في الأول يضمن نصف دية يده وإن عمد قطعت يده هو، فأما إذا أقرا بعمد شهادة الزور في شيء ليس فيه قصاص فإني أعاقبهما دون الحد ولا تجوز شهادتهما على شيء بعد حتى يختبرا ويجعل هذا حادثا منهما يحتاج إلى اختبارهما بعده إذا بينا أنهما أخطآ على من شهدا عليه، فأما لو شهدا، ثم قالا لا تنفذ شهادتنا فإنا قد شككنا فيها لم ينفذها، وكان له أن ينفذ شهادتهما في غيرها؛ لأن قولهما قد شككنا ليس هو قولهما أخطأنا.

[قال]: وإذا شهد الشهود لرجل بحق في قصاص، أو قذف، أو مال، أو غيره فأكذب الشهود المشهود له لم يكن له بعد إكذابهم مرة أن يأخذ بشيء من ذلك الذي شهدوا له به وهو أولى بحق نفسه وأحرى أن يبطل الحكم به إذا أكذب الشهود وإنما له شهدوا وهو على نفسه أصدق، ولو لم يكذب الشهود ولكنهم رجعوا، وقد شهدوا له بقذف، أو غيره لم يقض له بشيء.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: الرجوع عن الشهادات ضربان فإذا شهد الشاهدان، أو الشهود على رجل بشيء يتلف من بدنه، أو ينال مثل قطع، أو جلد، أو قصاص في قتل، أو جرح وفعل ذلك به، ثم رجعوا فقالوا عمدنا أن ينال ذلك منه بشهادتنا فهي كالجناية عليه ما كان فيه من ذلك قصاص خير بين أن يقتص، أو يأخذ العقل وما لم يكن فيه من ذلك قصاص أخذ فيه العقل وعزروا دون الحد، ولو قالوا عمدنا الباطل ولم نعلم أن هذا يجب عليه عزروا وأخذ منهم العقل، وكان هذا عمدا يشبه الخطأ فيما يقتص منه وما لا يقتص منه، ولو قالا أخطأنا، أو شككنا لم يكن في شيء من هذا عقوبة ولا قصاص، وكان عليهم فيه الأرش.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: ولو شهدوا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا ففرق بينهما الحاكم، ثم رجعوا أغرمهم الحاكم صداق مثلها إن كان دخل بها، وإن لم يكن دخل بها غرمهم نصف صداق مثلها لأنهم حرموها عليه ولم يكن لها قيمة إلا مهر مثلها ولا ألتفت إلى ما أعطاها قل، أو كثر إنما ألتفت إلى ما أتلفوا عليه فأجعل له قيمته [قال]: وإذا كانوا إنما شهدوا على الرجل بمال يملك، فأخرجوه من يديه بشهادتهم إلى غيره عاقبتهم على عمد شهادة الزور ولم أعاقبهم على الخطإ ولم أغرمهم من قبل أني لو قبلت قولهم الآخر وكانوا شهدوا على دار قائمة أخرجت فرددتها إليه لم يجز أن أغرمهم شيئا قائما بعينه قد أخرجته من ملك مالكه. وقد قال بعض البصريين إنه ينقض الحكم في هذا كله فترد الدار إلى الذي أخرجها من يديه أولا وإنما منعنا من هذا أنا إن جعلناه عدلا بالأول فأمضينا به الحكم ولم يرجع قبل مضيه أنا إن نقضناه جعلنا للآخر في غير موضع عدالة فنجيز شهادته على الرجوع ولم يكن أتلف شيئا لا يوجد إنما أخرج من يدي رجل شيئا فكان الحكم أن ذلك حق في الظاهر فلما رجع كان كمبتدئ شهادة لا تجوز شهادته وهو لم يأخذ شيئا لنفسه فانتزعه من يديه ولم يفت شيئا لا ينتفع به من أفاته وإنما شهد بشيء انتفع به غيره فلم أغرمه ما أقر بيدي غيره.

[قال]: وإذا شهد الرجل، أو الاثنان على رجل أنه أعتق عبده، أو أن هذا العبد حر الأصل فرددت شهادتهما، ثم ملكاه، أو أحدهما عتق عليهما، أو على المالك له منهما؛ لأنه أقر بأنه حر لا يحل لأحد ملكه، ولا أقبل منه أن يقول شهدت أولا بباطل [قال]: وهكذا لو قال لعبد لأبيه قد أعتقه أبي في وصية وهو يخرج من الثلث، ثم قال كذبت لم يكن له أن يملك منه شيئا؛ لأنه قد أقر له بالحرية.

[قال]: وإذا شهد الرجلان على رجل بشهادة فأجازها القاضي، ثم علم بعد أنهما عبدان، أو مشركان، أو أحدهما فعليه رد الحكم، ثم يقضي بيمين وشاهدان كان أحدهما عدلا، وكان مما يجوز فيه اليمين مع الشاهد.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وهكذا لو علم أنهما يوم شهدا كانا غير عدلين من جرح بين في أبدانهما، أو في أديانهما لا أجد بينهما وبين العبد فرقا في أنه ليس لواحد منهما شهادة في هذه الحال فإذا كانوا بشيء ثابت في أنفسهم من فسق، أو عبودية، أو كفر لا يحل ابتداء القضاء بشهادتهم فقضى بها كان القضاء نفسه خطأ بينا عند كل أحد ينبغي أن يرده القاضي على نفسه ويرده على غيره، بل القاضي بشهادة الفاسق أبين خطأ من القاضي بشهادة العبد، وذلك أن الله عز وجل قال: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} وقال: {ممن ترضون من الشهداء} وليس الفاسق واحدا من هذين، فمن قضى بشهادته فقد خالف حكم الله عز وجل وعليه رد قضائه ورد شهادة العبد إنما هو تأويل ليس ببين واتباع بعض أهل العلم، ولو كانا شهدا على رجل بقصاص، أو قطع فأنفذه القاضي، ثم بان له لم يكن عليهما شيء لأنهما صادقان في الظاهر، وكان على القاضي أن لا يقبل شهادتهما فهذا خطأ من القاضي تحمله عاقلته فيكون للمقضي عليه بالقصاص، أو القطع أرش يده إذا كان جاء ذلك بخطإ فإن أقر أنه جاء ذلك عمدا وهو يعلم أنه ليس ذلك له فعليه القصاص فيما فيه قصاص وهو غير محمود.

[قال]: وإذا مات الرجل وترك ابنا وارثا لا وارث له غيره فأقر أن هذه الألف الدرهم لهذا الرجل وهي ثلث مال أبيه، أو أكثر دفعنا إليه.

كتاب الأم - الشهادات
باب إجازة شهادة المحدود | باب شهادة الأعمى | شهادة الوالد للولد والولد للوالد | شهادة الغلام والعبد والكافر | شهادة النساء | شهادة القاضي | رؤية الهلال | شهادة الصبيان | الشهادة على الشهادة | الشهادة على الجراح | شهادة الوارث | الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي