كتاب الأم/كتاب قتال أهل البغي وأهل الردة/الخلاف في قتال أهل البغي

ملاحظات: الخلاف في قتال أهل البغي


[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: حضرني بعض الناس الذي حكيت حجته بحديث عثمان فكلمني بما وصفت وحكيت له جملة ما ذكرت في قتال أهل البغي فقال هذا كما قلت وما علمت أحدا احتج في هذا بشبيه بما احتججت به ولقد خالفك أصحابنا منه في مواضع. قلت: وما هي؟ قال: قالوا إذا كانت للفئة الباغية فئة ترجع إليها وانهزموا قتلوا منهزمين وذفف عليهم جرحى وقتلوا أسرى فإن كانت حربهم قائمة فأسر منهم أسير قتل أسيرهم وذفف على جرحاهم، فأما إذا لم يكن لأهل البغي فئة وانهزم عسكرهم فلا يحل أن يقتل مدبرهم ولا أسيرهم ولا يذفف على جرحاهم.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقلت له إذا زعمت أن ما احتججنا به حجة فكيف رغبت عن الأمر الذي فيه الحجة أقلت بهذا خبرا أو قياسا؟ قال: بل قلت به خبرا. قلت: وما الخبر؟ قال إن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال يوم الجمل: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح فكان ذلك عندنا على أنه ليس لأهل الجمل فئة يرجعون إليها.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: فقلت له أفرويت عن علي أنه قال لو كانت لهم فئة يرجعون إليها قتلنا مدبرهم وأسيرهم وجريحهم فتستدل باختلاف حكمه على اختلاف السيرة في الطائفتين عنده؟ قال لا ولكنه عندي على هذا المعنى. قلت أفبدلالة؟ فأوجدناها. فقال فكيف يجوز قتلهم مقبلين ولا يجوز مدبرين؟ قلت بما قلنا من أن الله عز وجل إنما أذن بقتالهم إذا كانوا باغين. قال الله تبارك وتعالى {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} وإنما يقاتل من يقاتل، فأما من لا يقاتل فإنما يقال اقتلوه لا فقاتلوه ولو كان فيما احتججت به من هذا حجة كانت عليك لأنك تقول لا تقتلون مدبرا ولا أسيرا ولا جريحا إذا انهزم عسكرهم ولم تكن لهم فئة قال قلته اتباعا لعلي بن أبي طالب قلت فقد خالفت علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مثل ما اتبعته فيه، وقلت أرأيت إن احتج عليك أحد بمثل حجتك وقال نقتلهم بكل حال وإن انهزم عسكرهم لأن عليا قد يكون ترك قتلهم على وجه المن لا على وجه التحريم قال ليس ذلك له وإن احتمل ذلك الحديث لأنه ليس في الحديث دلالة عليه قلت ولا لك لأنه ليس في حديث علي رضي الله تعالى عنه ولا يحتمله دلالة على قتل من كانت له فئة موليا وأسيرا أو جريحا. [قال]: وقلت وما ألفيته من هذا المعنى ما هو إلا واحد من معنيين، إما ما قلنا بالاستدلال بحكم الله عز وجل وفعل من يقتدى به من السلف فإن أبا بكر قد أسر غير واحد ممن منع الصدقة فما ضربه ولا قتله، وعلي رضي الله تعالى عنه قد أسر وقدر على من امتنع فما ضربه ولا قتله، وإما أن يكون خروجهم إلى هذا يحل دماءهم فيقتلون في كل حال كانت لهم فئة أو لم تكن قال لا يقتلون في هذه الحال. قلت أجل ولا في الحال التي أبحت دماءهم فيها، وقد كان معاوية بالشام فكان يحتمل أن تكون لهم فئة كانوا كثيرا وانصرف بعضهم قبل بعض فكانوا يحتملون أن تكون الفئة المنصرفة أولا فئة للفئة المنصرفة آخرا، وقد كانت في المسلمين هزيمة يوم أحد وثبت رسول الله وطائفة بالشعب فكان النبي فئة لمن انحاز إليه وهم في موضع واحد وقد يكون للقوم فئة فينهزمون ولا يريدونها ولا يريدون العودة للقتال ولا يكون لهم فئة فينهزمون يريدون الرجوع للقتال وقد وجدت القوم يريدون القتال ويشحذون السلاح فتزعم نحن وأنت أنه ليس لنا قتالهم ما لم ينصبوا إماما ويسيروا ونحن نخافهم على الإيقاع بنا فكيف أبحت قتالهم بإرادة غيرهم القتال أو بترك غيرهم الهزيمة وقد انهزموا هم وجرحوا وأسروا ولا تبيح قتالهم بإرادتهم القتال؟ وقلت له لو لم يكن عليك في هذا حجة إلا فعل علي بن أبي طالب وقوله كنت محجوجا بفعل علي وقوله قال وما ذاك؟ قلت أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي فاختة أن عليا رضي الله تعالى عنه أتي بأسير يوم صفين فقال لا تقتلني صبرا فقال علي " لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين " فخلى سبيله ثم قال أفيك خير أيبايع؟

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: والحرب يوم صفين قائمة ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها منتصفا أو مستعليا وعلي يقول لأسير من أصحاب معاوية لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين وأنت تأمر بقتل مثله؟ قال فلعله من عليه قلت هو يقول إني أخاف الله رب العالمين قال يقول إني أخاف الله فأطلب الأجر بالمن عليك قلت أفيجوز إذ قال لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح لمن لا فئة له مثل حجتك؟ قال لا لأنه لا دلالة في الحديث عليه قلت ولا دلالة في حديث أبي فاختة على ما قلت وفيه الدلالة على خلافك لأنه لو قاله رجاء الأجر قال إني لارجو الله. واسم الرجاء بمن ترك شيئا مباحا له أولى من اسم الخوف واسم الخوف بمن ترك شيئا خوف المأثم أولى وإن احتمل اللسان المعنيين قال فإن أصحابنا يقولون قولك لا نستمتع من أموال أهل البغي بشيء إلا في حال واحدة قلت وما تلك الحال؟ قال إذا كانت الحرب قائمة استمتع بدوابهم وسلاحهم فإذا انقضت الحرب رد ذلك عليهم وعلى ورثتهم قلت أفرأيت إن عارضنا وإياك معارض يستحل مال من استحل دمه من أهل القبلة؟ فقال الدم عند الله تعالى أعظم حرمة من المال فإذا حل الدم كان المال له تبعا هل الحجة عليه إلا أن يقال هذا في رجال أهل الحرب الذين خالفوا دين الله عز وجل هكذا وتحل أموالهم أيضا بما لا تحل به دماؤهم وذلك إن يسبى ذراريهم ونساؤهم فيسترقون وتؤخذ أموالهم والحكم في أهل القبلة مباين لهذا قد يحل دم الزاني منهم والقاتل ولا يحل من مالهما شيء وذلك لجنايتهما ولا جناية على أموالهما والباغي أخف حالا منهما لأنه يقال للزاني المحصن والقاتل هذا مباح الدم مطلقا لا استثناء فيه ولا يقال للباغي مباح الدم إنما يقال على الباغي أن يمنع من البغي فإن قدر على منعه منه بالكلام أو كان باغيا غير ممتنع مقاتل لم يحل قتاله وإن يقاتل فلم يخلص إلى دمه حتى يصير في غير معنى قتال بتولية أو أن يصير جريحا أو ملقيا للسلاح أو أسيرا لم يحل دمه فقال هذا الذي إذا كان هكذا حرم أو مثل حال الزاني والقاتل محرم المال قال ما الحجة عليه إلا هذا وما فوق هذا حجة؟ فقلت هل الذي حمدت حجة عليك؟ قال إني إنما آخذه لأنه أقوى لي وأوهن لهم ما كانوا يقاتلون فقلت فهل يعدو ما أخذت من أموالهم أن تأخذ مال قتيل قد صار ملكه لطفل أو كبير لم يقاتلك قط فتقوى بمال غائب عنك غير باغ على باغ يقاتلك غيره أو مال جريح أو أسير أو مول قد صاروا في غير معنى أهل البغي الذين يحل قتالهم وأموالهم أو مال رجل يقاتلك يحل لك دفعه وإن أتى الدفع على نفسه ولا جناية على ماله أو رأيت لو سبى أهل البغي قوما من المسلمين أنأخذ من أموالهم ما نستعين به على قتال أهل البغي لنستنقذهم فنعطيهم باستنقاذهم خيرا مما نستمتع به من أموالهم؟ قال لا قلت وقليل الاستمتاع بأموال الناس محرم؟ قال نعم قلت فما أحل لك الاستمتاع بأموال أهل البغي حتى تنقضي الحرب ثم استمتعت بالكراع والسلاح دون الطعام والثياب، والمال غيرهما؟ قال فما فيه قياس وما القياس فيه إلا ما قلت ولكني قلته خبرا قلت وما الخبر؟ قال بلغنا أن عليا رضي الله تعالى عنه غنم ما في عسكر من قاتله فقلت له قد رويتم أن عليا عرف ورثة أهل النهروان حتى تغيب قدر أو مرجل أفسار على علي بسيرتين إحداهما غنم والأخرى لم يغنم فيها؟ قال لا ولكن أحد الحديثين وهم قلت فأيهما الوهم؟ قال ما تقول أنت؟ قلت ما أعرف منهما واحدا ثابتا عنه فإن عرفت الثابت فقل بما يثبت عنه قال ماله أن يغنم أموالهم قلت ألأن أموالهم محبة؟ قال نعم فقلت فقد خالفت الحديثين عنه وأنت لا تغنم وقد زعمت أنه غنم ولا تترك وقد زعمت أنه ترك قال إنما استمتع بها في حال قلت فالمحظور يستمتع به فيما سوى هذا؟ قال لا قلت أفيجوز أن يكون شيئان محظوران فيستمتع بأحدهما ويحرم الاستمتاع بالآخر بلا خبر؟ قال لا قلت فقد أجزته.

[قال الشافعي] رحمه الله تعالى: وقلت له أرأيت لو وجدت لهم دنانير أو دراهم تقويك عليهم أتأخذها؟ قال لا قلت فقد تركت ما هو أشد لك عليهم تقوية من السلاح والكراع في بعض الحالات قال فإن صاحبنا يزعم أنه لا يصلي على قتلى أهل البغي فقلت له ولم؟ وصاحبك يصلي على من قتله في حد والمقتول في حد يجب على صاحبك قتله ولا يحل له تركه والباغي يحرم على صاحبك قتله موليا وراجعا عن البغي فإذا ترك صاحبك الصلاة على أحدهما دون الآخر كان من لا يحل له إلا قتله أولى أن يترك الصلاة عليه؟ قال كأنه ذهب إلى أن ذلك عقوبة ليتنكل غيره عن مثل ما صنع قلت أو يعاقبه صاحبك بما لا يسعه أن يعاقبه به؟ فإذا كان ذلك جائزا فليصلبه أو ليحرقه فهو أشد في العقوبة من ترك الصلاة عليه أو يجز رأسه فيبعث به؟ قال لا يفعل به من هذا شيئا قلت وهل يبالي من قاتلك على أنك كافر أن لا تصلي عليه وهو يرى صلاتك لا تقربه إلى الله تعالى؟ وقلت صاحبك لو غنم مال الباغي كان أبلغ في تنكيل الناس حتى لا يصنعوا مثل ما صنع الباغي قال ما ينكل أحد بما ليس له أن ينكل به قلت فقد فعلت وقلت له أتمنع الباغي أن تجوز شهادته أو يناكح أو يوارث أو شيئا مما يجوز لأهل الإسلام؟ قال لا قلت قال فكيف منعته الصلاة وحدها؟ أبخبر؟ لا قلت فإن قال لك قائل أصلي عليه وأمنعه أن يناكح أو يوارث قال ليس له أن يمنعه شيئا مما لا يمنعه المسلم إلا بخبر قلت فقد منعه الصلاة بلا خبر وقال إذا قتل العادل أخاه وأخوه باغ ورثه لأن له قتله وإذا قتله أخوه لم يرثه لأنه ليس له قتله فقلت له فقد زعم بعض أصحابنا أن من قتل أخاه عمدا لم يرث من ماله ولا من دينه إن أخذت منه شيئا ومن قتله خطأ ورث من ماله ولم يرث من ديته شيئا لأنه لا يتهم على أن يكون قتله ليرث ماله وروى هذا عمرو بن شعيب يرفعه فقلت حديث عمرو بن شعيب ضعيف لا تقوم به حجة وقلت إنما قال النبي (ليس لقاتل شيء) هذا على من لزمه اسم القتل أيما كان تعمد القتل أو مرفوعا عنه الإثم بأن عمد غرضا فأصاب إنسانا فكيف لم يقل بهذا في القتيل من أهل البغي والعدل فيقول كل من يلزمه اسم قاتل فلا يرث كما احتججت علينا؟ وأنت أيضا تسوي بينهما في القتل فتقول لا أقيد واحدا منهما من صاحبه وإن كان أحدهما ظالما لأن كلا متأول قال فإن صاحبنا قال نقاتل أهل البغي ولا يدعون لأنهم يعرفون ما يدعون إليه وقال حجتنا فيه أن من بلغته الدعوة من أهل الحرب جاز أن يقاتل ولا يدعى فقلت له لو قاس غيرك أهل البغي بأهل الحرب كنت شبيها بالخروج إلى الإسراف في تضعيفه كما رأيتك تفعل في أقل من هذا قال وما الفرق بينهم؟ قلت أرأيت أهل البغي إذا أظهروا إرادة الخروج علينا والبراءة منا واعتزلوا جماعتنا أتقتلهم في هذه الحال؟ قال لا فقلت ولا نأخذ لهم مالا ولا نسبي لهم ذرية؟ قال لا قلت أفرأيت أهل الحرب إذا كانوا في ديارهم لا يهمون بنا ولا يعرضون بذكرنا أهل قوة على حربنا فتركوها أو ضعف عنها فلم يذكروها أيحل لنا أن نقاتلهم نياما كانوا أو مولين ومرضى ونأخذ ما قدرنا عليه من مال وسبي نسائهم وأطفالهم ورجالهم؟ قال نعم قلت وما يحل منهم مقاتلين مقبلين ومدبرين مثل ما يحل منهم تاركين للحرب غافلين؟ قال نعم قلت وأهل البغي مقبلين يقاتلون ويتركون مولين فلا يؤخذ لهم مال؟ قال نعم قلت أفتراهم يشبهونهم، قال إنهم ليفارقونهم في بعض الأمور قلت بل في أكثرها أو كلها قال فما معنى دعوتهم؟ قلت قد يطلبون الأمر ببعض الخوف والإرعاد فيجتمعون ويعتقدون ويسألون عزل العامل ويذكرون جوره أو رد مظلمته أو ما أشبه هذا فيناظرون فإن كان ما طلبوا حقا أعطوه وإن كان باطلا أقيمت الحجة عليهم فيه فإن تفرقوا قبل هذا تفرقا لا يعودون له فذاك وإن أبوا إلا القتال قوتلوا وقد اجتمعوا في زمان عمر بن عبد العزيز فكلمهم فتفرقوا بلا حرب وقلت له وإذا كانوا عندنا وعندك إذا قاتلوا فأكثروا القتل ثم ولوا لم يقتلوا مولين لحرمة الإسلام مع عظم الجناية فكيف تبيتهم فتقتلهم قبل قتالهم ودعوتهم وقد يمكن فيهم الرجوع بلا سفك دم ولا مؤنة أكثر من الكلام ورد مظلمة إن كانت يجب على الإمام ردها إذا علمها قبل أن يسألها.

كتاب الأم - كتاب قتال أهل البغي وأهل الردة
باب فيمن يجب قتاله من أهل البغي | باب السيرة في أهل البغي | باب الحال التي لا يحل فيها دماء أهل البغي | حكم أهل البغي في الأموال وغيرها | الخلاف في قتال أهل البغي | الأمان