كتاب الاعتصام/الباب الرابع
الباب الرابع في مأخذ أهل البدع بالاستدلال
عدلكل خارج عن السنة ممن يدعي الدخول فيها والكون من أهلها لا بد له من تكلف في الاستدلال بأدلتها على خصوصات مسائلهم ، وإلا كذب اطراحها دعواهم ، بل كل مبتدع من هذه الأمة إما أن تدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فلا يمكنه الرجوع إلى التعلق بشبهها ، وإذا رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الاستدلال مأخذ أهله العارفين بكلام العرب وكليات الشريعة ومقاصدها ، كما كان السلف الأول يأخذونها ، إلا أن هؤلاء ـ كما يتبين بعد ـ لم يبلغوا مبلغ الناظرين فيها بإطلاق . إما لعدم الرسوخ في معرفة كلام العرب والعلم بمقاصدها . وإما لعدم الرسوخ في العلم بقواعد الأصول التي من جهتها تستنبط الأحكام الشرعية ، وإما لعدم الأمرين جميعاً . فبالحري أن تصير مآخذهم للأدلة مخالفة لمأخذ من تقدمهم من المحققين للأمرين .
وإذا تقرر هذا فلا بد من التنبيه على تلك المآخذ لكي تحذر وتتقى فنقول :
قال الله سبحانه وتعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" وذلك أن هذه الآية شملت قسمين هما أصل المشي على طريق الصواب أو على طريق الخطأ .
أحدهما : الراسخون في العلم وهم الثابتو الأقدام في علم الشريعة . ولما كان ذلك متعذراً إلا على من حصل الأمرين المتقدمين لم يكن بد من المعرفة بهما معاً على حسب ما تعطيه المنة الإنسانية ، وإذ ذاك يطلق عليه ( أنه راسخ في العلم ) ومقتضى الآية مدحه ، فهو إذاً أهل للهداية والاستنباط .
وحين خص أهل الزيغ باتباع المتشابه دل التخصيص على أن الراسخين لا يتبعونه ، فإذاً لا يتبعون إلا المحكم وهو أم الكتاب ومعظمه .
فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح ، وما سواه فاسد . إذ ليس بين الصحيح والفاسد واسطة في الأدلة يستند إليها . وإذ لو كان ثم ثالث لنصت عليه الآية .
ثم لما خص الزائغون بكونهم يتبعون المتشابه أيضاً علم أن الراسخين لا يتبعونه ، فإن تأولوه فبالرد إلى المحكم بأن أمكن حمله على المحكم ، بمقتضى القواعد ، فهذا المتشابه الإضافي لا الحقيقي . وليس في الآية نص على حكمه بالنسبة إلى الراسخين ، فليرجع عندهم إلى المحكم الذي هو أم الكتاب ، وإن لم يتأولوه بناءً على أنه متشابه حقيقي ، فيقاتلون بالتسليم وقولهم : "آمنا به كل من عند ربنا" وهؤلاء هم أولو الألباب .
وكذلك ذكر في أهل الزيغ أنهم يتبعون المتشابه ابتغاء الفتنة . فهم يطلبون به أهواءهم لحصول الفتنة . فليس في نظرهم إذاً في الدليل نظر المستبصر حتى يكون هواه تحت حكمه ، بل نظر من حكم بالهوى ، ثم أتى بالدليل كالشاهد له ، ولم يذكر مثل ذلك في الراسخين ، فهم إذن بضد هؤلاء حيث وقفوا في المتشابه فلم يحكموا فيه ولا عليه سوى التسليم ، وهذا المعنى خاص بمن طلب الحق من الأدلة ، لا يدخل فيه من طلب في الأدلة ما يصحح هواه السابق .
ولاقسم الثاني : من ليس براسخ في العلم وهو الزائغ فحصل له من الأدلة وصفان :
أحدهما بالنص وهو الزيغ لقوله تعالى : "فأما الذين في قلوبهم زيغ " والزيغ هو الميل عن الصراط المستقيم وهو ذم لهم .
والوصف الثاني بالمعنى الذي أعطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ في العلم ، وكل منفي عنه الرسوخ فإلى الجهل ما هو مائل ، ومن جهة الجهل حصل له الزيغ ، لأن من نفي عنه طريق الاستنباط ، واتباع الأدلة لبعض الجهالات ، لم يحل له أن يتبع الأدلة المحكمة ولا المتشابهة ، ولو فرضنا أنه يتبع المحكم لم يكن اتباعه مفيداً لحكمه لإمكان أن يتبعه على وجه واضح البطلان أو متشابه . فما ظنك به إذا اتبع المتشابه .
ثم اتباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة الاسترشاد به لا للفتنة به ـ لم يحصل به مقصوداً على حال . فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة ؟ وهكذا المحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به . فكثيراً ما ترى الجهال يحتجون لأنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيح اقتصاراً بالنظر على دليل ما ، واطراحاً للنظر في غيره من الأدلة الأصولية والفروعية العاضدة لنظره أو المعارضة له .
وكثير ممن يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكاً ، وربما أفتى بمقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه غرض ، أو أعرض عن غرض له عرض في الفتيا ، كجواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنموا على طريقة من عز بز لا طريقة الشرع ، بناءً على نقل بعض العلماء أنه يجوز تنفيل السرية جميع ما غنمت ثم عزا ذلك ـ وهو مالكي المذهب ـ إلى مالك حيث قال في كلام روي عنه : ما نفل الإمام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصاً على جواز تنفيل الإمام الجيش جميع ما غنم ، ولم يلتفت في النفل إلى أن السرية هي القطعة من الجيش بعينه . ولا التفت أيضاً إلى أن النفل عند مالك لا يكون إلا من الخمس ، لا اختلاف عنه في ذلك أعلمه ، ولا عن أحد من أصحابه ، فما نفل الإمام منه فهو جائز ، لأنه محمول على الاجتهاد .
وكذلك الأمر في كل مسألة فيها الهوى أولاً ، ثم يطلب لها المخرج من كلام العلماء أو من أدلة الشرع وكلام العرب أبداً ، لاتساعه وتصرفه ، واحتمالاتها كثيرة لكن يعلم الراسخون المراد منه من أوله إلى آخره وفحواه ، أو بساط حاله أو قرائنه . فمن لا يعتبره من أوله إلى آخره ويعتبر ما ابتنى عليه زل في فهمه . وهو شأن من يأخذ الأدلة من أطراف العبارة الشرعية ولا ينظر بعضها ببعض ، فيوشك أن يزل . وليس هذا من شأن الراسخين ، وإنما هو من شأن من استعجل طلباً للمخرج في دعواه .
فقد حصل من الآية المذكورة أن الزيغ لا يجري على طريق الراسخ بغير حكم الاتفاق ، وأن الراسخ لا زيغ معه بالقصد البتة .
فصل إذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر
عدلإذا ثبت هذا رجعنا منه إلى معنى آخر فنقول :
إن للراسخين طريقاً يسلكونها في اتباع الحق . وأن الزائغين على طريق غير طريقهم فاحتجنا إلى بيان الطريق التي سلكها هؤلاء لنتجنبها ، كما نبين الطريق التي سلكها الراسخون لنسلكها ، وقد بين ذلك أهل أصول الفقه وبسطوا القول فيه ، ولم يبسطوا القول في طريق الزائغين . فهل يمكن حصر مآخذها أو لا ؟ فنظرنا في آية أخرى تتعلق بهم كما تتعلق بالراسخين ، وهي قوله تعالى : "وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فأفادت الآية أن طريق الحق واحدة ، وأن للباطل طرقاً متعددة لا واحدة ، وتعددها لم يحص بعدد مخصوص وهكذا الحديث المفسر للآية وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه .
"خط لنا رسول الله ﷺ خطاً فقال : هذا سبيل الله مستقيما . ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال : هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم تلا هذه الآية .
ففي الحديث أنها خطوط متعددة غير محصورة بعدد ، فلم يكن لنا سبيل إلى حصر عددها من جهة النقل ، ولا لنا أيضاً سبيل إلى حصرها من جهة العقل أو الاستقراء .
أما العقل فإنه لا يقضي بعدد دون آخر ، لأنه غير راجع إلى أمر محصور ، ألا ترى أن الزيغ راجع إلى الجهالات ؟ ووجوه الجهل لا تنحصر ، فصار طلب حصرها عناء من غير فائدة .
وأما الاستقراء فغير نافع أيضاً في هذا المطلب ، لأنا لما نظرنا في طرق البدع من حين نبتت وجدناها تزداد على الأيام ، ولا يأتي زمان إلا وغريبة من غرائب الاستنباط تحدث ، إلى زماننا هذا .
وإذا كان كذلك فيمكن أن يحدث بعد زماننا استدلالات أخر لا عهد لنا يها فيما تقدم . لا سيما عند كثرة الجهل ، وقلة العلم ، وبعد الناظرين فيه عن درجة الاجتهاد فلا يمكن إذاً حصرها من هذا الوجه . ولا يقال : إنها ترجع إلى مخالفة طريق الحق . فإن أوجه المخالفة لا تنحصر أيضاً .
فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء . لكنا نذكر من ذلك أوجهاً كلية يقاس عليها ما سواها .
فمنها : اعتمادهم على الأحاديث الواهية الضعيفة ، والمكذوب فيها على رسول الله ﷺ ، والتي لا يقبلها أهل صناعة الحديث في البناء عليها .
وإنما أخذ بعض العلماء بالحديث الحسن لإلحاقه عند المحدثين بالصحيح ، لأن سنده ليس فيه من يعاب بجرحه متفق عليها ، وكذلك أخذ من أخذ منهم بالمرسل ليس إلا من حيث ألحق بالصحيح في أن المتروك ذكره كالمذكور والمعدل ، فأما ما دون ذلك فلا يؤخذ به بحال عند علماء الحديث .
ولو كان من شأن أهل الإسلام إذاً يبين ( ؟ ) عنه الأخذ من الأحاديث بكل ما جاء عن كل من جاء لم يكن لانتصابهم للتعديل والتجريح معنى ، مع أنهم قد أجمعوا على ذلك ، ولا كان لطلب الإسناد معنى يتحصل ، فلذلك جعلوا الإسناد من الدين ولا يعنون حدثني فلان عن فلان مجرداً ، بل يريدون ذلك لما تضمنه من معرفة الرجال الذين براويته عنهم ، حتى لا يسند عن مجهول ولا مجروح ولا منهم ، إلا عمن تحصل الثقة بروايته ، لأن روح المسألة أن يغلب على الظن من غير ريبة أن ذلك الحديث قد قاله النبي ﷺ ، لنعتمد عليه في الشريعة ، ونسند إليه الأحكام .
والأحاديث الضعيفة الإسناد لا يغلب على الظن أن النبي ﷺ ، قالها فلا يمكن أن يسند إليها حكم ، فما ظنك بالأحاديث المعروفة الكذب ؟
نعم الحامل على اعتمادها في الغالب إنما هو ما تقدم من الهوى المتبع ، وهذا كله على فرض أن لا يعارض الحديث أصل من أصول الشريعة ، وأما إذا كان له معارض فأجرى أن لا يؤخذ به ، فهو هدم لأصل من أصول الشريعة ، والإجماع على منعه إذا كان صحيحاً في الظاهر ، وذلك دليل على الوهم من بعض الرواة أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان . فما الظن به إذا لم يصح ؟ على أنه قد روي عن أحمد بن حنبل أنه قال : الحديث الضعيف خير من القياس . وظاهره يقتضي العمل بالحديث غير الصحيح ، لأنه قدمه على القياس المعمول به عند جمهور المسلمين ، بل هو إجماع السلف رضي الله عنهم . فدل على أنه عنده أعلى رتبة في العمل من القياس .
والجواب عن هذا : أنه كلام مجتهد يحتمل اجتهاده الخطأ والصواب ، إذ ليس له على ذلك دليل يقطع العذر ، وإن سلم فيمكن حمله على خلاف ظاهره ، لإجماعهم على طرح الضعيف الإسناد فيجب تأويله على أن يكون أراد به الحسن السند وما دار به على القول بإعماله ، أو أراد خير من القياس لو كان مأخوذاً به فكأنه يرد القياس بذلك الكلام مبالغة في معارضة من اعتمده أصلاً حتى رد به الأحاديث وقد كان رحمه الله تعالى يميل إلى نفي القياس ، ولذلك قال : ما زلنا نلعن أهل الرأي ويلعنونا حتى جاء الشافعي فخرج بيننا . أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي لا أصل له من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، ففضل عليه الحديث الضعيف وإن لم يعمل به . وأيضاً فإذا أمكن أن يحمل كلام أحمد على ما يسوغ لم يصح الاعتماد عليه في معارضة كلام الأئمة رضي الله عنهم .
فإن قيل : هذا كله رد على الأئمة الذين اعتمدوا على الأحاديث التي لم تبلغ درجة الصحيح ، فإنهم كما نصوا على اشتراط صحة الإسناد ، كذلك نصوا أيضاًعلى أن أحاديث الترغيب والترهيب لا يشترط في نقلها للإعتماد صحة ، الإسناد ، بل إن كان ذلك فبها ونعمت ، وإلا فلا حرج على من نقلها واستند إليها ، فقد فعله الأئمة كـ مالك في الموطأ ، وابن المبارك في رقائقه ، وأحمد بن حنبل في رقائقه ، وسفيان في جمع الخير ، وغيرهم .
فكل ما في هذا النوع من المنقولات راجع إلى الترغيب والترهيب ، وإذا جاز اعتماد مثله ، جاز فيما كان نحوه مما يرجع إليه كصلاة الرغائب والمعراج ، وليلة النصف من شعبان ، وليلة أول جمعة من رجب ، وصلاة الإيمان والأسبوع ، وصلاة بر الوالدين ويوم عاشوراء وصيام رجب ، والسابع والعشرين منه ، وما أشبه ذلك ، فإن جميعها راجع إلى الترغيب في العمل الصالح ، فالصلاة على الجملة ثابت أصلها ، وكذلك الصيام وقيام الليل ، كل ذلك راجع إلى خير نقلت فضيلته على الخصوص .
وإذا ثبت هذا فكل ما نقلت فضيلته في الأحاديث فهو من باب الترغيب ، فلا يلزم فيه شهادة أهل الحديث بصحة الإسناد بخلاف الأحكام .
فإذاً هذا الوجه من الاستدلال من طريق الراسخين لا من طريق الذين في قلوبهم زيغ ، حيث فرقوا بين أحاديث الأحكام فاشترطوا فيها الصحة ، وبين أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها ذلك .
فالجواب : أن ما ذكره علماء الحديث من التساهل في أحاديث الترغيب والترهيب لا ينتظم مع مسألتنا المفروضة ، وبيانه : أن العمل المتكلم فيه إما أن يكون منصوصاً على أصله جملة وتفصيلاً ، أو لا يكون منصوصاً عليه لا جملةً ولا تفصيلاً ، أو يكون منصوصاً عليه جملةً لا تفصيلاً .
فالأول : لا إشكال في صحته ، كالصلوات المفروضات والنوافل المرتبة لأسباب وغيرها ، وكالصيام المفروض ، أو المندوب على الوجه المعروف ، إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غير زيادة ولا نقصان ، كصيام عاشوراء أو يوم عرفة والوتر بعد نوافل الليل ، وصلاة الكسوف . فالنص جاء في هذه الأشياء صحيحاً على ما شرطوا ، فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والاستحباب ، فإذا ورد في مثلها أحاديث ترغيب فيها ، أو تحذير من ترك الفرض منها ، وليست بالغة مبلغ الصحة ، ولا هي أيضاً من الضعف بحيث لا يقبلها أحد ، أو كانت موضوعة لا يصح الاستشهاد بها ، فلا بأس بذكرها والتحذير بها والترغيب ، بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح .
والثاني : ظاهر أنه غير صحيح ، وهو عين البدعة . لأنه لا يرجع إلا لمجرد الرأي المبني على الهوى ، وهو أبدع البدع وأفحشها ، كالرهبانية المنفية عن الإسلام ، والخصاء لمن خشي العنت ، والتعبد بالقيام في الشمس ، أو بالصمت من غير كلام أحد . فالترغيب في مثل هذا لا يصح ، إذ لا يوجد في الشرع ، ولا أصل له يرغب في مثله ، أو يحذر من مخالفته .
والثالث : ربما يتوهم أنه كالأول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة في الجملة ، فيسهل في التفصيل نقله من طريق غير مشترط الصحة ، فمطلق التنفل بالصلاة مشروع ، فإذا جاء ترغيب في صلاة ليلة النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب في صلاة النافلة . وكذلك إذا ثبت أصل صيام ، ثبت صيام السابع والعشرين من رجب ، وما أشبه ذلك . وليس كما توهموا ، لأن الأصل إذا ثبت في الجملة لا يلزم غثباته في التفصيل ، فإذا ثبت مطلق الصلاة لا يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر أو غيرها حتى ينص عليها على الخصوص . وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام لا يلزم منه إثبات صوم رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غير ذلك ، حتى يثبت بالفصيل بدليل صحيح . ثم ينظر بعد ذلك في أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إلى ذلك العمل الخاص الثايت بالدليل الصحيح .
وليس فيما ذكر في السؤال شيء من ذلك ، إذ لا ملازمة بين ثبوت التنفل الليلي والنهاري في الجملة ، وبين قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة . يقرأ في كل لاكعة منها بسورة كذا على الخصوص كذا وكذا مرة . ومثله صيام اليوم الفلاني من الشهر الفلاني ، حتى تصير تلك العبادة مقصودة على الخصوص ، ليس في شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلاة أو الصيام .
والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من الأيام أو زمان من الأزمنة بعبادة ما يتضمن حكماً شرعياً فيه على الخصوص ، كما ثبت لعاشوراء مثلاً ، أو لعرفة ، أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام ، فإنه ثبت له مزية على الصيام في مطلق الأيام . فتلك المزية اقتضت مرتبة في الأحكام أعلى من غيرها بحيث لا تفهم من مطلق مشروعية الصلاة النافلة ، لأن مطلق المشروعية يقتضي أن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف في الجملة . وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة التي قبله ، فهو أمر زائد على مطلق المشروعية ، ومساقه يفيد له مزية في الرتبة ، وذلك راجع إلى الحكم .
فإذاً هذا الترغيب الخاص يقتضي مرتبة في نوع من المندوب خاصة ، فلا بد من رجوع إثبات الحكم إلى الأحاديث الصحيحة بناءً على قولهم : إن الأحكام لا تثبت إلا من طريق صحيح والبدع المستدل عليها بغير الصحيح لا بد فيها من الزيادة على المشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية ما . فليزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغير الصحيح ، وهو ناقض لما أسسه العلماء .
ولا يقال : إنهم يريدون أحكام الوجوب والتحريم فقط . لأنا نقول : هذا تحكم من غير دليل ، بل الأحكام خمسة . فكما لا يثبت الوجوب إلا بالصحيح فإذا ثبت الحكم فاستسهل أن يثبت في أحاديث الترغيب والترهيب ، ولا عليك . فعلى كل تقدير : كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه ومرتبته في المشروعات من طريق صحيح فالترغيب فيه بغير الصحيح مغتفر . وإن لم يثبت إلا من
فصل ومنها ضد هذا وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم
عدلومنها ضد هذا . وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ، ويدعون أنها مخالفة للمعقول ، وغيرجارية على مقتضى الدليل ، فيجب ردها . كلمنكرين لعذاب القبر ، والصراط ، والميزان ، ورؤية الله عز وجل في الآخرة . وكذلك .
حديث الذباب وقتله . وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وأنه يقدم الذي فيه الداء ! وحديث :
الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي ﷺ بسقيه العسل ، وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول .
ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم . كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب ، وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة ، لينفروا الأمة عن اتباع السنة وأهلها . كما روي عن أبي بكر بن محمد أنه قال : قال عمرو بن عبيد : ألا يعفى عن اللص دون السلطان . قال فحدثته بحديث صفوان بن أمية عن النبي ﷺ حيث قال :
"فهلا قبل أن تأتيني به" قال : أتحلف بالله أن النبي ﷺ قاله ؟ قلت : أفتحلف بالله أن النبي ﷺ لم يقله ؟ فحدثت به ابن عون ـ قال ـ فلما عظمت الحلقة قال : يا ابا بكر حديث .
وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولاً بما لا يعقل . وقد سئل بعضهم : هل يكفر من قال برؤية الباري في الآخرة ؟ فقال : لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل ، ومن قال ما لا يعقل فليس بكافر .
وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملةً ، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن ، حتى أباحوا الخمر بقوله : "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا " الآية . ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله ﷺ :
"لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" وهذا وعيد شديد تضمنه النهي ، لاحق بمن ارتكب رد السنة .
ولما ردوها بتحكم العقول كان الكلام معهم راجعاً إلى أصل التسحين والتقبيح وهو مذكور في الأصول ، وسيأتي له بيان إن شاء الله .
وقال عمر بن النضر : سئل عمرو بن عبيد يوماً عن شيء ـ وأنا عنده ـ فأجاب فيه . فقلت له : ليس هكذا يقول أصحابنا ، قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت : أيوب ، ويونس ، وابن عون ، والتميمي . قال : أولئك أنجاس أرجال أموات غير أحياء .
وقال ابن علية : حدثني اليسع ، قال : تكلم واصل ( يعني ابن عطاء ) يوماً ـ قال ـ فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة . كان واصل بن عطاء أول من تكلم في الاعتزال فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد فأعجب به ، فزوجه أخته . وقال لها : وزجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة . ثم تجاوزوا الحد حتى ردوا القرآن بالتلويح والتصريح لرأيهم السوء . فحكى عمرو بن علي أنه سمع ممن يثق به أنه قال : كنت عند عمرو بن عبيد ـ وهو جالس على دكان عثمان الطويل ـ فأتاه رجل فقال : يا أبا عثمان ! ما سمعت من الحسن يقول في قول الله عز وجل : "قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم" قال : تريد أخبرك برأي حسن . قال : لا أريد إلا ما سمعت من الحسن . قال : سمعت الحسن يقول : كتب الله على قوم القتل فلا يموتون إلا قتلاً ، وكتب على قوم الهدم فلا يموتون إلا هدماً ، وكتب على قوم الغرق فلا يموتون إلا غرقاً ، وكتب على قوم الحريق فلا يموتون إلا حرقاً . فقال له عثمان الطويل : يا أبا عثمان ، ليس هذا قولنا . قال عمرو : قد قلت أريد أن أخبرك برأي الحسن ، فأنا أكذب على الحسن .
وعن الأثرم عن أحمد بن حنبل قال : حدثنا معاذ . قال : كنت عند عمرو بن عبيد فجاءه عثمان بن فلان . فقال : يا أبا عثمان ! سمعت ـ والله ـ بالكفر . قال ما هو ؟ لا تعجل بالكفر . قال : هاشم الأوقص زعم أن "تبت يدا أبي لهب " وقوله تعالى : "ذرني ومن خلقت وحيدا" لم يكن هذا في أم الكتاب ، والله تعالى يقول : "حم * والكتاب المبين * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " فما الكفر إلا هذا فسكت ساعة ثم تكلم فقال : والله لو كان الأمر كما تقول ما كان علي أبي لهب من لوم ، ولا كان على الوحيد من لوم . قال عثمان ـ في مجلسه ـ : هذا والله الدين ـ قال معاذ ـ ثم قال في آخره : فذكرته لوكيع، فقال : يستتاب قائلها فإن تاب ..... وإلا ضربت عنقه .
ومثل هذا محكي ، لكن عن بعض المرموقين من أئمة الحديث ، فروي عن علي بن المديني ، عن المؤمل ، عن الحسن بن وهب الجمحي ، قال : الذي كان بيني وبين فلان خاص فانطلق بأهله إلى بئر ميمون ، فأرسل إلي : أن ائتني ، فأتيته عشية فبت عنده . قال : فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر ، فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دوي النحل . قال : فلما أصبحنا جاء بغذائه فتغذينا قال : وذكر ما بيني وبينه من الإخاء والحق . قال : فقال لي : أدعوك إلى رأي الحسن . قال : وفتح لي شيئاً من القدر . قال : فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقي الله . قال : فأنا يوماً خارج من الطريق في الطواف وهو داخل ، أو أنا داخل وهو خارج ، فأخذ بيدي فقال : يا أبا عمر ، حتى متى ؟ حتى متى ؟ قال : فلم أكلمه ، فقال : ما لي ؟ أرأيت لو أن رجلاً قال : تبت يدا أبي لهب ليست من القرآن ؟ ما كنت تقول له ؟ قال : فنزعت يدي من يده . قال علي : قال مؤمل : فحدثت به سفيان بن عيينة . فقال لي : ما كنت أرى أنه أبلغ هذا كله .
قال علي : وسمعته أنا وأحمد بن حنبل .
قال : حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه ، فقال : ما أحوج صاحب هذا الرأي إلى أن يقتل ؟
فانظروا إلى تجاسرهم على كتاب الله تعالى وسنة نبيه ﷺ ! كل ذلك ترجيح لمذاهبهم على محض الحق ، وأقربهم إلى هيبة الشريعة من يتطلب بها المخرج فيتأول لها الواضحات ، ويتبع المتشابهات ، وسياـي . والجميع داخلون تحت ذمها .
وربما احتج طائفة من نابته المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن، وقد ذم الظن في القرآن ، كقوله تعالى : "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس " وقال : "إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا " وما جاء في معناه ، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله تعالى على لسان نبيه ﷺ ، وليس تحريمها في القرآن نصاً ، وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا .
والظن المراد في الآية وفي الحديث أيضاً غير ما زعموا ، وقد وجدنا له محال ثلاثة :
أحدها : الظن في أصول الدين ، فإنه لا يغني عند العلماء لاحتماله النقيض عند الظان ، بخلاف الظن في الفروع فإنه معمول به عند أهل الشريعة للدليل الدال على إعماله ، فكان الظن مذموماً إلا ما تعلق منه بالفروع ، وهذا صحيح ذكره العلماء في هذا الموضع .
والثاني : أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح ، ولا شك أنه مذموم هنا لأنه من التحكم ، ولذلك أتبع في الآية بهوى النفس في قوله : "إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس " فكأنهم مالوا إلى أمر بمجرد الغرض والهوى ولذلك أثبت ذمه ، بخلاف الظن الذي أثاره دليل ، فإنه غير مذموم في الجملة ، لأنه خارج عن اتباع الهوى ، ولذلك أثبت وعمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله كالفروع .
والثالث : أن الظن على ضربين : ظن يستند إلى أصل قطعي ، وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت لأنها استندت إلى أصل معلوم ، فهي من قبيل المعلوم جنسه ، وظن لا يستند إلى قطعي ، بل إما مستند إلى غير شيء أصلاً وهو مذموم ـ كما تقدم ـ وإما مستند إلى ظن مثله ، فلذلك الظن إن استند أيضاً إلى قطعي ، فكالأول ، أو إلى ظني ، رجعنا إليه ، فلا بد أن يستند إلى قطعي ، وهو محمود ، أو إلى غير شيء ، وهو مذموم ، فعلى كل تقدير : خبر واحد صح سنده ، فلا بد من استناده إلى أصل في الشريعة قطعي فيجب قبوله ، ومن هنا قبلناه مطلقاً ، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء ، فلا بد من ردها وعدم اعتبارها ، وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتابالموافقات والحمد لله .
ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث ، ورد قول من اعتمد على ما فيها ، حتى عدوا القول به مخالفاً للعقل ، والقائل به معدود في المجانين .
فحكى أبو بكر العربي عن بعض من لقي بالمشرق من المنكرين للرؤية ، أنه قيل له : هل يكفر من يقول بإثبات رؤية الباري أم لا ؟ فقال : لا ! لأنه قال بما لا يعقل ، ومن قال بما لا يعقل لا يكفر . قال ابن العربي : فهذه منزلتنا عندهم ، فليعتبر الموفق بما يؤدي إليه اتباع الهوى ، أعاذنا الله من ذلك بفضله .
وزل بعض المرموقين في زماننا في هذه المسألة ، فزعم أن خبر الواحد كله زعم وهو ما حكى في الأثر :
" بئس مطية الرجل زعموا " والأثر الآخر :
" إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث " ، وهذه من كلام هذا المتأخر زلة عفا الله عنه .
فصل تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة
عدلومنها : تخرصهم على الكلام في القرآن والسنة العربيين مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن الله ورسوله ، فيفتانون على الشريعة بما فهموا ، ويدينون به ، ويخالفون الراسخون في العلم ، وإنما دخلوا ذلك من جهة تحسين الظن بأنفسهم ، واعتقادهم أنهم من أهل الاجتهاد والاستنباط ، وليسوا كذلك ، كما حكي عن بعضهم أنه سئل عن قول الله تعالى : "ريح فيها صر" فقال : هو هذا الصرصر ، يعني صرار الليل . وعن النظام أنه كان يقول : إذا آلى المرء بغير اسم الله لم يكن مولياً . قال : لأن الإيلاء مشتق من اسم الله ، وقال بعضهم في قول الله تعالى : "وعصى آدم ربه فغوى" ، لكثرة أكله من السجرة ، يذهبون إلى قول العرب غوى الفصيل إذا أكثر من اللبن حتى بشم ، ولا يقال فيه غوى ، وإنما غوى من الغي ، وفي قوله سبحانه : "ولقد ذرأنا لجهنم" أي : ألقينا فيها ، كأنه عندهم من قول العرب ذرته الريح وذلك لا يجوز لأن ذرأنا مهموز وذرته غير مهموز ، وكذلك إذا كان من أذرته الدابة عن ظهرها لعدم الهمزة . ولكنه رباعي وذرأنا ثلاثي .
وحكى ابن قتيبة عن بشر المريسي أنه كان يقول لجلسائه : قضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجوه وأهيئتها ، فسمع قاسم التمار قوماً يضحكون ، فقال : هذا كما قال الشاعر :
إن سليمى والله يكلؤها ضنت بشيء ما كلن يرزؤها
وبشر المريسي رأس في الرأي ، وقاسم التمار رأس في على الكلام .
قال ابن قتيبة : واحتجاجه ببشر أعجب من لحن بشر . واستدل بعضهم تحليل شحم الخنزير بقول الله تعالى : "ولحم الخنزير" فاقتصر على تحريم اللحم دون غيره ، فدل على أنه حلال . وربما سلم بعض العلماء ما قالوا ، وزعم أن الشحم إنما حرم بالإجماع . والأمر أيسر من ذلك ، فإن اللحم يطلق على الشحم وغيره حقيقة ، حتى إذا خص بالذكر قيل : شحم كما يقال : عرق ، وعصب ، وجلد . ولو كان على ما قالوا لزم أن لا يكون العرق والعصب ولا الجلد ولا المخ ولا النخاع ولا غير ذلك مما خص بالاسم محرماً . وهو خروج عن القول بتحريم الخنزير .
ويمكن أن يكون من خفي هذا الباب مذهب الخوارج في زعمهم : أن لا تحكيم .
استدلالاً بقوله تعالى : "إن الحكم إلا لله" فإنه مبني على أن اللفظ ورد بصيغة العموم ، فلا يلحقه تخصيص ، فلذلك أعرضوا عن قول الله تعالى : "فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" وقوله : "يحكم به ذوا عدل منكم" وإلا فلو علموا تحقيقاً قاعدة العرب في أن من العموم لم يرد به الخصوص لم يسرعوا إلى الإنكار ولقالوا في أنفسهم هل هذا العام مخصوص ؟ فيتأولون ، وفي الوضع وجه آخر مذكور في موضع غير هذا ، وكثيراً ما يوقع الجهل بكلام العرب في مجاز لا يرضى بها عاقل ، اعاذنا الله من الجهل والعمل به بفضله .
فمثل هذه الاستدلالات لا يعبأ بها ، وتسقط مكالمة أهلها ، ولا يعد خلاف أمثالهم ، وما استدلوا عليه من الأحكام الفروعية أو الأصولية فهو عين البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلام العرب إلى اتباع الهوى . فحق ما حكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حيث قال : إنما هذا القرآن كلام فضعوه مواضعه ولا تتبعوا به أهواءكم . أي فضعوه على مواضع الكلام ولا تخرجوه عن ذلك ، فإنه خروج عن طريقة المستقيم إلى اتباع الهوى .
وعنه أيضاً : إنما أخاف عليكم رجلين . رجل تأول القرآن على غير تأويله ، ورجل ينفس المال على أخيه . وعن الحسن رضي الله تعالى عنه أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ويقيم بها منطقه ؟ قال : نعم . فليتعلمها ، فإن الرجل يقرأ بالآية فيعياه توجيهيها فيهلك . وعنه أيضاً قال : أهلكتكم العجمة ، تتأولون القرآن على غير تأويله .
فصل ومنها : انحرافهم عن الأصول الواضحة
عدلومنها : انحرافهم عن الأصول الواضحة إلى اتباع المتشابهات التي للعقول فيها مواقف ، وطلب الأخذ بها تأويلاً ـ كما أخبر الله تعالى في كتابه ـ إشارة إلى النصارى في قولهم بالثالوثي بقوله : "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" وقد علم العلماء أن كل دليل فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل في الحقيقة ، حتى يتبين معناه ويظهر المراد منه . ويشترط في ذلك أن لا يعارضه أصل قطعي . فإذا لم يظهر معناه لإجمال أو اشتراك أو عارضه قطعي كظهور تشبيه ، فليس بدليل ، لأن حقيقة الدليل أن يكون ظاهراً في نفسه ، ودالاً على غيره ، وإلا احتيج إلى دليل ، فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى أن لا يكون دليلاً .
ولا يمكن أن تعارض الفروع الجزئية الأصول الكلية ، لأن الفروع الجزئية إن لم تقتض عملاً فهي في محل التوقف ، وإن اقتضت عملاً فالرجوع إلى الأصول هو الصراط المستقيم . ويتناول الجزئيات حتى إلى الكليات . فمن عكس الأمر حاول شططاً ودخل في حكم الذم ، لأن متبع الشبهات مذموم . فكيف يعتد بالمتشابهات دليلاً ؟ أو يبنى عليها حكم من الأحكام ؟ وإذا لم تكن دليلاً في نفس الأمر فجعلها بدعة محدثة هو الحق .
ومن الأمثلة أيضاً أن جماعة زعموا أن القرآن مخلوق تعلقاً بالمتشابه ، والمتشابه الذي تعلقوا به على وجهين : عقلي ـ في زعمهم ـ وسمعي .
فالعقلي أن صفة الكلام من جملة الصفات ، وذات الله عندهم برئية من التركيب جملة ، وإثبات صفات الذات قول بتركيب الذات ، وهو محال . لأنه واحد على الإطلاق ، فلا يمكن أن يكون متكلماً بكلام قائم به ، كما لا يكون قادراً بقدرة قائمة به ، أو عالماً بعلم قائم به ، إلى سائر الصفات .
وأيضاً فالكلام لا يعقل إلا بأصوات وحروف ، وكل ذلك من صفات المحدثات ، والباري تنزه عنها . وبعد هذا الأصل يرجعون إلى تأويل قوله سبحانه : "وكلم الله موسى تكليما" وأشباهه .
وأما السمعي فنحو قوله تعالى : "الله خالق كل شيء " والقرآن إما أن يكون شيئاً ، أو لا شيء ، ولا شيء عدم ، والقرآن ثابت ، هذا خلف . وإن كان شيئاً فقد شملته الآية فهو إذاً مخلوق . وبهذا استدل المريسي على عبد العزيز المكي رحمه الله تعالى .
أما تركهم للقاعدة فلم ينظروا في قوله تعالى : "ليس كمثله شيء " وهذه الآية نقلية عقلية ، لأن المشابه للمخلوق في وجه ما ، مخلوق مثله . إذ ما وجب للشيء وجب لمثله . فكما تكون الآية دليلاً على نفي الشبه تكون دليلاً لهؤلاء ، لأنهم عاملوه في التنزيه معاملة المخلوق ، حيث توهموا أن اتصاف ذاته بالصفات يقتضي التركيب .
وأما تركهم لمعاني الخطاب ، فإن العرب لا تفهم من قوله : "السميع البصير" و "السميع العليم" أو "القدير" ، وما اشبه ذلك إلا من له سمع وبصر وعلم وقدرة اتصف بها ، فإخراجها عن حقائق معانيها التي نزل القرآن بها خروج عن أم الكتاب إلى اتباع ما تشابه منه من غير حاجة .
وحيث ردوا هذه الصفات إلى الأحوال التي هي العالمية والقادرية ، فما ألزموه في العلم والقدرة لازم لهم في العالمية والقادرية ، لأنها إما موجودة فيلزم التركيب ، أو معدومة ، والعدم نفي محض .
وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف . فبناء على عدم النظر في الكلام النفسي ، وهو مذكور في الأًول .
وأما الشبهة السمعية فكأنها عندهم بالتبع ، لأن العقول عندهم هي العمدة المعتمدة . ولكنهم يلزمهم بذلك الدليل مثل ما مر والله لأن قوله تعالى : "الله خالق كل شيء " إما أن يكون على عمومه لا يتخلف عنه شيء ، أو لا . فإن كان على عمومه ، فتخصيصه إما بغير دليل ـ وهو التحكم ـ وإما بدليل ، فأبرزوا حتى ننظر فيه . ويلزم مثله في الإرادة إن ردوا الكلام إليها ، وكذلك غيرها من الصفات إن قرأوا بها ، أو الأحوال إن أنكروها ، وهذا الكلام معهم بحسب الوقت .
والذي يليق بالمسألة أنواع أخر من الأدلة التي تقتضي كون هذا المذهب بدعة لا يلائم قواعد الشريعة .
ومن أغرب ما يوضع ههنا ما حكاه المسعودي وذكره الآجري ـ في كتاب الشريعة ـ بأبسط مما ذكره المسعودي . واللفظ هنا للمسعودي مع إصلاح بعض الألفاظ ،قال : ذكر صالح بن علي الهاشمي قال : حضرت يوماً من الأيام جلوس المهتدي للمظالم ، فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ الكتب عنه إلى النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته ، فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر في القصص ، فإذا رفع طرفه إلي أطرقت ، فكأنه علم ما في نفسي .
فقال لي : يا صالح أحسب أن في نفسك شيئاً تحب أن تذكره ـ قال ـ فقلت : نعم يا أمير المؤمنين . فأمسك . فلما فرغ من جلوسه أمر أن لا أبرح ، ونهض ، فجلست جلوساً طويلاً ، فقمت إليه وهو على حصير الصلاة فقال لي : يا صالح أتحدثني بما في نفسك ؟ أم أحدثك ؟ فقلت : بل هو أمير المؤمنين أحسن .
فقال : كأنني بك وقد استحسنت من مجلسنا ، فقلت : أي خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول بقول أبيه من القول بخلق القرآن . فقال : قد كنت على ذلك برهة من الدهر ، حتى أقدم علي الواثق شيخاً من أهل الفقه والحديث من أذنة من الثغر الشامي ، مقيداً طوالاً ، حسن الشبيه ، فسلم غير هائب ، ودعا فأوجز ، فرأيت الحياء منه في حماليق عيني الواثق والرحمة عليه .
فقال : يا شيخ أجب أبا عبد الله أحمد بن أبي داؤد عما يسألك عنه ، فقال : يا أمير المؤمنين أحمد يصغر ويضعف ويقل عند المناظرة ، فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحمة غضباً عليه . فقال : أبو عبد الله يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك ؟ فقال : هون عليك يا أمير المؤمنين ، أتأذن لي في كلامه ؟ فقال له الواثق : قد أذنت ذلك .
فأقبل الشيخ على أحمد فقال : يا أحمد إلام دعوت الناس ؟ فقال أحمد : إلى القول بخلق القرآن ، فقال له الشيخ : مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها من القول بخلق القرآن أداخله في الدين فلا يكون الدين تاماً إلا بالقول بها ؟ قال : نعم . قال الشيخ : فرسول الله ﷺ دعا الناس إليها أم تركهم ؟ قال : لا . قال له : يعلمها أم لم يعلمها ؟ قال : علمها . قال : فلم دعوت الناس إلى ما لم يدعهم رسول الله ﷺ إليه وتركهم منه ؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين هذه واحدة .
ثم قال له : أخبرني يا أحمد ، قال الله تعالى في كتابه العزيز : "اليوم أكملت لكم دينكم" ، فقلت أنت : الدين لا يكون تاماً إلا بمقالتك بخلق القرآن ، فالله تعالى عز وجل صدق في تمام وكماله أم أنت في نقصانك ؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، وهذه ثانية .
ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد ، قال الله عز وجل : "يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته" فمقالتك هذه التي دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول الله ﷺ إلى الأمة أم لا ؟ فأمسك ، فقال الشيخ : يا أمير المؤمنين ، وهذه ثالثة . ثم قال بعد ساعة : أخبرني يا أحمد .
لما علم رسول الله ﷺ مقالتك هذه التي دعوت الناس إليها : اتسع له عن أن أمسك عنهم أم لا ؟ قال أحمد : بل اتسع له ذلك . فقال الشيخ : وكذلك لأبي بكر ؟ وكذلك لعمر ؟ وكذلك لعثمان ؟ وكذلك لعلي ؟ رحمة الله عليهم قال : نعم ، فصرف وجهه إلى الواثق وقال : يا أمير المؤمنين : إذا لم يتسع لنا ما اتسع لنا ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه ولأصحابه فلا وسع الله علينا . ثم قال الواثق : اقطعوا قيوده . فلما فكت جاذب عليها . فقال الواثق : دعوه . ثم قال : يا شيخ لم جاذبت عليها ؟ قال لأني عقدت في نيتي أن أجاذب عليها ، فإذا أخذتها أوصيت أن تجعل بين يدي وكفي . ثم أقول : يا ربي ، سل عبدك : لم قيدني ظلماً وارتاع بي أهلي ؟ فبكى الواثق والشيخ وكل من حضر . ثم قال له الواثق : يا شيخ : اجعلني في حل . فقال : يا أمير المؤمنين : ما خرجت من منزلي حتى جعلتك في حل إعظاماً لرسول الله ﷺ ، ولقرابتك منه . فتهلل وجه الواثق وسر ، ثم قال له : أقم عندي آنس بك . فقال له : مكاني في ذلك الثغر أنفع ، وأنا شيخ كبير ، ولي حاجة . قال : سل ما بدا لك . قال : يأذن أمير المؤمنين في رجوعي إلى الموضع الذي أخرجني منه هذا الظالم . قال : قد أذنت لك . وأمر له بجائزة فلم يقبلها . فرجعت من ذلك الوقت عن تلك المقالة ، وأحسب أيضاً أن الواثق رجع عنها .
فتأملوا هذه الحا\كاية ففيها عبرة لأولي الألباب ز وأنظروا كيف مأخذ الخصوم في لإفحامهم لخصومهم بالرد عليهم بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ .
ومدار الغلط في هذا الفصل إنما هو على حرف واحد . وهو الجهل بمقاصد الشرع ، وعدم ضم أطرافه بعضها لبعض . فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة بحسب ما ثبت من كلياتها وجزئياتها المرتبة عليها ، وعامها المرتب على خاصها ، ومطلقها المحمول على مقيدها ، ومجملها المفسر بينهما ، إلى ما سوى ذلك من مناحيها ، فإذا حصل للناظر من جملتها حكم من الأحكام فلذلك الذي نظمت به حين استنبطت .
وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي ، فكما أن الإنسان لا يكون إنساناً حتى يستنطق فلا ينطق باليد وحدها ولا بالرجل وحدها ولا بالرأس وحده زلا باللسان وحده ، بل بجملته التي سمي بها إنساناً . كذلك الشريعة لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها ، لا من دليل منها أي كان نطق ذلك الدليل . فإنما هو توهمي لا حقيقي ، كاليد إذا استنقطت فإنما تنطق توهماً لا حقيقة ، من حيث علمت أنها يد إنسان لا من حيث هي إنسان لأنه محال .
فشأن الراسخين تصور الشريعة صورة واحدة يخدم بعضها كأعضاء افنسان إذا صورت صورة مثمرة .
وشأن متبعي المتشابهات أخذ دليل ما أي كان عفواً وأخذاً أولياً ، وإن كان ثم ما يعارضه من كلي أو جزئي . فكأن العضو الواحد لا يعطى في مفهوم أحكام الشريعة حكماً حقيقياً . فمتبعه متبع متشابه ، ولا يتبعه إلا من في قلبه زيغ كما شهد الله به : " ومن أصدق من الله قيلا " .
فصل وعند ذلك نقول
عدلوعند ذلك نقول :
من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها ، وبالعمومات من غير تأمل هل لها مخصصات أم لا ؟ وكذلك العكس ، بأن يكون النص مقيداً فيطلق ، أو خاصاً فيعم بالرأي من غير دليل سواه . فإن هذا المسلك رمي في عماية ، واتباع للهوى في الدليل ، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتيه إذا لم يقيد ، فإذا قيد صار واضحاً ، كما أن إطلاق المقيد رأي في ذلك المقيد معارض للنص من غير دليل .
فمثال الأول : أن الشريعة قد ورد طلبها على المكلفين على الإطلاق والعموم ، ولا يرفعها عذر إلا العذر الرافع للخطاب رأساً ، وهو زوال العقل ، فلو بلغ المكلف في مراتب الفضائل الدينية إلى أي رتبة بلغ ، بقي التكليف عليه كذلك إلى الموت ولا رتبة لأحد يبلغها في الدين كرتبة رسول الله ﷺ ، ثم رتبة أصحابه البررة ، ولم يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة ، إلا ما كان من تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى الآحاد ، كالزمن لا يطالب بالجهاد ، والمقعد لا يطالب بالصلاة قائماً ، والحائض لا تطالب بالصلاة المخاطب بها في حال حيضها ، ولا ما أشبه ذلك .
فمن رأى أن التكليف قد يرفعه البلوغ إلى مرتبة ما من مراتب الدين ـ كما يقوله أهل الإباحة ـ كان قوله بدعة مخرجة عن الدين .
ومنه دعاوى أهل البدع على الأحاديث الصحيحة مناقضتها للقرآن ، أو مناقضة بعضها بعضاً ، وفساد معانيها ، أو مخالفتها للعقول ـ كما حكموا بذلك في قوله ﷺ للمتحاكمين إليه :
"والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : مائة الشاة والخادم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، وعلى المرأة هذه الرجم واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فغدا عليها فاعترفت ، فرجمها . قالوا : هذا مخالف لكتاب الله . لأنه قضى بالرجم والتغريب ، وليس للرجم ولا للتغريب في كتاب الله ذكر ، فإن كان الحديث باطلاً فهو ما أردنا ، وإن كان حقاً فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب .
فهذا اتباع للمتشابه ، لأن الكتاب في كلام العرب وفي الشرع على وجوه : منها الحكم والفرض كقوله تعالى : "كتاب الله عليكم" ، وقال تعالى : "كتب عليكم الصيام" "وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال" فكان المعنى : لأقضين بينكما بكتاب الله ، أي بحكم الله الذي شرع لنا . كما أن الكتاب يطلق على القرآن ، فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة .
وفي الحديث :
"مثل أمتي كمطر لا يدري أوله خير أم آخره؟" قالوا : فهذا يقتضي أنه لم يثبت لأول هذه الأمة فضل على الخصوص دون آخرها ولا العكس ثم نقل :
"إن الإسلام بدىء غريباً وسيعود غريباً كما بدىء فطوبى للغرباء" ، فهذا يقتضي تفضيل الأولين والآخرين على الوسط . ثم نقل :
"خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم" ، فاقتضي أن الأولين أفضل على الإطلاق .
قالوا : فهذا تناقض . وكذبوا ، ليس ثم تناقض ولا اختلاف .
وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي في المقولات الشرعية . فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلاً ، وإما أن يمكن فإن لم يمكن فهذا الفرض بين قطعي وظني ، أو بين ظنين ، فأما بين قطعيين فلا يقع في الشريعة ، ولا يمكن وقوعه ، لأن تعارض القطعيين محال . فإن وقع بين قطعي وظني بطل الظني ، وإن وقع بين ظنيين فههنا للعلماء فيه الترجيح ، والعمل بالأرجح متعين ، وإن أمكن الجمع ـ فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع ، وإن كان وجه الجمع ضعيفاً ، فإن الجمع أولى عندهم ، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها ، فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأساً ، إما جهلاً به أو عناداً .
فإذا ثبت هذا فقوله : " خير القرون قرني" هو الأصل في الباب فلا يبلغ أحد منا مبلغ الصحابة رضي الله عنهم . وما سواه يحتمل التأويل على حال أو زمان أو في بعض الوجوه .
وأما قوله : "فطوبى للغرباء" لا نص فيه على التفضيل المشار إليه ، بل هو دليل على جزاء حسن ، ويبقى النظر في كونهم مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه محتمل ، فليس في الحديث عليه دليل ، فلا بد من حمله الأصل ولا إشكال .
ومن ذلك قولهم بالتناقض في قوله ﷺ :
"لا تفضلوني على يونس بن متى ولا تخيروا بين الأنبياء وبيني" وقوله :
"أنا سيد ولد آدم ولا فخر" ووجه الجمع بينمها ظاهر .
ومنه أنهم قالوا في قوله ﷺ :
"إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده" : إن هذا الحديث يفسد آخره أوله ، فإن أوله صحيح لولا قوله : فإن أحدكم لا يدري كذا . فما منا أحد إلا درى أين باتت يده . وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه ، ولو أن رجلاً فعل ذلك في اليقظة لما طلب بغسل يده . فكيف يطلب بالغسل ولا يدري هل مس فرجه أم لا ؟
وهذا الاعتراض من النمط الذي قبله : إذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شيء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم ، أو يكون استجمر فوق موضع الاستجمار ، وهو لو كان يقظان فمس لعلم بالنجاسة إذا علقت بيده فيغسلها في الإناء لئلا يفسد الماء . وإذا أمكن هذا لم يتوجه الاعتراض .
فجميع ما ذكر في هذا الفصل راجع إلى إسقاط الأحاديث بالرأي المذموم الذي تقدم الاستشهاد عليه أنه من البدع المحدثات .
فصل ومنها : تحريف الأدلة عن مواضعها
عدلومنها : تحريف الأدلة عن مواضعها . بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر موهماً أن المناطين واحد ، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله . ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام ، ويذم تحريف الكلم عن مواضعه ، لا يلجأ إليه صراحاً إلا مع اشتباه يعرض له ، أو جهل يصده عن الحق ، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه ، فيكون بذلك السبب مبتدعاً .
وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمراً في الجملة مما يتعلق بالعبادات ـ مثلاً فأتى به المكلف في الجملة أيضاً ، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة . كان الدليل عاضداً لعلمه من جهتين : من جهة معناه ، ومن جهة عمل السلف الصالح به ، فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة ، أو زمان مخصوص ، أو مكان مخصوص ، أو مقارناً لعباده مخصوصة ، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية ، أو الزمان ، أو المكان ، مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه . كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه .
فإذا ندب الشرع مثلاً إلى ذكر الله فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات ـ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم ، بل فيه ما يدل على خلافه ، لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعاً شأنها أن تفهم التشريع ، وخصوصاً مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد . فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ، ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله ﷺ في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ـ فهم منها بلا شك أنها سنن إذا لم تفهم منها الفرضية ، فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به فصارت من هذه الجهة بدعاً محدثة بذلك .
وعلى ذلك ترك التزام السلف لتلك الأشياء أو عدم العمل بها ، وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى القواعد ، لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندباً في مواضع كثيرة ، حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر ، كقوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " الآية وقوله : "وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون " بخلاف سائر العبادات .
ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر الله . ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ، ولا قيدوه بأوقات مخصوصة بحيث تشعر بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات ، إلا ما عينه الدليل كالغداة والعشي . ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره كالذكر في العيدين وشبهه ، وما سوى فكانوا مثابرين على إخفائه وسره . ولذلك قال لهم حين رفعوا أصواتهم :
"أربعوا على أنفسكم إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً" واشباهه ، ولم يظهرون في الجماعات .
فكل من خالف هذا الأصل فقد خالف إطلاق الدليل أولاً ، لأنه قيد فيه بالرأي . وخالف من كان أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصالح رضي الله عنهم ، بل :
كان رسول الله ﷺ يترك العمل وهو يجب أن يعمل به خوفاً أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .
وفي فصل من الموافقات جملة من هذا ، وهو مزلة قدم . فقد يتوهم أن إطلاق اللفظ يشعر بجواز كل ما يمكن في مدلوله وقوعاً وليس خصوصاً في العبادات ، فإنها محمولة على التعبد على حسب ما تلقي عن النبي ﷺ والسلف الصالح ، كالصلوات حين وضعت بعيدة عن مدارك العقول في أركانها وترتيبها وأزمانها وكيفياتها ومقاديرها ، وسائر ما كان مثلها ـ حسبما يذكر في باب المصالح المرسلة من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ـ فلا يدخل العبادات الرأي والاستحسان هكذا مطلقاً لأنه كالمنافي لوضعها ، ولأن العقول لا تدرك معانيها على التفصيل .
وكذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها ، كمالك بن أنس رضي الله عنه ، فإنه حافظ على طرح الرأي جداً ، ولم يعمل فيها من أنواع القياس إلا قياس نفي الفارق حيث اضطر إليه ، وكذلك غيره من العلماء ، وإن تفاوتوا فهم محافظون جميعاً في العبادات على الاتباع لنصوصها ومنقولاتها ، بخلاف غيرها فبحسبها لا مطلقاً ، فإن الإنسان قد أمر بذلك في الجملة ـ مثلاً ـ فالمخصص كالمخالف لمفهوم التوسعة ، وإن لم يفهم من ذلك توسعه فلا بد من الرجوع إلى أصل الوقف من المنقول ، لأنا إن خرجنا عنه شككنا في كون العبادة على ذلك الوجه مشروعة على الطريقتين المنبه عليهما في كتاب الموافقات ، فيتعين الرجوع إلى المنقول وقوفاً من غير زيادة ولا نقصان .
ثم إذا فهمنا التوسعة : فلا بد من اعتبار أمر آخر ، وهو أن يكون العمل بحيث لا يوهم التخصيص زماناً دون غيره ، أو مكاناً دون غيره ، أو كيفية دون غيرها أو يوهم انتقال الحكم من الاستحباب ـ مثلاً ـ إلى السنة أو الفرض . لأنه قد يكون الدوام عليه على كيفية ما ، في مجامع الناس أو مساجد الجماعات أو نحو ذلك موهماً لكونه سنة أو فرضاً . .. بل هو كذلك .
ألا ترى أن كل ما أظهره رسول الله ﷺ وواظب عليه جماعة إذا لم يكن فرضاً فهو سنة عند العلماء ، كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك ؟ بخلاف قيام الليل وسائر النوافل ، فإنها مستحبات ، وندب ﷺ إلى إخفائها : وإنما يضر إذا كانت تشاع ويعلن بها .
ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاء بعد الصلوات بالهيئة الاجتماعية معلناً بها في الجماعات . وسيأتي بسط ذلك في بابه إن شاء الله تعالى .
فصل ومنها : بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل
عدلومنها : بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلات لا تعقل ـ يدعون فيها أنها هي المقصود والمراد ، لا ما يفهم العربي ـ مسندة عندهم إلى أصل لا يعقل وذلك أنهم فيما ذكره العلماء : قوم أرادوا إبطال الشريعة جملةً وتفصيلاً ، وإلقاء ذلك فيما بين الناس لينحل الدين في أيديهم ، فلم يمكنهم إلقاء ذلك صراحاً ، فيرد ذلك في وجوههم ، وتمتد إليهم أيدي الحكام ، فصرفوا إعناقهم إلى التحيل على ما قصدوا بأنواع من الحيل من جملهتا صرف الهم من الظواهر إحالة على أن لها بواطن هي المقصودة ، وأن الظواهر غير مرادة . فقالوا : كل ما ورد في الشرع من الظواهر في التكاليف والحشر والنشر ، والأمور الإلهية فهي أمثلة ورموز إلى بواطن .
فمما زعموا في الشرعية : أن الجنابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق . ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك . ومعنى مجامعة البهيمة مقابحة من لا عهد له ولم يؤد شيئاً من صدقة النجوى ـ وهو مائة وتسعة عشر درهماً ـ قالوا : فلذلك أوجب الشرع القتل على الفاعل والمفعول به ، وإلا فالبهيمة متى يجب القتل عليها ؟
والاحتلام أن يسبق لسانه إلى إفشاء السر في غير محله ، فعليه الغسل ، أي تجديد المعاهدة والطهر هو التبرؤ من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة الإمام . والتيمم الأخذ من المأذون إلى أن يسعد بمشاهدة الداعي والإمام . والصيام هو الإمساك عن كشف السر .
ولهم من هذا الإفك كثير في الأمور الإلهية ن وأمور التكليف ، وأمور الآخرة . وكله حوم على إبطال الشريعة جملةً وتفصيلاً ، إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية ، منكرون للنبوة والشرائع والحشر والنشر والجنة والنار والملائكة ، بل هم منكرون للربوبية . وهم المسمون بالباطنية .
وربما تمسكوا بالحروف والأعداد بأن الثقب في رأس الآدمي سبع ، والكواكب السيارة سبع ، وأيام الأسبوع سبع ، فهذا يدل على أن دور الأئمة سبعة ، وبه يتم . وأن الطبائع أربع ، وفصول السنة أربع ، فدل على أن أصول الأربعة هي السابق والتالي الالهان ـ عندهم ، والناطق والأساس ـ وهما الإمامان ـ والبروج اثنا عشر يدل على أن الحجج اثنا عشر ، وهم الدعاة ، إلى أنواع من هذا القبيل . وجميعها ليس فيه ما يقابل بالرد ، لأن كل طائفة من المبتدعة سوى هؤلاء ربما يتمسكون بشبهة تحتاج إلى النظر فيها معهم . أما هؤلاء فقد خلعوا في الهذيان ( الربقة ) ، وصاروا عرضة للمز ، وضحكةً للعالمين . وإنما ينسبون هذه الأباطيل إلى الإمام المعصوم الذي زعموه ، وإبطال الأئمة معلوم في كتب المتكلمين . ولكن لا بد من نكتة مختصرة في الرد عليهم .
فلا يخلو أن يكون ذلك عندهم إما من جهة دعوى الضرورة وهو محال . لأن الضروري هو ما يشترك فيه العقلاء علماً وإداركاً ، وهذا ليس كذلك .
وإما من جهة الإمام المعصوم بسماعهم منه لتلك التأويلات . فنقول لمن زعم ذلك : ما الذي دعاك إلى تصديق محمد ﷺ سوى المعجزة ؟ وليس لإمامك معجزة ، فالقرآن يدل على أن المراد ظاهره ، لا ما زعمت . فإن قال : ظاهر القرآن رموز إلى بواطن فهمها الإمام المعصوم ولم يفهمها فتعلمناها منه . قيل لهم : من أي جهة تعلمتموها منه ؟ أبمشاهد قلبه بالعين ؟ أو بسماع منه ؟ ولا بد من الاستناد إلى السماع بالأذن . فيقال : فلعل لفظه ظاهر له باطن لم تفهمه ، ولم يطلعك عليه ، فلا يوثق بما فهمت من ظاهر لفظه ، فإن قال : صرح بالمعنى . وقال : ما ذكرته ظاهر لا رمز فيه ، أو والمراد ظاهره . قيل له : وبماذا عرفت قوله أنه ظاهر لا رمز فيه ، بل أنه كما قال ؟ إذ يمكن أن يكون له باطن لم تفهمه أيضاً ، حتى لو حلف بالطلاق الظاهر أنه لم يقصد إلا الظاهر ، لاحتمل أن يكون في طلاقه رمز وهو باطنه وليس مقتضى الظاهر . فإن قال : ذلك يؤدي إلى حسم باب التفهيم .
قيل له : فأنتم حسمتموه بالنسبة إلى النبي ﷺ ، فإن القرآن دائر على تقرير الوحدانية ، والجنة ، والنار ، والحشر ، والنشر ، والأنبياء ، والوحي ، والملائكة ، مؤكداً ذلك كله بالقسم . وأنتم تقولون : إن ظاهره غير مراد وإن تحته رمزاً . فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إلى النبي ﷺ لمصلحة وسر له في الرمز ، جاز بالنسبة إلى معصومكم أن يظهر لكم خلاف ما يضمره لمصلحة وسر له فيه ، وهذا لا محيص لهم عنه .
قال أبو حامد الغزالي رحمه الله : ينبغي أن يعرف الإنسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل فرقة من فرق الضلال ، إذ لا تجد فرقة تنقض مذهبها بنفس المذهب سوى هذه التي هي الباطنية . إذ مذهبها إبطال النظر ، وتغيير الألفاظ عن موضوعها بدعوى الرمز ، وكل ما يتصور أن تنطق به ألسنتهم فإما نظر أو نقل ، أما النظر فقد أبطلوه ، وأما النقل فقد جوزوا أن يراد باللفظ غير موضوعة ، فلا يبقى لهم معتصم ، والتوفيق بيد الله .
وذكر ابن العرب في العواصم مأخذاً آخر في الرد عليهم أسهل من هذا ـ وقال إنهم لا قبل لهم به ـ وهو أن يسلط عليهم في كل ما يدعونه السؤال بـ لم ؟ خاصة ، فكل من وجهت عليه منهم سقط في يده ، وحكى في ذلك حكاية ظريفة يحسن موقعها ها هنا ، وتصور المذهب كاف في ظهور بطلانه إلا أنه مع ظهور فساده وبعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعاً فاحشة . ( منها ) مذهب المهدي المغربي ، فإنه عد نفسه الإمام المنتظر وأنه معصوم ، حتى أن من شك في عصمته ، أو في أنه المهدي المنتظر كافر .
وقد زعم ذووه أنه ألف في الإمامة كتاباً ذكر فيه أن الله استخلف آدم ونوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً عليهم السلام ، وأن مدة الخلافة ثلاثون سنة ، وبعد ذلك فرق وأهواء ، وشح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فلم يزل الأمر على ذلك ، والباطل ظاهر والحق كامن ، والعلم مرفوع ـ كما أخبر عليه الصلاة والسلام : الجهل ظاهر ، ولم يبق من الدين اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمه حتى جاء الله بالإمام فأعاد به الدين ـ كما قال عليه الصلاة والسلام :
"بدىء الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدىء فطوبى للغرباء" وقال : إن طائفته هم الغرباء ، زعماً من غير برهان زائد على الدعوى ، وقال في ذلك الكتاب : جاء الله بالمهدي ، وطاعته نقية ، لم ير مثلها قبل ولا بعد ، وأن به قامت السموات ، والأرض به تقوم ، ولا ضد له ، ولا مثل ، ولا ند ، ولا كذب ، تعالى الله عن قوله ، وهذا كما نزل أحاديث الترمذي و أبي داود في الفاطمي على نفسه وأنه هو بلا شك .
وأول إظهاره لذلك أنه قام في أصحابه خطيباً فقال : الحمد لله الفعال لما يريد ، القاضي لما يشاء ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، وصلى الله على النبي المبشر بالمهدي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملئت ظلماً وجوراً يبعثه الله إذا نسخ الحو بالباطل ، وأزيل العدل بالجور ، مكانه بالمغرب الأقصى ، وزمانه آخر الأزمان ، واسمه اسم النبي عليه الصلاة والسلام ، ونسبه نسب النبي ﷺ ، وقد ظهر جور الأمراء ، وامتلأت الأرض بالفساد ، وهذا آخر الزمان ، والاسم الاسم والنسب النسب والفعل الفعل . يشير إلى ما جاء في أحاديث الفاطمي .
فلما فرغ بادر إليه من أصحابه عشرة ، فقالوا : هذه الصفة لا توجد إلا فيك ، فأنت المهدي ، فبايعوه على ذلك . وأحدث في دين الله أحداثاً كثيرة زيادة إلى الإقرار بأنه المهدي المعلوم ، والتخصيص بالعصمة ، ثم وضع ذلك في الخطب ، وضرب في السكك ، بل كانت تلك الكلمة عندهم ثالثة الشهادة ، فمن لم يؤمن بها ، أو شك فيها ، فهو كافر كسائر الكفار ، وشرع القتل في مواضع لم يضعه الشرع فيها ، وهي نحو من ثمانية عشر موضعاً ، كترك امتثال أمر من يستمع أمره ، وترك حضور مواعظة ثلاث مرات ، والمداهنة إذا ظهرت في أحد قتل ، وأشياء كثيرة .
وكان مذهبه البدعة الظاهرية ، ومع ذلك فابتدع أشياء ، كوجوه من التثويب ، إذ كانوا ينادون عند الصلاة بتاصاليت الإسلام و بقيام تاصاليت , سوردين و باردي و وأصبح ولله الحمد وغيره ، فجرى العمل بجميعها في زمان الموحدين ، وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حتى إني أدركت بنفسي في جامع غرناطة الأعظم الرضا عن الإمام المعصوم ، المهدي المعلوم ، إلى أن أزيلت وبقيت أشياء مثيرة غفل عنها أو
غفلت .
وقد كان السلطان أبو العلاء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي منهم ، ظهر له قبح ما هم عليه من هذه الابتداعات ، فأمر ـ حين استقر بمراكش ـ خليفته بإزالة جميع ما ابتدع من قبله ، وكتب بذلك رسالة إلى الأقطار يأمر فيها بتغيير تلك السنة ، ويوصي بتقوى الله والاستعانة به ، والتوكل عليه ، وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الحق ، وأن لا مهدي إلا عيسى ، وأن ما ادعوه أنه المهدي بدعة أزالها ، وأسقط اسم من لا تثبت عصمته .
وذكر أن أباه المنصور هم بأن يصدع بما به صدع ، وأن يرفع الحرف الذي رفع ، فلم يساعده الأجل لذلك ، ثم لما مات واستخلف ابنه أبو محمد عبد الواحد الملقب بالرشيد ، وفد إليه جماعة من أهل المذهب المتسمين بالموحدين ، فقتلوا منه في الذروة والغارب ، وضمنوا على أنفسهم الدخول تحت طاعته ، والوقوف على قدم الخدمة بين يديه ، والمدافعة عنه بما استطاعوا ، لكن على شرط ذكر المهدي وتخصيصه بالعصمة في الخطبة والمخاطبات ، ونقش اسمه الخاص في السكك ، وإعادة الدعاء بعد الصلاة ، والنداء عليها بتاصاليت الإسلام عند كمال الأذان ، و بتقام تاصاليت وهي إقامة الصلاة ، وما أشبه دلك من سودرين ، و قادري و أصبح ولله الحمد وغير ذلك .
وقد كان الرشيد استمر على العمل بما رسم أبوه من ترك ذلك كله ، فلما انتدب الموحدون إلى الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك ، فأسعفوا فيه ، فلما احتلوا منازلهم أياماً ولم يعد شيء من تلك العوائد ، ساءت ظنونهم ، وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتهم في دينهم ، وبلغ ذلك الرشيد ، فجدد تأنيسهم بإعادتها .
قال المؤرخ : فيا لله ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الارتياح لسماع تلك الأمور ، واطلقت ألسنتهم بالدعاء لخليفتهم بالنصر والتأييد ، وشملت الأفراح فيهم الكبير والصغير ، وهذا شأن صاحب البدعة ، فلن يسر بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها "ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً" وهذا كله دائر على القول بالإمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة .
فصل ومنها : رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم
عدلومنها : رأى قوم التغالي في تعظيم شيوخهم ، حتى ألحقوهم بما لا يستحقونه . فالمقتصد منهم يزعم أنه لا ولي لله أعظم من فلان ، وربما أغلقوا باب الولاية دون سائر الأمة إلا هذا المذكور ، وهو باطل محض ، وبدعة فاحشة ، لأنه لا يمكن أن يبلغ المتأخرون أبداً مبالغ المتقدمين ، فخير القرون الذين رأوا رسول الله ﷺ وآمنوا به ، ثم الذين يلونهم ، وهذا يكون الأمر أبداً إلى قيام الساعة ، فأقوى ما كان أهل الإسلام في دينهم وأعمالهم ويقينهم وأحوالهم في أول الإسلام ، ثم لا زال ينقص شيئاً فشيئاً إلى آخر الدنيا ، لكن لا يذهب الحق جملة ، بل لا بد من طائفة تقوم به وتعتقده ، وتعمل بمقتضاه على حسبهم في إيمانهم ، لا ما كان عليه الأولون من كل وجه ، لأنه :
لو أنفق أحد من المتأخرين وزن أحد ذهباً ، ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول الله ﷺ ولا نصيفه ، وإذا كان ذلك في المال فكذلك في سائر شعب الإيمان بشهادة التجربة العادية .
ولما تقدم أول الكتاب أنه لا يزال الدين في نقص فهو أصلي لا شك فيه ، وهو عند أهل السنة والجماعة ، فكيف يعتقد بعد ذلك في أنه ولي أهل الأرض ؟ وليس في الأمة ولي غيره ؟ لكن الجهل الغالب ، والغلو في التعظيم ، والتعصب للنحل ، يؤدي إلى مثله أو أعظم منه .
والمتوسط يزعم أنه مساو للنبي ﷺ ، إلا أنه لا يأتيه الوحي ، بلغني هذا عن طائفة من الغالين في شيخهم ، الحاملين لطريقتهم في زعمهم ، نظير ما ادعاه بعض تلامذه الحلاج في شيخهم على الاقتصاد منهم فيه ، والغالي يزعم فيه أشنع من هذا ، كما ادعى أصحاب الحلاج في الحلاج .
وقد حدثني بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق في النقل أنه قال : أقمت زماناً في بعض القرى البادية ، وفيها من هذه الطائفة المشار إليها كثير قال : فخرجت يوماً من منزلي لبعض شأني ، فرأيت رجلين منهم قاعدين ، فتوهمت أنهما يتحدثان في بعض فروع طريقتهم ، فقربت منهما على استخفاء لأسمع من كلامهم ـ إذ من شأنهم الاستخفاء بأسرارهم ـ فتحدثا في شيخهم وعظم منزلته ، وأنه لا أحد في الدنيا مثله ، وطربا لهذه المقابلة طرباً عظيماً ، ثم قال أحدهما للآخر : أتحب الحق ؟ هو النبي ، قال : نعم ، هذا هو الحق . قال المخبر : فقمت من ذلك المكان فاراً أن يصيبني معهم قارعة .
وهذا نمط الشيعة الإمامية ، ولولا الغلو في الدين والتكالب على نصر المذهب والتهالك في محبة المبتدع ، لما وسع ذلك عقل أحد ، ولكن النبي ﷺ قال :
"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع" الحديث ، فهؤلاء غلوا كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام ، حيث قالوا : إن الله هو المسيح ابن مريم ،فقال الله تعالى : "قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل" وفي الحديث :
"ولا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، ولكن قولوا : عبد الله ورسوله" .
ومن تأمل هذه الأصناف وجد لها من البدع في فروع الشريعة كثيراً ، لأن البدعة إذا دخلت في الأصل سهلت مداخلتها الفروع .
فصل وأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات
عدلوأضعف هؤلاء احتجاجاً قوم استندوا في أخذ الأعمال إلى المقامات ، وأقبلوا وأعرضوا بسببها ، فيقولون : رأينا فلاناً الرجل الصالح ، فقال لنا : اتركوا كذا ، واعملوا كذا . ويتفق هذا كثيراً للمتمرسين برسم التصوف ، وربما قال بعضهم : رأيت النبي ﷺ في النوم ، فقال لي كذا وأمرني بكذا ، فيعمل بها ويترك بها معرضاً عن الحدود الموضوعة في الشريعة ، وهو خطأ ، لأن الرؤيا من غير الأنبياء لا يحكم بها شرعاً على حال إلا أن تعرض على ما في أيدينا من الأحكام الشرعية ، فإن سوغتها عمل بمقتضاها ، وإلا وجب تركها والإعراض عنها ، وإنما فائدتها البشارة ، أو النذرة خاصة ، وأما استفادة الأحكام فلا ، كما يحكى عن الكتاني رحمه الله قال : رأيت النبي ﷺ في المنام ، فقلت : ادع الله أن لا يميت قلبي ، فقال : قل كل يوم أربعين مرة يا حي يا قيوم لا إله إلا أنت فهذا كلام حسن لا إشكال في صحته ، وكون الذكر يحيى القلب صحيح شرعاً ، وفائدة الرؤيا التنبيه على الخير ، وهو من ناحية البشارة ، وإنما يبقى الكلام في التحديد بالأربعين ، وإذا لم يوجد على اللزوم استقام .
وعن أبي يزيد البسطامي رحمه الله ، قال : رأيت ربي في المنام ، فقلت : كيف الطريق إليك ؟ فقال : أترك نفسك وتعال ؟ وشأن هذا الكلام من الشرع موجود فالعمل بمقتضاه صحيح ، لأنه كالتنبيه لموضع الدليل ، لأن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلاق ، والوقوف على قدم العبودية ، والآيات تدل على هذا المعنى ، كقوله تعالى : "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى*فإن الجنة هي المأوى" وما أشبه ذلك ، فلو رأى في النوم قائلاً يقول : إن فلاناً سرق فاقطعه ، أو عالم فاسأله ، أو اعمل بما يقول لك ، أو فلان زنى فحده ، وما أشبه ذلك ، لم يصح له العمل حتى يقوم له الشاهد في اليقظة ، وإلا كان عاملاً بغير شريعة ، إذ ليس بعد رسول الله ﷺ وحي .
ولا يقال : إن الرؤيا من أجزاء النبوة ، فلا ينبغي أن تهمل ، وأيضاً إن المخبر في المنام قد يكون النبي ﷺ ، وهو قد قال :
"من رآني في النوم فقد رآني حقاً ، فإن الشيطان لا يتمثل بي" وإذا كان ... فإخباره في النوم كإخباره في اليقظة .
لأنا نقول : إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ، بل جز من أجزائه ، والجزء لا يقوم مقام الكل في جميع الوجوه ، بل إنما يقوم مقامه في بعض الوجوه ، وقد صرفت إلى جهة البشارة والنذارة ، وفيها كاف .
وأيضاً فإن الرؤيا التي هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالحة من الرجل الصالح ، وحصول الشروط مما ينظر فيه ، فقد تتوفر ، وقد لا تتوفر .
وأيضاً فهي منقسمة إلى الحلم ، وهو من الشيطان ، وإلى حديث النفس ، وقد تكون سبب هيجان بعض أخلاط ، فمتى تتعين الصالحة حتى يحكم بها وترك غير الصالحة ؟
ويلزم أيضاً على ذلك أن يكون تجديد وحي بحكم بعد الني ضلى الله عليه وسلم ،وهو منهي عنه بالإجماع .
يحكى أن شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي ، فلما رآه قال : علي بالسيف والنطع ، قال : ولم يا أمير الميؤمنين ؟ قال : رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني ، فقصصت رؤياي على من عبرها ، فقال لي : يظهر لك طاعة ويضمر معصية . فقال له شريك : والله ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولا أن معبرك بيوسف الصديق عليه السلام ، فبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين ؟ فاستحيى المهدي ، وقال : اخرج عني . ثم صرفه وأبعده .
وحكى الغزالي إن بعض الأئمة أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن ، فروجع فيه فاستدل بأن رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة ولم يدخلها ؟ فقيل : هل دخلتها ؟ فقال : أغناني عن دخولها رجل يقول بخلق القرآن ، فقام ذلك الرجل فقال : لو أفتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة هل تقلدونه في فتواه ؟ فقالوا : لا ! فقال : قوله في المنام لا يزيد على قوله في اليقظة .
وأما الرؤيا التي يخبر فيها رسول الله ﷺ الرائي بالحكم فلا بد من النظر فيها أيضاً ، لأنه إذا أخبر بحكم موافق لشريعته ، فالحكم بما استقر ، وإن أخبر بمخالف ، فمحال ، لأنه ﷺ لا ينسخ بعد موته شريعته المستقرة في حياته ، لأن الدين لا يتوقف استقراره بعد موته على حصول المرائي النومية ، لأن ذلك باطل بالإجماع . فمن رأى شيئاً من ذلك فلا عمل عليه ، وعند ذلك نقول : إن رؤياه غير صحيحة . إذ لو رآه حقاً لم يخبره بما يخالف الشرع .
لكن يبقى النظر في معنى قوله ﷺ :
"من رآني في النوم فقد رآني" وفيه تأويلان :
احدهما : ما ذكره ابن رشيد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلان مشهوران بالعدالة في قضية ، فلما نام الحاكم ذكر أنه رأى النبي ﷺ ، فقال له : ما تحكم بهذه الشهادة ؟ فإنها باطلة . فأجاب بأنه لا يحل له أن يترك العمل بتلك الشهادة ، لأن ذلك إبطال لأحكام الشريعة بالرؤيا ، وذلك باطل لا يصح أن يعتقد ، إذ لا يعلم الغيب من ناحيتها إلا الأنبياء الذين رؤياهم وحي ، ومن سواهم إنما رؤياهم :
جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة .
ثم قال : وليس معنى قوله :
"من رآني فقد رآني حقاً" أن كل من رأى في منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة . بدليل أن الرئي قد يراه مرات على صور مختلفة ، ويراه الرائي على صفة ، وغيره على صفة أخرى . ولا يجوز أن تختلف صور النبي ﷺ ولا صفاته . وإنما معنى الحديث : "من رآني على صورتي التي خلقت عليها . فقد رآني ، إذ لا يتمثل الشيطان بي" إذ لم يقل : من رآني أنه رآني . وإنما قال : من رآني فقد رآني . وأنى لهذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها ؟ وإن ظن أنه رآه ، ما لم يعلم أن تلك الصورة صورته بعينها ، وهذا ما طريق لأحد إلى معرفته .
فهذا ما نقل عن ابن رشيد . وحاصله يرجع إلى أن المرئي قد يكون غير النبي ﷺ ، وإن اعتقد الرائي أنه هو .
والتأويل الثاني يقوله علماء التعبير : إن الشيطان قد يأتي النائم في صورة ما من معارف الرائي وغيرهم فيشير له إلى رجل آخر : هذا فلان النبي ، وهذا الملك الفلاني ، أو من أشبه هؤلاء ممن لا يتمثل الشيطان به . فيوقف اللبس على الرائي بذلك وله علامة عندهم . وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه المشار إليه بالأمر والنهي غير الموافقين للشرع ، فيظن الرائي أنه من قبل النبي ﷺ ، ولا يكون كذلك ، فلا يوثق بما يقول له أو يأمر أو ينهى .
وما أحرى هذا الضرب أن يكون الأمر أو النهي فيه مخالفاً لكمال الأول ، حقيق بأن يكون فيه موافقاً ، وعند ذلك لا يبقى في المسألة إشكال . نعم لا يحكم بمجرد الرؤيا حتى يعرضها على العلم ، لأمكان اختلاط أحد القسمين بالآخر وعلى الجملة فلا يستدل بالرؤيا في الأحكام إلا ضعيف المنة . نعم يأتي المرئي تأنيساً وبشارة ونذارة خاصة ، بحيث لا يقطعون بمقتضاها حكماً ، ولا يبنون عليها أصلاً ، وهو الاعتدال في أخذها ، حسبما فهم من الشرع فيها ، والله أعلم .
فصل وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة
عدلوقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة ، وغيرها في معناها ، وفيه من نكت هذا الكتاب جملة أخرى ، فهو مما يحتاج إليه بحسب الوقت والحال ، وإن كان فيه طول ولكنه يخدم ما نحن فيه إن شاء الله تعالى .
وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنهم سلكوا طريق الصوفية ، فيجتمعون في بعض الليالي ويأخذون في الذكر الجهوري على صوت واحد ، ثم في الغناء والرقص ، إلى آخر الليل ، ويحضر معهم بعض المتسمين بالفقهاء ـ يترسمون برسم الشيوخ الهداة إلى سلوك ذلك الطريق : هل هذا العمل صحيح في الشرع أم لآ ؟
فوقع الجواب بأن ذلك كله من البدع المحدثات ، المخالفة طريقة رسول الله ﷺ ، وطريقة أصحابه والتابعين لهم بإحسان ، فنفع بذلك ن شاء من خلقه .
ثم إن الجواب وصل إلى بعض البلطان ، فقامت على العاملين بتلك البدع ، وخافوا اندراس طريقتهم ، وانقطاع اكلهم بها ، فأرادوا الانتصار لأنفسهم ، بعد أن راموا ذلك بالانتساب بالسنة إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم واشتهرت في الانقطاع إلى الله ، والعمل بالسنة طريقتهم ، فلم يستقر لهم الاستدلال لكونهم على ضد ما كان عليه القوم ، فإنهم كانوا بنوا نحلتهم على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي ﷺ في الأخلاق والأفعال ، وأكل الحلال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال ، وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول ، فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم .
وكان من قدر الله أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت في مسألة تشبه هذه ، لكن حسن ظاهرها بحيث يكاد باطنها يخفى على غير المتأمل . فأجاب عفا الله عنه على مقتضى ظاهرها من غير تعرض إلى ما هم عليه من البدع والضلالات ، ولما سمع بعضهم بهذا الجواب أرسل به إلى بلدة أخرى ، فأتى به فرحل إلى غير بلده ، وشهر في شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة ، وأنه طالب للمناظرة فيها ، فدعي لذلك فلم يقم فيه ولا قعد ، غير أنه قال : إن هذه حجتي ، وألقى بالبطاقة التي بخط المجيب ، وكان هو ومحبه وأشياعه يطيرون بها رحاً ، فوصلت المسألة إلى غرناطة ، وطلب من الجميع النظر فيها . فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها إلا أن يظهر وجه الصواب فيها الذي يدان الله به لأنه من النصيحة التي هي الدين القويم ، والصراط المستقيم .
ونص خلاصة السؤال : ما يقول الشيخ فلان في جماعة من المسلمين يجتمعون في رباط على ضفة البحر في الليالي الفاضلة ، يقرؤون جزءاً من القرآن ، ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن في الوقت ، ويذكرون الله بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ، ثم يقوم من بينهم قوال يذكر شيئاً في مدح النبي ﷺ ، ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق سماعه من صفات الصالحين ، وذكر آلاء الله ونعمائه ، ويشوقهم بذكر المنازل الحجازية ، والمعاهد النبوية ، فيتواجدون اشتياقاً لذلك ، ثم يأكلون ما حضر من الطعام ، ويحمدون الله تعالى ، ويرددون الصلاة على النبي ﷺ ، ويبتهلون بالأدعية إلى اللله في صلاح أمورهم ، ويدعون للمسلمين ولإمامهم ويفترقون .
فهل يجوز اجتماعهم هلى ماذكر ؟ أم يمنعون وينكر عليهم ؟ ومن دعاهم من المحبين إلى منزله بقصد التبرك ، هل يجيبون دعوته ويجتمعون على الوجه المذكور أم لا ؟
فأجاب بما محصوله : مجالس تلاوة القرآن وذكر الله هي رياض الجنة ثم أتى بالشواهد على طلب ذكر الله . وأما الإنشادات الشعرية . فإنما الشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح ، وفي القرآن في شعراء الإسلام : "إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا " وذلك أن حسان بن ثابت ، وعبد الله بن رواحة ، وكعباً لما سمعوا قوله تعالى : "والشعراء يتبعهم الغاوون" . بكوا عند سماعها فنزل الاستثناء وقد أنشد الشعر بين يدي رسول الله ﷺ ، ورقت نفسه الكريمة وذرفت عيناه لأبيات أخت النضر لما طبع عليه من الرأفة والرحمة .
وأما التواجد عند السماع ، فهو في الأصل رقد النفس ، واضطراب القلب فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن . قال الله تعالى : "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" أي اضطربت رغباً أو رهباً . وعن اضطراب القلب يحصل اضطراب الجسم ، قال الله تعالى : "لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " الآية . وقال : "ففروا إلى الله" فإنما التواجد رقة نفسية ، وهزة قلبية ، ونهضة روحانية . وهذا هو التواجد عن وجد . ولا يسمع فيه نكير من الشرع . وذكر السلمي أنه كان يستدل بهذه الآية على حركة الوجد في وقت السماع . وهي : "وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا" الآية . وكان يقول : إن القلوب مربوطة بالملكوت ، حركتها أنوار الأذكار ، وما يرد عليها من فنون السماع .
ووراء هذا تواجد لا عن وجد ، فهو مناط الذم لمخالفة ما ظهر لما بطن ، وقد يعزب فيه الأمر عند القصد إلى استنهاض العزائم ، وأعمال الحركة في يقظة القلب النائم :
"يا أيها الناس ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" ولكن شتان ما بينهما .
وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته ، وله في ذلك قصده ونيته . فهذا ما ظهر تقييده على مقتضى الظاهر ، والله يتولى السرائر ، وإنما الأعمال بالنيات انتهى ما قيده .
فكان مما ظهر لي في هذا الجواب : أن ما ذكره في مجالس الذكر الصحيح إذا كان على حسب ما اجتمع عليه السلف الصالح ، فإنهم كانوا يجتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم ، حتى يتعلم بعضهم من بعض ، ويأخذ بعضهم من بعض ، فهو مجلس من مجالس الذكر التي جاء في مثلها من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ :
"ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ، إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة ، وحفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده" وهو الذي فهمه الصحابه رضي الله تعالى عنهم من الاجتماع على تلاوة كلام الله .
وكذلك الاجتماع على الذكر فإنه اجتماع على ذكر الله ففي رواية أخرى أنه قال :
"لا يقعد قوم يذكرون الله إلا حفتهم الملائكة" الحديث المذكور . لا الاجتماع للذكر على صوت واحد ، وإذا اجتمع القوم على التذكير لنعم الله ، أو التذاكر في العلم إن كانوا علماء ، أو كان فيهم عالم فجلس إليه متعلمون ، أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضاً بالعمل بطاعة الله والبعد عن معصيته ـ وما أشبه ذلك مما كان يعمل به رسول الله ﷺ في أصحابه ، وعمل به الصحابة والتابعون ـ فهذه المجالس كلها مجال ذكر وهي التي جاء فيها من الأجر ما جاء .
كما يحكى عن أبي ليلى أنه سئل عن القصص . فقال : أدركت أصحاب محمد ﷺ ويحدث هذا بما سمع وهذا بما سمع ـ فأما أن يجلسوا خطيباً فلا ـ وكان كالذي نراه معمولاً به في المساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علماً من العلوم الشرعية . أو تجتمع إليه العامة فيعلمهم أمر دينهم ويذكرهم بالله ويبين لهم سنة نبيهم ليعملوا بها ، ويبين لهم المحدثات التي هي ضلالة ليحذروا منها، ويتجنبوا مواطنها والعمل بها .
فهذه مجالس الذكر على الحقيقة وهي التي حرمها الله أهل البدع من هؤلاء الفقراء الذين زعموا أنهم سلكوا طريق التصوف ، وقل ما تجد منهم من يحسن قراءة الفاتحة في الصلاة إلا على اللحن ، فضلاً عن غيرها ، ولا يعرف كيف يتعبد ولا كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من الجنابة . وكيف يعلمون ذلك وهم قد حرموا مجالس الذكر التي تغشاها الرحمة ، وتنزل فيها السكينة ، وتحف بها الملائكة فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا ، فاقتدوا بجهال أمثالهم ، وأخذوا يقرؤون الأحاديث النبوية والآيات القرآنية فينزلونها على آرائهم ، لا على ما قال أهل العلم فيها . فخرجوا عن الصراط المستقيم ، إلى أن يجتمعوا ويقرأ أحدهم شيئاً من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد التلحين تشبه قراءته الغناء المذموم ، ثم يقولون : تعالوا نذكر الله فيرفعون أصواتهم يمشون ذلك الذكر مداولة ، طائفة في جهة ، وطائفة في جهة أخرى ، على صوت واحد يشبه الغناء ، ويزعمون أن هذا من مجالس الذكر المندوب إليها ، وكذبوا : فإنه لو كان حقاً لكان السلف الصالح أولى بإدراكه وفهمه والعمل به ؟ وقد قال تعالى : "ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين" والمعتدون في التفسير هم الرافعون أصواتهم بالدعاء .
"وعن أبي موسى قال : كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير ، فقال النبي ﷺ : أربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً تدعون سميعاً قريباً ، وهو معكم" . وهذا الحديث من تمام تفسير الآية ، ولم يكونوا رضي الله عنهم يكبرون على صوت واحد ، ولكنه نهاهم عن رفع الصوت ليكونوا ممتثلين للآية . وقد جاء عن السلف أيضاً النهي عن الاجتماع على الذكر ، والدعاء بالهيئة التي يجتمع عليها هؤلاء المبتدعون وجاء عنهم النهي عن المساجد المتخذة لذلك ، وهي الربط التي يسمونها بالصفة . وذكر من ذلك ابن وهب وابن وضاح وغيرهما ما فيه كفاية لمن وفقه الله .
فالحاصل من هؤلاء أنهم حسنوا الظن بأنهم فيما هم عليه مصيبون ، وأساؤوا الظن بالسلف الصالح أهل العمل الراجح الصريح ، وأهل الدين الصحيح . ثم لما طالبهم لسان الحال بالحجة أخذوا كلام المجيب وهم لا يعملون ، وقولوه ما لا يرضى به العلماء ، وقد بين ذلك في كلام آخر إذ سئل عن ذكر فقراء زماننا ، فأجاب بأن مجالس الذكر المذكورة بين الأحاديث أنها هي التي يتلى فيها القرآن ، والتي يتعلم فيها العلم والدين ، والتي تعمر بالعلم والتذكير بالآخرة والجنة والنار . وكمجالس سفيان الثوري ، والحسن ، وابن سيرين ، وأضرابهم .
أما مجالس الذكر اللساني فقد صرح بها في حديث الملائكة السياحين ، لكن لم يذكر فيه جهراً بالكلمات ، ولا رفع أصوات ، وكذلك غيره . لكن الأصل المشروع إعلان الفرائض وإخفاء النوافل ، وأتى بالآية وبقوله تعالى : "إذ نادى ربه نداء خفيا " وبحديث :
"أربعوا على أنفسكم" . قال : وفقراء الوقت قد تخيروا بآيات ، وتميزوا بأصوات ، هي إلى الاعتداء ، أقربق منها إلى الاقتداء وطريقتهم إلى اتخاذها مأكلة وصناعة ، أقرب منها إلى اعتدادها قربةً وطاعةً .
انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد . وهي دليل على أن فتواه المحتج بها ليس معناها ما رام هؤلاء المبتدعة . فإنه سئل في هذه عن فقراء الوقت ، فأجاب بذمهم ، وأن حديث النبي ﷺ لا يتناول عملهم . وفي الأولى إنما سئل عن قوم يجتمعون لقراءة القرآن ، أو لذكر الله . وهذا السؤال يصدق على قوم يجتمعون مثلاً في المسجد فيذكرون الله كل واحد منهم في نفسه أو يتلو القرآن نفسه كما يصدق على مجالس المعلمين والمتعلمين ، وما أشبه ذلك مما تقدم التنبيه عليه فلا يسعه وغيره من العلماء إلا أن يذكر محاسن ذلك والثواب عليه . فلما سئل عن أهل البدع في الذكر والتلاوة بين ما ينبغي أن يعتمد عليه الموفق ، ولا توفيق إلا بالله العلي العظيم .
وأما ما ذكره في الإنشادات الشعرية ، فجائز للإنسان أن ينشد الشعر الذي لا رفث فيه ، ولا يذكر بمعصية ، وأن يسمعه من غيره إذا أنشد ، على الحد الذي ينشد بين يدي رسول الله ﷺ ، أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء ، وذلك أنه كان ينشد ويسمع لفوائد .
منها : المنافخة عن رسول الله ﷺ ، وعن الإسلام وأهله ، ولذلك " كان حسان بن ثابت رضي الله عنه قد نصب له منبر في المسجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود ، حتى يقولوا : خطيبه أخطب من خطيبنا ، وشاعره أشعر من شاعرنا ، ويقول له ﷺ : اهجهم وجبريل معك" وهذا من باب الجهاد في سبيل الله ، ليس للفقراء من فضله في غنائهم بالشعر قليل ولا كثير .
ومنها : أنهم كانوا يتعرضون لحاجاتهم ويستشفعون بتقديم الأبيات بين يدي طلباتهم . كما فعل ابن زهير رضي الله عنه ، وأخت النضر بن الحارث ، ومثل ما يفعل الشعراء مع الكبراء . هذا لا حرج فيه ما لم يكن في الشعر ذكر ما لا يجوز . ونظيره في سائر الأزمنة تقديم الشعر للخلفاء والملوك ومن أشبههم قطعاً من أشعارهم بين يدي حاجاتهم ، كما يفعله أهل الوقت المجردون للسعاية على الناس ، مع القدرة على الاكتساب . وفي الحديث :
"لا تصح الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوي" فإنهم ينشدون الأشعار التي فيها ذكر الله وذكر رسوله ، وكثيراً ما يكون فيها ما لا يجوز شرعاً ، ويتمندلون بذكر الله ورسوله في الأسواق والمواضع القذرة ، ويجعلون ذلك آلة الأخذ ما في أيدي الناس ، لكن بأصوات مطربة يخاف بسببها على النساء ومن لا عقل له من الرجال .
ومنها : أنهم ربما أنشدوا الشعر في الأسفار الجهادية تنشيطاً لكلال النفوس ، وتنبيهاً للرواحل أن تنهض في اثقالها ، وهذا حسن ، لكن العرب لم يكن لها من تحسين النغمات ما يجري مجرى ما الناس عليه اليوم ، بل كانوا ينشدون الشعر مطلقاً من غير أن يتعلموا هذه الترجيعات التي حدثت بعدهم ، بل كانوا يرققون الصوت ويمططونه على وجه لا يليق بأمية العرب الذين لم يعرفوا صنائع الموسيقى ، فلم يكن فيه إلذاذ ولا إطراب يلهي ، وإنما كان لهم شيء من النشاط كما كان الحبشة وعبد الله بن رواحة يحدوان بين يدي رسول الله ﷺ ، وكما كان الأنصار يقولون عند حفر الخندق :
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما حيينا أبداً
فيجيبهم ﷺ بقوله :
"اللهم لا خير إلا خير الآخرة . فاغفر للأنصار والمهاجرة" .
ومنها : أن يتمثل الرجل بالبيت أو الأبيات من الحكمة في نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يحركها لمقتضى معنى الشعر ، أو يذكرها ذكراً مطلقاً ، كما حكى أبو الحسن القرافي الصوفي عن الحسن أن قوماً أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا : يا أمير المؤمنين ! إن لنا إماماً إذا فرغ من صلاته تغنى . فقال عمر : من هو ؟ فذكر الرجل . فقال : قوموا بنا إليه فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تجسسنا عليه أمره . قال : فقام عمر مع جماعة من أصحاب النبي ﷺ حتى أتوا الرجل وهو في المسجد ، فلما أن نظر إلى عمر قام فاستقبله فقال : يا أمير المؤمنين ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟ إن كانت الحاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك ، وإن
وقد رأينا أن تختم الكلام في الباب بفصل جمع جملة من الاستدلالات المتقدمة
عدلكانت الحاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول الله ﷺ . قال له عمر : ويحك ! بلغني عنك أمر ساءني . قال : وما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال : أتتمجن في عبادتك ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين ، لكنها عظة أعظ بها نفسي . قال عمر :قلها ، فإن كان كلاماً حسناً قلته معك وإن كان قبيحاً نهيتك عنه . فقال :
وفؤاد كلما عاتبته في مدى الهجران يبغي تعبي
لا أراه الدهر إلا لاهياً في تماديه فقد برح بي
يا قرين السوء ما هذا الصبا فني العمر كذا في اللعب
وشباب بان عني فمضى قبل أن أقضي منه أربي
ما أرجي بعده إلا الفنا ضيق الشيب على مطلبي
ويح نفسي لا أراها أبداً في جميل لا ولا في أدب
نفس لا كنت ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي وارهبي
قال : فقال عمر رصي الله عنه :
نفس لا كنت ولا كان الهوى راقبي المولى وخافي وارهبي
ثم قال عمر : على هذا فليغن من غنى .
فتأملوا قوله : بلغني أمر ساءني . مع قوله : أتتمجن في عبادتك . فهو من أشد ما يكون في الإنكار ، حتى أعلمه أنه يردد لسانه أبيات حكمة فيها موعظة ، فحينئذ أقره وسلم له .
هذا وما أسبهه كان فعل القوم ، وهم مع ذلك لم يقتصروا في التنشيط للنفوس ولا الوعظ على مجرد الشعر ، بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ، ولا كانوا يستحضرون لذكر الأشعار المغنين ، إذ لم يكن ذلك من طلباتهم ، ولا كان عندهم من الغناء المستعمل في أزماننا شيء ، وإنما دخل في الإسلام بعدهم حين خالط العجم المسلمين .
وقد بين ذلك أبو الحسن القرافي فقال : أي الماضين من الصدر الأول حجة على من بعدهم ، ولم يكونوا يلحنون الأشعار ولا ينغمونها بأحسن ما يكون من النغم إلا من وجه إرسال الشعر واتصال القوافي . فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردوداً إلى أصل الخلقة لا يتصنعون ولا يتكلفون .
هذا ما قال . فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك المحدث . وحتى سئل مالك بن أنس رضي الله عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل المدينة . فقال : إنما يفعله الفساق ولكن المتقدمون أيضاً يعدون الغناء جزءاً من أجزاء طريقة التعبد ، وطلب رقة النفوس ، وخشوع القلوب ، حتى يقصدونه قصداً ، ويتعمدون الليالي الفاضلة ، فيجتمعون لأجل الذكر الجهري ، والشطح ، والرقص ، والتغاشي ، والصياح ، وضرب الأقدام على وزن إيقاع الكف أو الآلات ، وموافقة النغمات .
هل في كلام النبي صلى الله عنه وعمله المنقول في الصحاح أو عمل السلف الصالح أو أحد من العلماء اثر؟ أو في كلام المجيب ما يصرح بكلام مثل هذا ؟
بل سئل عن إنشاد الأشعار بالصوامع كما يفعله المؤذنون اليوم في الدعاء بالأسحار ؟ فأجاب بأن ذلك بدعة مضافة إلى بدعة ، لأن الدعاء بالصوامع بدعة . وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى ، إذ لم يكن ذلك في زمن السلف المقتدى بهم .
وأما ما ذكره المجيب في التواجد عند السماع من أنه أثر رقة النفس واضطراب القلب ، فإنه لم يبين ذلك الأثر ما هو ، كما أنه لم يبين معنى الرقة ، ولا عرج عليها بتفسير يرشد إلى فهم التواجد عند الصوفية ، وإنما في كلامه أن ثم أثراً ظاهراً يظهر على جسم المتواجد ، وذلك الأثر يحتاج إلى تفسير ، ثم التواجد يحتاج إلى شرح بحسب ما يظهر من كلامه .
والذي يظهر في التواجد ما كان يبدو على جملة من أصحاب رسول الله ﷺ ، وهو البكاء واقشعرار الجلد التابع للخوف الآخذ بجامع القلوب ، وبذلك وصف الله عباده في كلامه حين قال : "الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" وقال تعالى : "وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" وقال : "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا" إلى قوله : "أولئك هم المؤمنون حقا" .
وعن عبد الله بن الخير رضي الله عنه قال :
انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو يصلي ، ولجوفه أزير كأزير المرجل ( يعني من البكاء ) والأزير صوت يشبه صوت غليان القدر . وعن الحسن قال : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع" فربى لها ربوة ، عيد منها عشرين يوماً . وعن عبيد الله بن عمر ، قال : صلى بنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الفجر ، فافتتح سورة يوسف فقرأها حتى إذا بلغ : "وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم" بكى حتى انقطع . وفي رواية لما انتهى إلى قوله : "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله" بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف . وعن أبي صالح قال : لما قدم أهل اليمن في زمان أبي بكر رضي الله عنه سمعوا القرآن فجعلوا يبكون ، فقال أبو بكر : هكذا كنا حتى قست قلوبنا . وعن ابن أبي ليلى أنه قرأ سورة مريم حتى انتهى إلى السجدة : "خروا سجدا وبكيا" فسجد بها ، فلما رفع رأسه قال : هذه السجدة قد سجدناها فأين البكاء؟ إلى غير ذلك من الآثار الدالة على أن أثر الموعظة الذي يكون بغير تصنع إنما هو على هذه الوجوه وما أشبهها .
ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعالى : "وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض" ذكره بعض المفسرين . وذلك أنه لما ألقى الله الإيمان في قلوبهم حضروا عند ملكهم دقيانوس الكافر ، فتحركت فأرة أو هرة خاف لأجلها الملك ، فنظر الفتية إلى بعض ، ولم يتمالكوا أن قاموا مصرحين بالتوحيد ، معلنين بالدليل والبرهان ، منكرين على الملك نحلة الكفر ، باذلين أنفسهم في ذات الله . فأوعدهم ثم أخلفهم ، فتواعدوا الخروج إلى الغار ، إلى أن كان منهم ما حكى الله تعالى في كتابه ، فليس في ذلك صعق ولا صياح ، ولا شطح ، ولا تغاش مستعمل ، ولا شيء من ذلك ، وهو شأن فقرائنا اليوم .
وخرج سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الله بن عروة بن الزبير ، قال : قلت لجدتي أسماء : كيف كان أصحاب رسول الله ﷺ إذا قرؤوا القرآن ؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله ، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم . قلت : إن ناساً ها هنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية . فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .
وخرج أبو عبيد من أحاديث أبي حازم . قال : مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله ، فقال : ما هذا ؟ فقالوا : إذا قرئ عليه القرآن ، أو سمع الله يذكر خر من خشية الله . قال ابن عمر : والله إنا لنخشى الله ولا نسقط . وهذا إنكار .
وقيل لعائشة رضي الله عنها : إن قوماً إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم . فقالت : إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ، ولكنه كما قال الله تعالى : " تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون فقال : ذلك فعل الخوارج .
وخرج أبو نعيم عن جابر بن عبد الله أن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه قال : جئت أبي ، فقال : اين كنت ؟ فقلت : وجدت أقواماً يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله فقعدت معهم ، فقال : لا تقعد بعدها . فرآني كأنه لم يأخذ ذلك في فقال : رأيت رسول الله ﷺ يتلو القرآن . ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن ، فلا يصيبهم هذا ، أفتراهم أخشع لله من أبي بكر وعمر ؟ فرأيت ذلك كذلك فتركتهم ، وهذا بأن ذلك كله تعمل وتكلف لا يرضى به أهل الدين .
وسئل محمد بن سيرين ، عن الرجل يقرأ عنده فيصعق ، فقال : ميعاد ما بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن من أوله إى آخره ، فإن وقع فهو كما قال .
وهذا الكلام حسن في المحق والمبطل ، لأنه إنما كان عند الخوارج نوعاً من القحة في النفوس المائلة عن الصواب ، وقد تغالط النفس فيه فتظنه انفعالاً صحيحاً وليس كذلك . والدليل عليه أنه لم يظهر على أحد من الصحابة لا هو ولا ما يشبهه ، فإن مبناهم كان على الحق ، فلم يكونوا يستعملون في دين الله هذه اللعب القبيحة المسقطة للأدب والمروءة .
نعم قد لا ينكر اتفاق الغشي ونحوه أو الموت لمن سمع الموعظة بحق فضعف عن مصابرة الرقة الحاصلة بسببها . فجعل اابن سيرين ذلك الضابط ميزاناً للمحق والمبطل وهو ظاهر، فإن القحة لا تبقى مع خوف السقوط من الحائط . فقد اتفق من ذلك بعض النوادر وظهر فيها عذر التواجد .
فحكي عن أبي وائل ، قال : خرجنا مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ومعناالربيع بن خثيمة فممرنا على حداد ، فقام عبد الله ينظر إلى حديده في النار ، فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط ، ثم إن عبد الله مضى كما هو حتى أتينا على شاطىء الفرات على أتون فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية : "إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا" إلى قوله : "دعوا هنالك ثبورا "فصعق الربيع، يعني غشي عليه . فاحتملناه فأتينا به أهله ـ قال ـ ورابطة عبد الله إلى الظهر فلم يفق، فرابطه إلى المغرب
فأفاق، ورجع عبد الله إلى أهله .
فهذه حالات طرأت لواحد من أفاضل التابعين بمحضر صحابي ، ولم ينكر عليه لعلمه أن ذلك خارج عن طاقته ، فصار بتلك الموعظة الحسنة كالمغمى عليه ، فلا حرج إذاً .
وحكي أن شاباً كان يصحب الجنيد رضي الله عنه ـ وهو إمام الصوفية إذ ذاك ـ فكان الشاب إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق ، فقال له الجنيد يوماً : إن فعلت ذلك مرةً أخرى لم تصحبني . فكان إذا سمع شيئاً يتغير ، ويضبط نفسه حتى كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة ، فيوماً من الأيام صاح صيحه تلفت نفسه ، فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف ، لأنه لو كانت صيحته الأولى غلبته لم يقدر على ضبط نفسه ، وإن كان بشدة ، كما لم يقدر على ضبط نفسه الربيع بن خثيمة ، وعليه أدبه الشيخ حين أنكر عليه ووعده بالفرقة ، إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا رعونة النفس ، فلما خرج الأمر عن كسبه ـ بدليل موته ـ كانت صيحته عفواً لا حرج عليه فيها إن شاء الله .
بخلاف هؤلاء القوم الذين لم يشموا من أوصاف الفضلاء فأخذوا بالتشبه بهم ، فابرز لهم هواهم التشبه بالخوارج ، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم ، ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور ، وبعضهم يضرب على رأسه . وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى ، لكونه من أعمال الصبيان والمجانين ، المبكي للعقلاء ، رحمةً لهم ، إذ لم يتخذ مثل هذا طريقاً إلى الله وتشبهاً بالصالحين .
وقد صح من حديث العرياض بن سارية رضي الله عنه ، قال :
"وعظنا رسول الله ﷺ موعظةً بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب "، الحديث ، فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر رضي الله عنه : ميزوا هذا الكلام ، فإنه لم يقل : صرخنا من موعظة ، ولا طرقنا على رؤوسنا ، ولا ضربنا على صدورنا ، ولا زفنا ولا رقصنا ، كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ ويزعقون ، وينتاشون ـ قال ـ : وهذا كله من الشيطان يلعب بهم ، وهذا كله بدعة وضلالة ، ويقال لمن فعل هذا :
اعلم أن النبي ﷺ أصدق الناس موعظةً ، وأنصح الناس لأمته ، وأرق الناس قلبأً ، وخير الناس من جاء بعده ـ لا يشك في ذلك عاقل ـ ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا ، ولو كان هذا صحيحاً لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدي رسول الله ﷺ ، ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك . انتهى كلامه . وهو واضح فيما نحن فيه .
ولا بد من النظر في الأمر كله الموجب للتأثر الظاهر في السلف الأولين مع هؤلاء المدعين ، فوجدنا الأولين يظهر عليهم ذلك الأثر بسبب ذكر الله ، أو بسماع آية من كتاب الله ، وبسبب رؤية اعتبارية ـ كما في قصة الربيع عند رؤيته للحداد والأتون وهو موقد النار ـ ولسبب قراءة في صلاة أو غيرها ، ولم نجد أحداً منهم ـ فيما نقل العلماء ـ يستعملون الترنم بالأشعار لترق نفوسهم ، فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم ، فإنهم يستعملون القرآن والحديث والوعظ والتذكير فلا تتأثر ظواهرهم ، فإذا قام المزمر تسابقوا إلى حركاتهم المعروفة لهم ، فبالحري ألا يتأثروا على تلك الوجوه المركوهة المبتدعة . لأن الحق لا ينتج إلا حقاً كما أن الباطل
لا ينتج إلا باطلاً .
وعلى هذا التقرير ينبني النظر في حقيقة الرقة المذكورة ، وهي المحركة للظاهر . وذلك أن الرقة ضد الغلط ، فنقول : هذا رقيق ليس بغليط ، ومكان رقيق إذا كان لين التراب ، ومثله الغليط ، فإذا وصف بذلك فهو راجع إلى لينه وتأثره ضد القسوة ، ويشعر بذلك قوله تعالى : "ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" لأن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الموعظة خضع لها ولان وانقاد ، ولذلك قال تعالى : "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" فإن الوجل تأثر ولين يحصل في القلب بسبب الموعظة ، فترى الجلد من أجل ذلك يقسعر ، والعين تدمع ، واللين إذا حل بالقلب ـ وهو باطن الإنسان ـ حل بالجلد بشهادة الله ـ وهو ظاهر الإنسان ـ فقد حل الانفعال بمجموع الإنسان الأولين ـ كما تقدم ـ فإذا رأيت أحداً سمع موعظةً أي موعظة كانت ، فيظهر عليه من الأثر ما ظهر على السلف الصالح ، علمت أنها رقة هي أول الوجد ، وأنها صحيحة لا اعتراض فيها .
وإذا رأيت أحداً سمع موعظة قرآنيةً أو سنيةً أو حكميةً ولم يظهر عليه من تلك الآثار شيء ، حتى يسمع شعراً مرقماً أو غناء مطرباً فتأثر ، فإنه لا يظهر عليه في الغالب من تلك الآثار شيء ، وإنما يظهر عليه انزعاج بقيام ، أو دوران ، أو شطح ، أو صياح ، أو ما يناسب الغناء ، لأن الرقة ضد القسوة ـ كما تقدم ـ والطرب ضد الخشوع ـ كما يقوله الصوفية ـ والطرب مناسب للحركة ، لأنه ثوران الطباع ، ولذلك اشترك فيه مع الإنسان الحيوان ، كالإبل والنحل ، ومن لا عقل له من الأطفال ، وغير ذلك . والخشوع ضده ، لأنه راجع إلى السكون ، وقد فسر به لغة ، كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب الإنسان من حزن أو سرور .
قال الشاعر :
طرب الواله أو كالمختبل
والتطريب مد الصوت وتحسينه .
وبيانه أن الشعر المغنى به قد اشتمل على أمرين :
أحدهما : ما فيه من الحكمة والموعظة ، وهذا مختص بالقلوب . ففيها تعمل وبها تنفعل ، ومن هذه الجهة ينسب السماع إلى الأرواح .
والثاني : ما فيه من النغمات المرتبة على النسب التلحيينة ، وهو المؤثر في الطبائع ، فيهيجها إلى ما يناسبها ، وهي الحركات على اختلافها ، فكل تأثر في القلب من جهة السماع تحصل عنه آثار الكون والخضوع فهو رقة ، وهو التواجد الذي أشار إليه كلام المجيب - ولا شك أنه محمود - وكل تأثر يحصل عنه ضد السكون ،
فهو طرب لا رقة فيه ولا تواجد ، ولا هو عند شيوخ الصوفية محمود ، لكن هؤلاء الفقراء ليس لهم من التواجد - في الغالب - إلا الثاني المذموم ، فهم إذا متواجدون بالنغم واللحون ، لا يدركون من معاني الحكمة شيئاً . فقد باؤوا إذا بأخسر الصفقتين . نعوذ بالله .
وإنما جاءهم الغلط من جهة اختلاط المناطين عليهم ، ومن جهة أنهم استدلوا بغيره فقوله تعالى : "ففروا إلى الله" وقوله : " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا" لا دليل فيه على المعنى . وكذلك قوله تعالى : "إذ قاموا فقالوا ربنا" أين فيه أنهم قاموا يرقصون ، أو يزفنون ، أو يدورون على أقدامهم ؟ ونحو ذلك ، فهو من الاستدلال الداخل تحت هذا الجواب .
ووقع في كلام المجيب لفظ السماع غير مفسر ، ففهم منه المجتمع أنه الغناء الذي تستعمله شيعته ، وهو فهم عموم الناس ، لا فهم الصوفية ، فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يخضع لها القلب ، ويلين لها الجلد . وهو الذي يتواجدون عنده التواجد المحمود ، فسماع القرآن عنهم سماع ، وكذلك سماع السنة وكلام الحكماء والفضلاء حتى أصوات الطير وخرير الماء ، وصرير الباب . ومنه سماع المنظور أيضاً إذا أعطى حكمة ، ولا يستمعون هذا الأخير إلا في الفرط ، وعلى غير استعداد وعلى غير وجه الالتذاذ والإطراب ، ولا هم ممن يدوام عليه أو يتخذه عادة ، لأن ذلك كله قادح في مقاصدهم التي بنوا عليها .
قال الجنيد : إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة . وإنما لهم من سماعة إذا اتفق وجه الحكمة إن كان فيه حكمة ، فاستوى عندهم النظم والنثر . وإن أطلق أحد منهم السماع ، فمن حيث فهم الحكمة لا من حيث يلائم الطباع لأن من سمعه من حيث يستحسنه فهو متعرض للفتنة فيصير إلى ما صار إليه السماع الملذ المطرب .
ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ، ما ذكر عن أبي عثمان المغربي أنه قال : من ادعى السماع ولم يسمع صوت الطير وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع . وقال الحصري : أيش أعمل بسماع ينقطع ممن يسمع منه ؟ وينبغي أن يكون سماعك سماعاً متصلاً غير منقطع . وعن أحمد بن سالم قال : خدمت سهل بن عبد الله التستري سنين ، فما رأيته تغير عند سماع شيء يسمعه من الذكر أو القرآن أو غيره ، فلما كان في آخر عمره قرىء بين يديه : "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية" تغير وارتعد وكاد يسقط ، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك فقال : يا حبيبي ضعفنا . وقال السلمي دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة ، فقال لي : يا أبا عبد الرحمن ! تدري إيش تقول هذه البكرة ؟ فقلت : لا . فقال : تقول الله .
فهذه الحكايات وأشباهها تدل على أن السماع عندهم كما تقدم ، وأنهم لا يؤثرون سماع الأشعار على غيرها فضلاً على أن يتصنعوا فيها بالأغاني المطربة . ولما طال الزمان وبعدوا عن أحوال السلف الصالح ، أخذ الهوى في التفريع في السماع حتى صار يستعمل منع المصنوع على قانون الألحان ، فتعشقت به الطباع ، وكثر العمل به ودام ـ وإن كان قصدهم به الراحة فقط ـ فصار قذى في طريق سلوكهم فرجعوا به القهقرى ،ثم طال الأمد حتى اعتقده الجهال في هذا الزمان وما قاربه أنه قربة ، وجزء أجزاء طريقة التصوف ، وهو الأدهى .
وقول المجيب : وأما من دعا طائفة إلى منزله فتجاب دعوته وله في دعوته قصده مطابق حسب ما ذكر أولاً ، بأن من دعا قوماً إلى منزله لتعلم آية أو سورة من كتاب الله ، أو سنة من سنن رسول الله ﷺ ، أو مذاكرة في علم أو في نعم الله ، أو مؤانسة في شعر فيه حكمة ليس فيه غناء مكروه ولا صحبه شطح ولا زفن ولا صياح ، وغير ذلك من المنكرات ، ثم ألقى إليهم من الطعام على غير وجه التكلف والمباهاة ، ولم يقصد بذلك بدعة ، ولا امتيازاً لفرقة تخرج بأفعالها وأقوالها عن السنة فلا شك في استحسان ذلك ، لأنه داخل في حكم المأدبة المقصود بها حسن العشرة بين الجيران والإخوان ، والتودد بين الأصحاب ، وهي في حكم الاستحباب ، فإن كان فيها تذاكر في علم أو نحوه ،فهي من باب التعاون على الخير .
ومثال ما يحكى عن محمد بن حنيف ، قال : دخلت يوماً على القاضي علي بن أحمد ، فقال لي : يا أبا عبد الله ! قلت : لبيك أيها القاضي ، قال : ها هنا أحكي لكم حكاية تحتاج أن تكتبها بماء الذهب ، فقلت : أيها القاضي ! ما الذهب فلا أجده ، ولكني أكتبها بالحبر الجيد ، فقال : بلغني أنه قيل أبي عبد الله أحمد بن حنبل : أن الحارث المحاسبي يتكلم في علوم الصوفية ويحتج عليه بالآي ، فقال أحمد : أحب أن أسمع كلامه من حيث لا يعلم ، فقال أنا أجمعك معه ، فاتخذ دعوة ودعا الحارث وأصحابه ودعا أحمد ، فجلس بحيث يرى الحارث ، فحضرت الصلاة ، فتقدم وصلى بهم المغرب ، وأحضر الطعام ، فجعل يأكل ويتحدث معهم ، فقال أحمد : هذا منالسنة .
فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الحارث وجلس أصحابه ، فقال : من أراد منكم أن يسأل شيئاً فليسأل ، فسئل عن الإخلاص ، وعن الرياء ، ومسائل كثيرة ، فاستشهد بالآي والحديث ، أحمد يسمع لا ينكر شيئاً من ذلك فلما مضى هدي من الليل أمر الحارث قارئاً يقرأ شيئاً من القرآن على الحدو فقرأ ، فبكى بعضهم وانتخب آخرون ، ثم سكت القارىء ، فدعا الحارث بدعوات خفاف ، ثم قام إلى الصلاة ، فلما أصبحوا قال أحمد : قد كان بلغني أن ها هنا مجالس للذكر يجتمعون عليها ، فإن كان هذا من تلك المجالس فلا أنكر منها شيئاً .
ففي هذه الحكاية أن أحوال الصوفية توزن بميزان الشرع ، وأن مجالس الذكر ليست ما زعم هؤلاء بل ما تقدم لنا ذكره ، وأما ما سوى ذلك مما اعتادوه فهو مما ينكر .
والحارث المحاسبي من كبار الصوفية المقتدى بهم فإذاً ليس في كلام المجيب ما يتعلق به هؤلاء المتأخرون إذ باينوا المتقدمين من كل وجه ، وبالله التوفيق .
والأمثلة في الباب كثيرة لو تتبعت لخرجنا عن المقصود ، وإنما ذكرنا أمثلة تبين من استلالاتهم الواهية ما يضاهيها ، وحاصلها الخروج في الاستدلال عن الطريق الذي أوضحه العلماء ، وبينه الأئمة ، وحصر أنواعه الراسخون في العلم .
ومن نظر إلى طريق أهل البدع في الاستدلالات عرف أنها لا تنضبط ، لأنها سيالة لا تقف عند حد . وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حتى ينسب النحلة التي التزمها إلى الشريعة .
فقد رأينا وسمعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن . كما استدل بعض النصارى على تشريك عيسى بقوله تعالى : "وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه" ، واستدل على أن الكفار من أهل الجنة بإطلاق قوله تعالى : "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر" واستدل بعض اليهود على تفضيلهم علينا بقوله سبحانه : "اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين" . وبعض الحلولية استدل على قوله تعالى : "ونفخت فيه من روحي" والتناسخي استدل بقوله : "في أي صورة ما شاء ركبك" .
وكذلك كل من اتبع المتشابهات ، أو حرف المناطات ، أو حمل الآيات ، ما لا تحمله عند السلف الصالح ، أو تمسك بالأحاديث الواهية ، أو اخذ الأدلة ببادي الرأي ، له أن يستدل على كل فعل أو قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث لا يفوز بذلك أصلاً ، والدليل عليه استدلال كل فرقة شهرت بالبدعة على بدعتها يآية أو حديث من غير توقف ـ حسبما تقدم ذكره ـ وسيأتي له نظائر أيضاً إن شاء الله .
فمن طلب خلاص نفسه تثبت حتى يتضح له الطريق ، ومن تساهل رمته أيدي الهوى في معاطب لا مخلص له منها إلا ما شاء الله .