كتاب الاعتصام/الباب السادس

كتاب الاعتصام

الباب السادس . في أحكام البدع وأنها ليست على رتبة واحدة عدل

اعلم أنا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إلى الأحكام الخمسة فلا إشكال في اختلاف رتبتها ، لأن النهي من جهة انقسامه إلى نهي الكراهية ونهي التحريم يستلزم أن أحدهما أشد في النهي من الآخر ، فإذا انضم إليهما قسم الإباحة ظهر الاختلاف في الأقسام ، فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم الوجوب كان الاختلاف فيها أوضح ـ وقد مر من أمثلتها أشياء كثيرة ـ لكنا لا نبسط القول في هذا التقسيم ولا بيان بالأشد والأضعف ، لأنه إما أن يكون حقيقياً فالكلام فيه عناء ، وإن كان غير حقيقي فقد تقدم أنه غير صحيح ، فلا فائدة في التفريع على ما لا يصح ، وإن عرض في ذلك نظر أو تفريع فإنما يذكر بحكم التبع بحول الله .

فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلاثة أقسام : قسم الوجوب ، وقسم الندب ، وقسم الإباحة ، انحصر النظر فيما بقي وهو الذي ثبت من التقسيم ، غير أنه ورد النهي عنها على وجه واحد ، ونسبته إلى الضلالة واحدة ، في قوله :

"إياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار" وهذا عام في كل بدعة ، فيقع السؤال : هل لها حكم واحد أم لا ؟ فنقول : ثبت في الأصول أن الأحكام الشرعية خمسة ، تخرج عنها الثلاثة ، فيبقى حكم الكراهية وحكم التحريم ، فاقتضى النظر انقسام البدع إلى القسمين ، فمنها بدعة محرمة ، ومنها بدعة مكروهة ، وذلك أنها داخلة تحت جنس المنهيات وهي لا تعدو الكراهة والتحريم ، فالبدع كذلك . هذا وجه .

ووجه ثان : أن البدع إذا تؤمل معقولها وجدت رتبتها متفاوتة ، فمنها ما هو كفر صراح ، كبدعة الجاهلية التي نبه عليها القرآن ، كقوله تعالى : "وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا " ، وقوله تعالى : "وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء" وقوله تعالى : "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام " ، وكذلك بدعة المنافقين حيث اتخذوا الذين ذريعة لحفظ النفس والمال ، وما أشبه ذلك مما يشك أنه كفر صراح .

ومنها ، ما هو من المعاصي التي ليست بكفر أو يختلف هل هي كفر أم لا ! كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة .

ومنها ، ما هو مكروه كما يقول مالك في اتباع رمضان بست من شوال ، وقراءة القرآن بالإدارة ، والإجتماع للدعاء عشية عرفة ، وذكر السلاطين في خطبة الجمعة ـ على ما قاله ابن عبد السلام الشافعي ـ وما أشبه ذلك .

فمعلوم أن هذه البدع ليست في رتبة واحدة فلا يصح مع هذا أن يقال : إنها على حكم واحد ، هو الكراهة فقط ، أو التحريم فقط .

ووجه ثالث : إن المعاصي منها صغائر ومنها كبائر ، ويعرف ذلك بكونها واقعة في الضروريات أو الحاجيات أو التكميليات ، فإن كانت في الضروريات فهي أعظم الكبائر ، وإن وقعت في التحسينات فهي أدنى رتبة بلا إشكال ، وإن وقعت في الحاجيات فمتوسطة بين الرتبتين .

ثم إن كل رتبة من هذه الرتب لها مكمل ، ولا يمكن في المكمل أن يكون في رتبة المكمل ، فإن المكمل مع المكمل في نسبة الوسيلة مع المقصد ، ولا تبلغ الوسيلة رتبة المقصد ، فقد ظهر تفاوت رتب المعاصي والمخالفات .

وأيضاً ، فإن من الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب في التأكيد وعدمه ، فليست مرتبة النفس كمرتبة الدين ، وليس تستصغر حرمة النفس في جنب حرمة الدين ، فيبيح الكفر الدم ، والمحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والإتلاف ، في الأمر بمجاهدة الكفار والمارقين عن الدين .

ومرتبة العقل والمال ليست كمرتبة النفس ، ألا ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص ؟ فالقتل بخلاف العقل والمال ، وكذلك سائر ما بقي ، وإذا نظرت في مرتبة النفس تباينت المراتب ، فليس قطع العضو كالذبح ، ولا الخدش كقطع العضو وهذا كله محل بيانه الأصول .

فصل وإذا كان كذلك : فالبدع من جملة المعاصي عدل

وإذا كان كذلك : فالبدع من جملة المعاصي ، وقد ثبت التفاوت في المعاصي فكذلك يتصور مثله في البدع . فمنها ما يقع في الضروريات ( أي أنه إخلال بها ) ، ومنها ما يقع في رتبة الحاجيات ، ومنها ما يقع في رتبة التحسينيات ، وما يقع في رتبة الضروريات ، منه ما يقع في الدين أو النفس أو النسل أو العقل أو المال .

فمثال وقوعه في الدين ما تقدم من اختراع الكفار وتغييرهم ملة إبراهيم عليه السلام ، من نحو قوله تعالى : "ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام" فروي عن المفسرين فيها أقوال كثيرة ، وفيها عن ابن المسيب أن البحيرة من الإبل هي التي يمنح درها للطواغيت ، والسائبة هي التي يسيبونها لطواغيتهم ، والوصيلة هي الناقة تبكر بالأنثى ثم تثنى بالأنثى ، يقولون : وصلت انثيين ليس بينهما ذكر ، فيجدعونها لطواغيتهم ، والحامي هو الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدودة ، فإذا بلغ ذلك قالوا : حمي ظهره ، فيترك فيسمونه الحامي .

وروى إسماعيل القاضي عن زيد بن أسلم ، قال : قال رسول الله  :

"إني لأعرف أول من سيب السوائب ، وأول من غير عهد إبراهيم عليه السلام قال قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : عمرو بن لحي أبو بني كعب ، لقد رأيته يجر قصبه في النار ، يؤذي ريحه أهل النار ، وإني لأعرف أول من بحر البحائر ، قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال رجل من بني مدلج ، وكانت له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانهما ، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك ، فلقد رأيته في النار هو وهما يعضانه بأفواههما ويخبطانه بأخفافهما" .

وحاصل ما في هذه الآية تحريم ما أحل الله على نية التقرب به إليه ، مع كونه حلالاً بحكم الشريعة المتقدمة . ولقد هم بعض أصحاب رسول الله أن يحرموا على أنفسهم ما أحل الله ، وإنما كان قصدهم بذلك الانقطاع إلى الله عن الدنيا وأسبابها وشواغلها ، فرد ذلك عليهم رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : "يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" .

فصل ومثال ما يقع في النفس ما ذكر في نحل الهند في تعذيبها أنفسها عدل

ومثال ما يقع في النفس ما ذكر من نحل الهند في تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع ، والتمثيل ، والقتل بالأصناف التي تفزع منها القلوب وتقشعر منها الجلود ، كل ذلك على جهة استعجال الموت لنيل الدرجات العلى ـ في زعمهم ـ والفوز بالنعيم الأكمل ، بعد الخروج عن هذه الدار العاجلة ، ومبني على أصول لهم فاسدة اعتقدوها وبنوا عليها أعمالهم .

حكى المسعودي وغيره من ذلك أشياء فطالعها من هنالك ، وقد وقع القتل في العرب الجاهلية ولكن على غير هذه الجهة ، وهو قتل الأولاد لشيئين : أحدهما خوف الإملاق ، والآخر دفع العار الذي كان لاحقاً لهم بولادة الإناث ، حتى أنزل الله في ذلك قوله تعالى : "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم" ، وقوله تعالى : "وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت" . وقوله : "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا" الآية .

وهذا القتل محتمل أن يكون ديناً وشرعة ابتدعوها ، ويحتمل أن يكون عادة تعودوها ، بحيث لم يتخذوها شرعة ، إلا أن الله تعالى ذمهم عليها فلا يحكم عليها بالبدعة بل لمجرد المعصية ، فنظرنا هل نجد لأحد المحتملين عاضداً يكون هو الأولى في حمل الآيات عليه ؟ فوجدنا قوله سبحانه وتعالى : "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم" فإن الآية صرحت أن لهذا التزين سببين : أحدهما الإرداء وهو الإهلاك ، والآخر ليس الدين ، وهو قوله : "وليلبسوا عليهم دينهم" ولا يكون ذلك إلا بتغيره وتبديله أو الزيادة فيه أو النقصان منه ، وهو الابتداع بلا إشكال ، وإنما كان دينهم أولاً دين أبيهم ( إبراهيم ) فصار ذلك من جملة ما بدلوا فيه ، كالبحيرة والسائبة ونصب الأصنام وغيرها ، حتى عد من جملة دينهم الذي يدينون به .

ويعضده قوله تعالى بعد : "فذرهم وما يفترون" فنسبهم إلى الافتراء ـ كما ترى ـ والعصيان من حيث هو عصيان لا يكون افتراء ، وإنما يقع الافتراء في نفس التشريع في أن هذا القتل من جملة ما جاء من الدين . ولذلك قال تعالى على إثر ذلك : "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا" فجعل قتل الأولاد مع تحريم ما أحل الله من جملة الافتراء ، ثم ختم بقوله : ( قد ضلوا ) وهذه خاصية البدعة ـ كما تقدم ـ فإذاً ما فعلت الهند نحو مما فعلت الجاهلية ، وسيأتي مذهب المهدي المغربي في شرعية القتل .

على أن بعض المفسرين قال في قوله تعالى : "وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم" أنه قتل الأولاد على جهة النذر والتقرب به إلى الله ، كما فعل عبد المطلب في ابنه عبد الله أبي النبي .

وهذا القتل قد يشكل ، إذ يقال لعل ذلك من جملة ما اقتدوا فيه بأبيهم إبراهيم عليه السلام ، لأن الله أمره بذبح ابنه ، فلا يكون ذلك اختراعاً وافتراءً لرجوعها إلى أصل صحيح وهو عمل أبيهم عليه السلام ، وإن صح هذا القول وتؤول فعل إبراهيم عليه السلام على أنه لم يكن شريعة لمن بعده من طريته فوجه اختراعه ديناً ظاهر ، لا سيما عند عروض شبهة الذبح ، وهو شأن أهل البدع ، إذ لا بد لهم من شبهة يتعلقون بها ـ كما تقدم التنبيه عليه .

وكون ما تفعل أهل الهند من هذا القبيل ظاهر جداً .

ويجري مجرى إتلاف النفس إتلاف بعضها ،كقطع عضو من الأعضاء ، أو تعطيل منفعة من منافعه بقصد التقرب إلى الله بذلك ، فهو من جملة البدع ، وعليه يدل الحديث حيث قال :

رد رسول الله التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لاختصينا . فالخصاء بقصد التبتل وترك الاشتغال بملابسة النساء واكتساب الأهل والولد مردود مذموم ، وصاحبه معتد غير محبوب عند الله ، حسبما نبه قوله تعالى : "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين" وكذلك فقىء العين لئلا ينظر إلى ما لا يحل له .

فصل ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية عدل

ومثال ما يقع في النسل ما ذكر من أنكحة الجاهلية التي كانت معهودة فيها ومعمولاً بها ، ومتخذة فيها كالدين المنتسب والملة الجارية التي لا عهد بها في شريعة إبراهيم عليه السلام ولا غيره ، بل كانت من جملة ما اخترعوا وابتدعوا ، وهو على أنواع :

فجاء عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء :

الأول منها : نكاح الناس اليوم ، يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها .

والثاني : نكاح الاستبضاع ، كالرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه . ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى حملها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه ، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك رغبةً في نجابة الولد ، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع .

والثالث : أن يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدلون على المرأة كلهم يصيبها ، فإذا حملت ووضعت ومرت ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع منهم رجل أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها ، تقول : قد عرفتم الذي كان من أمركم ، وقد ولدت فهو ابنك يا فلان ، فتسمي من أحبت بإسمه فيلحق به ولدها فلا يستطيع أن يمتنع منه الرجل .

والرابع : أن يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تنمع من جاءها وهن البغايا ، كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علماً ، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لها القافة ، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون ، فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك ، فلما بعث الله نبيه بالحق هدم نكاح الجاهلية إلا نكاح الناس اليوم . وهذا الحديث في البخاري مذكور .

وكان لهم أيضاً سنن أخر في النكاح خارجة عن المشروع كوارثة النساء كرهاً ، وكنكاح ما نكح الأب ، وأشباه ذلك ، جاهلية جارية مجرى المشروعات عندهم ، فمحا الإسلام ذلك كله والحمد لله .

ثم أتى بعض من نسب إلى الفرق ممن حرف التأويل في كتاب الله ، فأجاز نكاح أكثر من أربع نسوة ، إما اقتداءً ـ في زعمه ـ بالنبي حيث أحل له أكثر من ذلك أن يجمع بينهن ، ولم يلتفت إلى إجماع المسلمين أن ذلك خاص به عليه السلام ، وإما تحريفاً لقوله تعالى : "فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع" .

فأجاز الجمع بين تسع نسوة ذلك ، ولم يفهم المراد من الراوي ولا من قوله : "مثنى وثلاث ورباع" فأتى ببدعة أجراها في هذه الأمة لا دليل عليها ولا مستند فيها .

ويحكى عن الشيعة أنها تزعم أن النبي أسقط عن أهل بيته ومن دان بحبهم جميع الأعمال ، وأنهم غير مكلفين إلا بما تطوعوا ، وأن المحظورات مباحة لهم كالخنزير والزنا والخمر وسائر الفواحش ، وعندهم نساء يسمين النوابات يتصدقن بفوجهن على المحتاجين رغبةً في الأجر ، وينكحون ما شاؤوا من الأخوات والبنات والأمهات ، لا حرج عليهم في ذلك ولا في تكثير النساء . وهؤلاء العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية .

ومما يحكى عنهم في ذلك أنه يكون للمرأة ثلاثة أزواج وأكثر في بيت واحد يستدلونها وتنسب الولد لكل واحد منهم ، ويهنأ به كل واحد منهم ، كما التزمت الإباحية خرق هذا الحجاب بإطلاق ، وزعمت أن الأحكام الشرعية إنما هي خاصة بالعوام ، وأما الخواص منهم فقد ترقوا عن تلك المرتبة ، فالنساء بإطلاق حلال لهم ، كما أن جميع ما في الكون من رطب ويابس حلال لهم أيضاً ، مستدلين على ذلك بخرافات عجائز لا يرضاها ذو عقل : "قاتلهم الله أنى يؤفكون" فصاروا أضر على الدين من متبوعهم إبليس لعنهم الله ، كقوله :

وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى بي الفسق حتى صار إبليس من جندي !

فلو مات قبلي كنت أحسن بعده طرائق فسق ليس يحسنها بعدي !

فصل ومثال ما يقع في العقل ، أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع عدل

ومثال ما يقع في العقل ، أن الشريعة بينت أن حكم الله على العباد لا يكون إلا بما شرع في دينه على ألسنة أنبيائه ورسله ، ولذلك قال تعالى : "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " وقال تعالى : "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول " وقال : "إن الحكم إلا لله" وأشباه ذلك من الآيات والأحاديث .

فخرجت عن هذا الأصل فرقة زعمت أن العقل له مجال في التشريع ، وأنه محسن ومقبح ، فابتدعوا في دين الله ما ليس فيه .

ومن ذلك أن الخمر لما حرمت ، ونزل من القرآن في شأن من مات قبل التحريم وهو ويشربها . قوله تعالى : "ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا" . الآية تأولها قوم ـ فيما ذكر ـ على أن الخمر حلال ، وأنها داخلة تحت قوله : فيما طعموا .

فذكر إسماعيل بن إسحاق عن علي رضي الله عنه ، قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا : هي لنا حلال . وتأولوا هذه الآية : "ليس على الذين آمنوا" الآية . قال فكتب فيهم إلى عمر .

قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك ، فلما قدموا إلى عمر استشار فيهم الناس ، فقالوا : يا أمير المؤمنين! نرى أنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دينه ما لم يأذن به فاضرب أعناقهم ، وعلي رضي الله عنه ساكت ، قال : فما تقول يا أبا الحسن ؟ فقال : أرى أن تستتيبهم فإن تابوا جلدتهم ثمانين لشربهم الخمر ، وإن لم يتوبوا ضربت أعناقهم ، فإنهم قد كذبوا على الله وشرعوا في دين الله ما لم يأذن به .

فهؤلاء استحلوا بالتأويل ما حرم الله بنص الكتاب ، وشهد فيهم علي رضي الله عنه ، وغيره من الصحابة ، بأنهم شرعوا في دين الله ، وهذه هي البدعة بعينها ، فهذا وجه .

وأيضاً ، فإن بعض الفلاسفة الإسلاميين تأول فيها غير هذا ، وأنه إنما يشربها للنفع لا للهو ، وعاهد الله على ذلك ، فكأنها عندهم من الأدوية أو غذاء صالح يصلح لحفظ الصحة . ويحكى هذا العهد عن ابن سيناء .

ورأيت في بعض كلام الناس ممن عرف عنه أنه كان يستعين في سهره للعلم والتصنيف والنظر بالخمر ، فإذا رأى من نفسه كسلاً أو فترةً شرب منها قدر ما ينشطه وينفي عنه الكسل ، بل ذكروا فيها أن لها حرارة خاصة تفعل أفعالاً كثيرة تطيب النفس ، وتصير الإنسان محباً للحكمة ، وتجعله حسن الحركة ، والذهن ، والمعرفة ، فإذا استعملها على الاعتدال عرف الأشياء ، وفهمها ، وتذكرها بعد النسيان .

فلهذا ـ والله أعلم ـ كان ابن سينا لا يترك استعمالها ـ على ما ذكر عنه ـ وهو كله ضلال مبين ، عياذاً بالله من ذلك .

ولا يقال : إن هذا داخل تحت مسألة التداوي بها . وفيها خلاف شهير ، لأنا نقول : إنما ثبت عن ابن سينا أنه كان يستعملها استعمال الأمور المنشطة من الكسل والحفظ للصحة ، والقوة على القيام بوظائف الأعمال ، أو ما يناسب ذلك ، لا في الأمراض المؤثرة في الأجسام . وإنما الخلاف في استعمالها في الأمراض لا في غير ذلك ، فهو ومن وافقه على ذلك متقولون على شريعة الله مبتدعون فيها ، وقد تقدم رأي أهل الإباحة في الخمر وغيرها ، ولا توفيق إلا بالله .

فصل ومثال ما يقع في المال ، أن الكفار قالوا : إنما البيع مثل الربا عدل

ومثال ما يقع في المال ، أن الكفار قالوا : "إنما البيع مثل الربا" فإنهم لما استحلوا العمل به واحتجوا بقياس فاسد ، فقالوا : إذا فسخ العشرة التي اشترى بها إلى شهر في خمسة عشر إلى شهرين ، فهو كما لو باع بخمسة عشر إلى شهرين ، فأكذبهم الله تعالى ورد عليهم ، فقال : "ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا" أي : ليس البيع مثل الربا ،فهذه محدثة أخذوا بها مستندين إلى رأي فاسد ، فكان من جملة المحدثات ، كسائر ما أحدثوا في البيوع الجارية بينهم المبنية على الخطر والغرر .

وكانت الجاهلية قد شرعت أيضاً أشياء في الأموال كالحظوظ التي كانوا يخرجونها للأمير من الغنيمة ، حتى قال شاعرهم :

لك المرباع فيها والصفايا وحكمك والنشيطة والفضول

فالمرباع : ربع المغنم يأخذه الرئيس .والصفايا : جمع صفي . وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من المغنم ، والنشيطة : ما يغنمه الغزاة في الطريق ، قبل بلوغهم إلى الموضع الذي قصدوه ، فكان يختص به الرئيس دون غيره . والفضول : ما يفضل من الغنيمة عند القسمة .

وكانت تتخذ الأرضين تحميها عن الناس أن لا يدخلوها ولا يرعوها ، فلما نزل القرآن بقسمة الغنيمة في قوله تعالى : "واعلموا أنما غنمتم من شيء" الآية ، راتفع حكم هذه البدعة إلا بعض من جرى في الإسلام على حكم الجاهلية ، فعمل بأحكام الشيطان ، ولم يستقم على العمل بأحكام الله تعالى .

وكذلك جاء في الحديث :

"لا حمى إلا حمى الله ورسوله" ثم جرى بعض الناس ممن آثر الدنيا على طاعة الله ، على سبيل حكم الجاهلية "ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون" ولكن الآية والحديث وما كان في معناهما أثبت أصلاً في الشريعة مطرداً لا ينخرم ، وعاماً لا يتخصص ، ومطلقاً لا يتقيد . وهو أن الصغير من المكلفين والكبير ، والشريف والدنيء ، والرفيع والوضيع في احكام الشريعة سواء ، فكل من خرج عن مقتضى هذا الأصل خرج من السنة إلى البدعة ، ومن الاستقامة إلى الإعوجاج .

وتحت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الموقع ، لعلها تذكر فيما بعد إن شاء الله ، وقد أشير إلى جملة منها .

فصل إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة عدل

إذا تقرر أن البدع ليست في الذم ولا في النهي على رتبة واحدة ، وأن منها ما هو مكروه ، كما أن منها ما هو محرم ، فوصف الضلالة لازم لها وشامل لأنواعها لما ثبت من قوله  :

"كل بدعة ضلالة" .

لكن يبقى ها هنا إشكال ، وهو أن الضلالة ضد الهدى لقوله تعالى : "أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى" وقوله : "ومن يضلل الله فما له من هاد" "ومن يهد الله فما له من مضل" وأشباه ذلك مما قوبل فيه بين الهدى والضلال . فإنه بقتضي أنهما ضدان وليس بينهما واسطة تعتبر في الشرع ، فدل على أن البدع المكروهة خروج عن الهدى .

ونظيره في المخالفات التي ليست ببدع ، المكروهة من الأفعال ، كالالتفات اليسير في الصلاة من غير حاجة ،

والصلاة وهو يدافعه الأخبثان وما أشبه ذلك .

ونظيره في الحديث  :

" نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا" فالمرتكب للمكروه لا يصح أن يقال فيه مخالف ولا عاص ، مع أن الطاعة ضدها المعصية . وفاعل المندوب مطيع لأنه فاعل أمر به . فإذا اعتبرت الضد لزم أن يكون فاعل المكروه عاصياً لأنه فاعال ما نهي عنه ، لكن ذلك غير صحيح ، إذ لا يطلق عليه عاص ، فكذلك لا يكون فاعل البدعة المكروهة ضالاً ، وإلا فلا فرق بين إعتبار الضد في الطاعة واعتباره في الهدى ، فكما يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة فكذلك يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية ، وإلا فلا يطلق على البدعة المكروهة لفظ الضلالة ، كما لا يطلق على الفعل المكروه لفظ المعصية .

إلا أنه قد تقدم عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ، فليعم لفظ المعصية لكل فعل مكروه ، لكن هذا باطل ، فما لزم عنه كذلك .

والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة عدل

والجواب : أن عموم لفظ الضلالة لكل بدعة ثابت ـ كما تقدم بسطه ـ وما التزمتم في الفعل المكروه غير لازم ، فإنه لا يلزم في الأفعال أن تجري على الضدية المذكورة إلا بعد استقراء الشرع ، ولما استقرينا موارد الأحكام الشرعية وجدنا للطاعة والمعصية واسطة متفقاً عليها أو كالمتفق عليها وهي المباح ، وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح .

فالمأر والنهي ضدان بينهما واسطة لا يتعلق بها أمر ولا نهي ، وإنما يتعلق بها التخيير .

وإذا تأملنا المكروه ـ حسبما قرره الأصوليون ـ وجدناه ذا طرفين :

طرف من حيث هو منهي عنه ، فيستوي مع المحرم في مطلق النهي ، فربما يتوهم أن مخالفة نهي الكراهية معصية من حيث اشترك مع المحرم في مطلق المخالفة .

غير أنه يصد عن هذا الإطلاق الطرف الآخر ، وهو أن يعتبر من حيث لا يترتب على فاعله ذم شرعي ولا إثم ولا عقاب ، فخالف المحرم من هذا الوجه وشارك المباح فيه ، لأن المباح لا ذم على فاعله ولا إثم ولا عقاب ، فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة المعصية .

وإذا ثبت هذا ووجدنا بين الطاعة والمعصية واسطة يصح أن ينسب إليها المكروه من البدع ، وقد قال الله تعالى : "فماذا بعد الحق إلا الضلال" فليس إلا حق ، وهو الهدى ، وضلال وهو الباطل ، فالبدع المكروهة ضلال .

وأما ثانياً : فإن إثبات قسم الكراهة في البدع على الحقيقة مما ينظر فيه ، فلا يغتر المغتر بإطلاق المتقدمين من الفقهاء لفظ المكروه على بعض البدع ، وإنما حقيقة المسألة أن البدع ليست على رتبة واحدة في الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيين الكراهة التي معناها نفي إثم فاعلها وارتفاع الحرج البتة ، فهذا مما لا يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ولا من كلام الأئمة على الخصوص .

أماالشرع ففيه ما يدل على خلاف ذلك ، لأن رسول الله رد على من قال :

"أما أنا فأقوم الليل ولا أنام " ، وقال الآخر : "أما أنا فلا أنكح النساء " إلى آخر ما قالوا ، فرد عليهم ذلك وقال :" من رغب عن سنتي فليس مني ".

وهذه العبارة أشد شيء في الإنكار ، ولم يكن ما التزموا إلا فعل مندوب أو ترك مندوب إلى فعل مندوب آخر ، وكذلك ما في الحديث "أنه عليه السلام رأى رجلاً قائماً في الشمس فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم ، فقال رسول الله  : مره فليجلس وليستظل وليتم صومه " قال مالك: أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ، ويترك ما كان عليه فيه معصية .

ويعضد هذا الذي قاله مالك ما في البخاري عن قيس بن أبي حازم ، قال دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب فرآها لا تتكلم ، فقال :

ما لها فقال حجت مصمتة قال لها : تكلمي ، فإن هذا لا يحل ، هذا من عمل الجاهلية فتكلمت الحديث إلخ .

وقال مالك أيضاً في قوله عليه الصلاة والسلام :

"من نذر أن يعصي الله فلا يعصيه"إن ذلك أن ينذر الرجل أن يمشي إلى الشام وإلى مصر وأشباه ذلك مما ليس فيه طاعة ، أو أن لا أكلم فلاناً ، فليس عليه في ذلك شيء إن هو كلمه لأنه ليس لله في هذه الأشياء طاعة ، وإنما يوفي لله بكل نذر فيه طاعة من مشي إلى بيت الله أو صيام أو صدقة أو صلاة ، فكل ما لله فيه طاعة فهو واجب على من نذره .

فتأمل كيف جعل القيام في الشمس وترك الكلام ونذر المشي إلى الشام أو مصر معاصي ، حتى فسر فيها الحديث المشهور ، مع أنها في أنفسها أشياء مباحات ، لكنه لما أجراها مجرى ما يتشرع به ويدان لله به صارت عند مالك معاصي لله ، وكلية قوله : " كل بدعة ضلالة " شاهدة لهذا المعنى ، والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد ، وهي خاصية المحرم .

وقد مر ما روى الزبير بن بكار وأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ! من أين أحرم ؟ قال من ذي الحليفة من حيث أحرم رسول الله . فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد : فقال : لا تفعل . قال : غني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر . قال : لا تفعل فإني أخشى عليك الفتنة . قال : وأي فتنة في هذا ؟ إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله ؟ إني سمعت الله تعالى يقول : "فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" .

فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة في الإحرام من موضع فاضل لا بقعة أشرف منه ، وهو مسجد الله ورسول الله وموضع قبره ، لكنه أبعد من الميقات فهو زيادة في التعب قصداً لرضا الله ورسوله ، فبين أن ما استسهله من ذلك الأمر اليسير في بادىء الرأي يخاف على صاحبه الفتنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، واستدل بالآية . فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند مالك ـ في معنى الآية ، فأين كراهية التنزيه في هذه الأمور التي يظهر بأول النظر أنها سهلة ويسيرة؟ .

وقال ابن حبيب : أخبرني ابن الماجشون أنه سمع مالكاً يقول : التثويب ضلال ؟ قال مالك : ومن أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الدين ، لأن الله تعالى يقول : "اليوم أكملت لكم دينكم" فما لم يكن يومئذ ديناً ، لا يكون اليوم ديناً .

وإنما التثويت الذي كرهه أن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح وهو قول إسحاق بن راهوية أنه التثويب المحدث .

قال الترمذي لما نقل هذا عن سحنون : وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل العلم ، والذي أحدثوه بعد النبي . وإذا اعتبر هذا اللفظ في نفسه فكل أحد يستسهله في بادىء الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكير بالصلاة .

وقصة صبيغ العراقي ظاهرة في هذا المعنى ، فحكة ابن وهب قال : حدثنا مالك بن أنس قال : جعل صبيغ يطوف بكتاب الله معه ، ويقول : من يتفقه يفقهه الله ، من يتعلم يعلمه الله ، فأخذه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضربه بالجريد الرطب ، ثم سجنه حتى إذا خف الذي به أخرجه فضربه ، فقال : يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فأجهز علي ، وإلا فقد شفيتني شفاك الله فخلاه عمر .

قال ابن وهب : قال مالك ، وقد ضرب عمر بن الخطاب رضي الله عنه صبيغاً حين بلغه ما يسأل عنه من القرآن وغير ذلك اهـ .

وهذا الضرب إنما كان لسؤاله عن أمور من القرآن لا ينبني عليها عمل وربما نقل عنه أنه كان يسأل عن السابحات سبحاً ، والمرسلات عرفاً وأشباه ذلك ، والضرب إنما يكون لجناية أربت على كراهية التنزيه ، إذ لا يستباح دم امرىء مسلم ، ولا عرضه بمكروه كراهية تنزيه ، ضربه إياه خوف الابتداع في الدين أن يشتغل منه بما لا ينبني عليه عمل ، وأن يكون ذلك ذريعة ، لئلا يبحث عن المتشابهات القرآنية ولذلك لما قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "وفاكهة وأبا" قال : هذه الفاكهة ، فما الأب ! ثم قال : ما أمرنا بهذا .

وفي رواية : نهينا عن التكلف .

وجاء في قصة صبيغ من رواية ابن وهب عن الليث أنه ضربه مرتين ثم أراد أن يضربه الثالثة فقال له صبيغ : إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً ، وإن كنت تريد أن تداويني فقد والله برئت . فأذن له إلى أرضه ، وكتب إلى أب موسى الأشعري رضي الله عنه أن لا يجالسه أحد من المسلمين ، فاشتد ذلك على الرجل ، فكتب أبو موسى إلى عمر أن قد حسنت سيئتة ، فكتب إليه عمر أن يأذن للناس بمجالسته . والشواهد في هذا المعنى كثيرة ، وهي تدل على أن الهين عند الناس من البدع شديد وليس بهين "وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم" .

وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط ، وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين . فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ، ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع ، وأشباه ذلك .

وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحاً أن يقولوا : هذا حلال وهذا حرام . ويتحامون هذه العبارة خوفاً مما في الآية من قوله : "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب" وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى . فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها : أكره هذا ، ولا أحب هذا ، وهذا مكروه . وما أشبه ذلك ، فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط ، فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه ؟ اللهم إلا أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له أصل في الشرع ، ولكن يعارضه أمر آخر معتبر في الشرع فيكره لأجله ، لا لأنه بدعة مكروهة ، على تفصيل يذكر في موضعه .

وأما ثالثاً : فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة . وبيان ذلك من أوجه :

أحدها : أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلاً على العفو اللازم فيه ، ورفع الحرج الثابت في الشريعة ، فهو إلى الطمع في رحمة الله أقرب . وأيضاً فليس عقده الإيماني بمتزحزح ، لأنه يعتقد المكروه مكروهاً كما يعتقد الحرام حراماً وإن ارتكبه ، فهو يخاف الله ويرجوه ، والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان .

فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل ، وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه . ويود لو لم يفعل ، وايضاً فلا يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعاً في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا .

ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال ، فإنه يعد ما دخل فيه حسناً ، بل يراه أولى بما حد له الشارع ، فأين مع هذه خوفه أو رجاؤه ؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلاً ، ونحلته أولى بالاتباع . هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع بالآيات والأحاديث أنه متبع للهوى . وسيأتي لذلك تقرير إن شاء الله .

وقد مر في أول الباب الثاني تقرير لجملة من المعاني التي تعظم أمر البدع على الإطلاق ، وكذلك مر في آخر الباب أيضاً أمور ظاهرة في بعد ما بينهما وبين كراهية التنزيه فراجعها هنالك يتبين لك مصداق ما أشير إليه ها هنا ، وبالله التوفيق .

والحاصل أن النسبة بين المكروه من الأعمال وبين أدنى البدع بعيد الملتمس .

فصل إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة عدل

إذا ثبت هذا انتقلنا منه إلى معنى آخر : وهو أن المحرم ينقسم في الشرع إلى ما هو صغيرة وإلى ما هو كبيرة ـ حسبما تبين في علم الأصول الدينية ـ فكذلك يقال في البدع المحرمة : إنها تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة اعتباراً بتفاوت درجاتها ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن المعاصي تنقسم إلى الصغيرة والكبيرة . ولقد اختلفوا في الفرق بينهما على أوجه وجميع ما قالوه لعله لا يوفي بذلك المقصود على الكمال فلنترك التفريع عليه .

وأقرب وجه يلتمس لهذا المطلب ما تقرر في كتاب الموافقات أن الكبائر منحصرة في الإخلال بالضروريات المعتبرة في كل ملة . وهي الدين والنفس والنسل والعقل والمال ، وكل ما نص عليه راجع إليها ، وما لم ينص عليه جرت في الإعتبار والنظر مجراها ، وهو الذي يجمع أشتات ما ذكره العلماء وما لم يذكروه مما هو في معناه .

فكذلك نقول في كبائر البدع : ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبيرة ، وما لا ، فهي صغيرة . وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب . فكما انحصرت كبائر المعاصي أحسن انحصار ـ حسبما أشير إليه في ذلك الكتاب ـ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضاً ، وعند ذلك يعترض في المسألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه في إثبات الصغائر فيها . وذلك أن جميع البدع راجعة إلى الإخلال بالدين إما أصلاً وإما فرعاً ، لأنها إنما أحدثت لتلحق بالمشروع زيادة فيه أو نقصاناً منه أو تغييراً لقوافيه ، أو ما يرجع إلى ذلك وليس ذلك بمختص بالعبادات دون العادات ، وإن قلنا بدخولها في العادات ، بل تمنع في الجميع . وإذا كانت بكليتها إخلالاً بالدين فهي إذاً إخلال بأول الضروريات وهو الدين ، وقد أثبت الحديث الصحيح أن كل بدعة ضلالة ، وقال في الفرق :

" كلها في النار إلا واحدة" وهذا وعيد أيضاً للجميع على التفصيل .

وهذا وإن تفاوتت مراتبها في الإخلال بالدين فليس ذلك بمخرج لها عن أن تكون كبائر ، كما أن القواعد الخمس أركان الدين وهي متفاوتة في الترتيب ، فليس الإخلال بالشهادتين كالإخلال بالصلاة ، ولا الإخلال بالصلاة كالإخلال بالزكاة ، ولا الإخلال بالزكاة كالإخلال برمضان ، وكذلك سائرها مع الإخلال ، فكل منها كبيرة . فقد آل النظر إلى أن كل بدعة كبيرة .

ويجاب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره ، ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغيرة من أوجه :

أحدها : أنا نقول : الإخلال بضرورة النفس كبيرة بلا إشكال ، ولكنها على مراتب أدناها لا يسمى كبيرة ، فالقتل كبيرة ، وقطع الأعضاء من غير إجهاز كبيرة دونها ، وقطع عضو واحد كبيرة دونها ، وهلم جراً إلى أن تنتهي إلى اللطمة ، ثم إلى أقل خدش يتصور ، فلا يصح أن يقال في مثله كبيرة ، كما قال العلماء في السرقة : إنها كبيرة لأنها إخلال بضرورة المال . فإن كانت السرقة في لقمة أو تطفيف بحبة فقد عدوه من الصغائر . وهذا في ضرورة الدين أيضاً .

فقد جاء في بعض الأحاديث عن حذيفة رضي الله عنه قال :

أول ما تفقدون من دينكم الأمانة ، وآخر ما تفقدون الصلاة ، ولتنقضن عرى الإيمان عروةً عروة ، وليصلين نساء وهن حيض ـ ثم قال ـ حتى تبقى فرقتان من فرق كثيرة تقول إحداهما : ما بال الصلوات الخمس ؟ لقد ضل من كان قبلنا ، إنما قال الله : "وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل" لا تصلن إلا ثلاثاً . وتقول أخرى : إنا لنؤمن بالله إيمان الملائكة ، ما فينا كافر ، حق على الله أن يحشرهما مع الدجال فهذا الأثر ـ وإن لم تلتزم عهده صحته ـ مثال من أمثلة المسألة .

فقد نبه على أن في آخر الزمان من يرى أن الصلوات المفروضة ثلاث لا خمس ، وبين أن من النساء من يصلين وهن حيض . كأنه يعني بسبب التعمق وطلب الاحتياط بالوساوس الخارج عن السنة . فهذه مرتبة دون الأولى .

وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خمس ركعات لا أربع ركعات ، ثم وقع في العتبية . قال ابن القاسم : وسمعت مالكاً يقول : أول من أحدث الاعتماد في الصلاة ـ حتى لا يحرك رجليه ـ رجل قد عرف وسمي إلا أني لا أحب أن أذكره ، وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) قال : قد عيب ذلك عليه ، وهذا مكروه من الفعل . قالوا : ومساء أي يساء الثناء عليه .

قال ابن رشد : جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه في الصلاة ، قاله في المدونة ، وإنما كره أن يقرنهما حتى لا يعتمد على إحداهما دون الأخرى ، لأن ذلك ليس من حدود الصلاة إذ لم يأت ذلك عن النبي ولا عن أحد من السلف والصحابة المرضيين ، وهو من محدثات الأمور : انتهى .

فمثل هذا ـ إن كان يعده فاعله من محاسن الصلاة وإن لم يأت به أثر ـ فيقال في مثله : إنه من كبار البدع . كما يقال ذلك في الركعة الخامسة في الظهر ونحوها ، بل إنما يعد مثله من صغائر البدع إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنزيه ، وإذا ثبت ذلك في بعض الأمثلة في قاعدة الدين ، فمثله يتصور في سائر البدع المختلفة المراتب ، فالصغائر في البدع ثابتة كما أنها في المعاصي ثابتة .

والثاني : أن البدع تنقسم إلى ما هي كلية في الشريعة وإلى جزئية ، ومعنى ذلك أن يكون الخلل الواقع بسبب البدعة كلياً في الشريعة ، كبدعة التحسين والتقبيح العقليين ، وبدعة إنكار الأخبار السنية اقتصاراً على القرآن ، وبدعة الخوارج في قولهم : لا حكم إلا لله . وما أشبه ذلك من البدع التي لا تختص فرعاً من فروع الشريعة دون فرع ، بل ستجدها تنتظم ما لا ينحصر من الفروع الجزئية ، أو يكون الخلل الواقع جزئياً إنما يأتي في بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلاة الذي قال فيه مالك : التثوب ضلال وبدعة الأذان والإقامة في العيدين ، وبدعة الاعتماد في الصلاة على إحدى الرجلين ، وما أشبه ذلك . فهذا القسم لا تتعدى فيه البدعة محلها ، ولا تنتظم تحتها غيرها حتى تكون أصلاً لها .

فالقسم الأول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصراً داخلاً تحت عموم الثنتين والسبعين فرقة ، ويكون الوعيد الآتي في الكتاب والسنة مخصوصاً به لا عاماً فيه وفي غيره ، ويكون ما عدا ذلك من قبيل اللمم المرجو فيه العفو الذي لا ينحصر إلى ذلك العدد ، فلا قطع على أن جميعها من واحد ، وقد ظهر وجه انقسامها .

والثالث : أن المعاصي قد ثبت انقسامها إلى الصغائر والكبائر ، ولا شك أن البدع من جملة المعاصي ـ على مقتضى الأدلة المتقدمة ـ ونوع من أنواعها ، فاقتضى إطلاق التقسيم أن البدع تنقسم أيضاً ، ولا يخصص وجوهاً بتعميم الدخول في الكبائر ، لأن ذلك تخصيص من غير مخصص ، ولو كان ذلك معتبراً لاستثني من تقدم من العلماء القائلين بالتقسيم ، قسم البدع ، فكانوا ينصون على أن المعاصي ما عدا البدع تنقسم إلى الصغائر والكبائر ، إلا أنهم لم يلتفتوا إلى الاستثناء وأطلقوا القول بالانقسام ، فظهر أنه شامل لجميع أنواعها .

فإن قيل : إن ذلك التفاوت لا دليل فيه على إثبات الصغيرة مطلقاً ، وإنما يدل ذلك على أنها تتفاضل ، فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف ، والخفة هل تنتهي إلى حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم ؟ هذا فيه نظر ، وقد ظهر معنى الكبيرة والصغيرة في المعاصي غير البدع .

وأما في البدع فثبت لها أمران :

أحدهما : أنها مضادة للشارع ومراغمة له ، حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة ، لا نصب المكتفي بما حد له .

والثاني : أن كل بدعة ـ وإن قلت ـ تشريع زائد أو ناقص ، أو تغير للأصل الصحيح ، وكل ذلك قد يكون على الانفراد ، وقد يكون ملحقاً بما هو مشروع ، فيكون قادحاً في المشروع . ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر ، إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير ـ قل أو كثر ـ كفر ، فلا فرق بين ما قل منه وما كثر . فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه ، أو ألحقه بالمشروع إذا لم تكفره لم يكن في حكمه فرق بين ما قل منه وما كثر ، لأن الجميع جناية لا تحملها الشريعة بقليل ولا بكثير .

ويعضد هذا النظر عموم الأدلة في ذم البدع من غير استثناء ، فالفرق بين بدعة جزئية وبدعة كلية ، وقد حصل الجواب عن السؤال الأول والثاني .

وأما الثالث : فلا حجة فيه لأن قوله عليه السلام : "كل بدعة ضلالة" وما تقدم من كلام السلف يدل على عموم الذم فيها . وظهر أنها مع المعاصي لا تنقسم ذلك الانقسام ، بل إنما ينقسم ما سواها من المعاصي . واعتبر بما تقدم ذكره في الباب الثاني يتبين لك عدم الفرق فيها . وأقرب منها عبارة تناسب هذا التقرير أن يقال : كل بدعة كبيرة عظيمة بالإضافة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع ، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه ، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار ، إما بإعتبار أن بعضها أشد عقاباً من بعض ، فالأشد عقاباً أكبر مما دونه ، وإما بإعتبار فوت المطلوب في المفسدة ، فكما انقسمت الطاعة بإتباع السنة إلى الفاضل والأفضل ، لانقسام مصالحها إلى الكامل والأكمل ، انقسمت البدع لانقسام مفاسدها إلى الرذل والأرذل ، والصغر والكبر ، من باب النسب والإضافات ، فقد يكون الشيء كبيراً في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه .

وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الحرمين لكن في انقاسم المعاصي إلى الكبائر والصغائر فقال : المرضي عندنا أن كل ذنب كبير وعظيم بالإضافة إلى مخالفة الله ، ولذلك يقال : معصية الله أكبر من معصية العباد ، قولاً مطلقاً ، إلا أنها وإن عظمت لما ذكرناه ، فإذا نسب بعضها إلى بعض تفاوتت رتبها . ثم ذكر معنى ما تقدم ، ولم يوافقه غيره على ما قال وإن كان له وجه في النظر وقعت الإشارة إليه في كتاب الموافقات . ولكن الظاهر يأبى ذلك ـ حسبما ذكره غيره من العلماء ـ والظواهر في البدع لا تأبى كلام الإمام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من المتشابهات ، كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنزيه عنها من الواضحات .

فليتأمل هذا الموضع أشد التأمل ويعط من الإنصاف حقه ، ولا ينظر إلى خفة الأمر في البدعة بالنسبة إلى صورتها وإن دقت ، بل ينظر إلى مصادمتها للشريعة ورميها لها بالنقص والاستدراك ، وأنها لم تكمل بعد حتى يوضع فيها ، بخلاف سائر المعاصي فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غص من جانبها ، بل صاحب المعصية متنصل منها ، مقر لله بمخالفتة لحكمها .

وحاصل المعصية أنها مخالفة في فعل المكلف لما يعتقد صحته من الشريعة ، والبدعة حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة ، ولذلك قال مالك بن أنس : من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله خان الرسالة ، لأن الله يقول : "اليوم أكملت لكم دينكم" إلى آخر الحكاية . وقد تقدمت .

ومثلها جوابه لمن أراد أن يحرم من المدينة وقال : أي فتنة فيها ؟ إنما هي أميال أزيدها . فقال : وأي فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلاً قصر عنه رسول الله ، إلى آخر الحكاية ، وقد تقدمت أيضاً ، فإذاً يصح أن يكون في البدع ما هو صغيرة .

فالجواب : ان ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء الله أنها تحقيق في تشقيق هذه المسألة .

وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالماً بكونها بدعة وأن يكون غير عالم بذلك . وغير العالم بكونها بدعة على ضربين ، وهما المجتهد في استنباطها وتشريعها والمقلد له فيها . وعلى كل تقدير فالتأويل يصاحبه فيها ولا يفارقه إذا حكمنا له بحكم أهل الإسلام ، لأنه مصادم للشارع مراغم للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له ، فلا بد له من تأويل كقوله : هي بدعة ولكنها مستحسنة أو يقول : إنها بدعة ولكني رأيت فلاناً الفاضل يعمل بها أو يقر بها ولكنه يفعلها لحظ عاجل ، كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفاً على حظه ، أو فراراً من خوف على حظه ، أو فراراً من الاعتراض عليه في اتباع السنة ، كما هو الشأن اليوم في كثير ممن يشار إليه ، وما أشبه ذلك .

وأما غير العالم وهو الواضع لها ، لأنه لا يمكن أن يعتقدها بدعة ، بل هي عنده مما يلحق المشروعات ، كقول من جعل يوم الإثنين يصام لأنه يوم مولد النبي ، وجعل الثاني عشر من ربيع الأول ملحقاً بأيام الأعياد لأنه عليه السلام ولد فيه ، وكمن عد السماع والغناء مما يتقرب به إلى الله بناء على أنه يجلب الأحوال السنية ، أو رغب في الدعاء بهئية الاجتماع في أدبار الصلوات دائماً بناء على ما جاء في ذلك حالة الواحدة ، أو زاد في الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر في زعمه سنة محمد . فلما قيل له : إنك تكذب عليه وقد قال :

" من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" قال : لم أكذب عليه وإنما كذبت له . أو نقص منها تأويلاً عليها لقوله تعالى في ذم الكفار : "إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً" فأسقط اعتبار الأحاديث المنقوله بالآحاد لذلك ولما أشبه ، لأن خبر الواحد ظني ، فهذه كلها من قبل التأويل .

وأما المقلد فكذلك أيضاً لأنه يقول : فلان المقتدى به يعمل بهذا العمل ويثني عليه ، كاتخاذ الغناء جزءاً من أجزاء طريقة التصوف بناءً على أن شيوخ التصوف قد سمعوه وتواجدوا عليه ، ومنهم من مات بسببه ، وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لأنهم قد فعلوه ، وأكثر ما يقع مثل هذا في هؤلاء المنتمين إلى التصوف .

وربما احتجوا على بدعتهم بالجنيد و البسطامي والشبلي وغيرهم فيما صح عندهم أو لم يصح ، ويتركون أن يحتجوا بسنة الله ورسوله وهي التي لا شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها المكبون على فهمها وتعلمها . ولكنهم مع ذلك لا يقرون بالخلاف للسنة بحثاً ، بل يدخلون تحت أذيال التأويل ، إذ لا يرضى منتم إلى الإسلام بإبداء صفحة الخلاف للسنة أصلاً .

وإذا كان كذلك فقول مالك : من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن النبي خان الرسالة . وقوله لمن أراد أن يحرم من المدينة : أي فتنة أعظم من أن تظن أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله ؟ إلى آخر الحكاية ، إنها إلزام للخصم على عادة أهل النظر ، كأنه يقول : يلزمك في هذا القول كذا . لأنه يقول : قصدت إليه قصداً ، لأنه لا يقصد إلى ذلك مسلم ، ولازم المذهب : هل هو نذهب أم لا ؟ هي مسألة مختلف فيها بين أهل الأصول ، والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والمغربيون ويرون أنه رأي المحققين أيضاً : أن لازم المذهب ليس بمذهب ، فلذلك إذا قرر على الخصم أنكره غاية الإنكار ،فإذاً اعتبار ذلك المعنى على التحقيق لا ينهض ، وعند ذلك تستوي البدعة مع المعصية صغائر وكبائر ، فكذلك البدع .

ثم إن البدع على ضربين : كلية وجزئية ، فأما الكلية فهي السارية فيما لا ينحصر من فروع الشريعة ، ومثالها بدع الفرق الثلاث والسبعين ، فإنها مختصة بالكليات منها دون الجزئيات ، حسبما يتبين بعد إن شاء الله .

وأما الجزئية فهي الواقعة في الفروع الجزئية ، ولا يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تحت الوعيد بالنار ، وإن دخلت تحت الوصف بالضلال ، كما لا يتحقق ذلك في سرقة لقمة أو التطفيف بحبه ، وإن كان داخلاً تحت وصف السرقة ، بل المتحقق دخول عظائمها وكلياتها كالنصاب في

فصل وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة عدل

وإذا قلنا : إن من البدع ما يكون صغيرة ، فذلك بشروط :

أحدها : أن لا يدوام عليها ، فإن الصغيرة من المعاصي لمن داوم عليها تكبر بالنسبة إليه ، لأن ذلك ناشىء عن الإصرار عليها ، والإصرار على الصغيرة يصيرها كبيرة ، ولذلك قالوا : " لا صغيرة مع إصرار ، ولا كبيرة مع استغفار " فكذلك البدعة من غير فرق ، إلا أن المعاصي من شأنها في الواقع أنها قد يصر عليها ، وقد لا يصر عليها ، وقد لا يصر عليها ، وعلى ذلك ينبني طرح الشهادة وسخطه الشاهد بها أو عدمه ، بخلاف البدعة فإن شأنها في المداومة والحرص على أن لا تزال من موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة ، وتنطلق عليه ألسنة الملامة ، ويرمى بالتسفيه والتجهيل ، وينبز بالتبديع والتضليل ، ضد ما كان عليه سلف هذه الأمة ، والمقتدى بهم من الأئمة ، والدليل على ذلك الاعتبار والنقل ، فإن أهل البدع كان من شأنهم القيام بالنكير على أهل السنة إن كان لهم عصبة ، أو لصقوا بسلطان تجري أحكامه في الناس وتنفذ أوامره في الأقطار ، ومن طالع سير المتقدمين ، وجد من ذلك ما لا يخفى .

وأما النقل ، فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت لا تزيد إلا مضياً ، وليست كذلك المعاصي ، فقد يتوب صاحبها وينيب إلى الله ، بل قد جاء ما يشد ذلك في حديث الفرق ، حيث جاء في بعض الروايات :

تتجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ومن هنا جزم السلف بأن المبتدع لا توبة له منها حسبما تقدم .

والشرط الثاني : أن لا يدعو إليها ، فإن البدعة قد تكون صغيرة بالإضافة ، ثم يدعو مبتدعها إلى القول بها والعمل على مقتضاها فيكون إثم ذلك كله عليه ، فإنه الذي أثارها ، وسبب كثرة وقوعها والعمل بها ، فإن الحديث الصحيح قد أثبت :

" أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً " والصغيرة مع الكبيرة إنما تفاوتها بحسب كثرة الإثم وقلته ، فربما تساوي الصغيرة ـ من هذا الوجه ـ الكبيرة أو تربى عليها .

وفي هذا الوجه قد يتعذر الخروج ، فإن المعصية فيما بين العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما يتعذر عليه مع الدعاء إليها ، وقد مر في باب ذم البدع وباقي الكلام في المسألة سيأتي إن شاء الله .

والشرط الثالث : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس ، أو المواضع التي تقام فيها السنن ، وتظهر فيها أعلام الشريعة ، فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو بمن يحسن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام ، فإنها لا تعدو أمرين : إما أن يقتدى بصاحبها فيها ، فإن العوام أبتاع كل ناعق، لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس ، والتي للنفوس في تحسينها هوى ، وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه ، لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر .

وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي ، فإن العالم مثلاً إذا أظهر المعصية ـ وإن صغرت ـ سهل على الناس ارتكابها ، فإن الجاهل يقول : لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب ، لم يرتكبه ، وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا . فكذلك البدعة إذا أظهرها العالم المقتدى فيها ، لا محالة ، فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل ، لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه ، بل البدعة أشد في هذا المعنى ، إذ الذنب قد لا يتبع عليه ، بخلاف البدعة فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالماً بأنها بدعة مذمومة ، فحينئذ يصير في درجة الذنب ، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك ، فإن كان داعياً إليها فهو أشد ، وإن كان الإظهار باعثاً على الاتباع ، فبالدعاء يصير أدعى إليه .

وقد روي عن الحسن أن رجلاً من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع ، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها في شجرة فيجعل يبكي ويعج إلى ربه ، فأوحى الله إلى نبي تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب . فكيف بمن ضل فصار من أهل النار ؟

وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح ، لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر ، فكأن المظهر لها يقول : هذه سنة فاتبعوها .

قال أبو مصعب : قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف ، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوامالكاً ـ وكان قد صلى خلف الإمام ـ فلما سلم قال : من ها هنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه : فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في لاصف ، وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئاً ما كنا نعرفه ؟ وقد قال النبي  :

" من أحدث في مسجدنا حدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبداً في مسجد رسول الله ولا في غيره .

وفي رواية عن ابن مهدي قال : فقال : يا عبد الرحمن ! تصلي مستلباً ؟ فقلت : يا أبا عبد الله ، إنه كان يوماً حاراً ـ كما رأيت ، فثقل ردائي علي . فقال : آلله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه ؟ قلت : آلله ، قال : خلياه .

وحكى ابن وضاح قال : ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك ، فأرسل إليه مالك فجاءه ، فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل ؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون . فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه ، قد كان رسول الله بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا ، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه ، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زماناً ، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر ، فأرسل إليه مالك فقال له : ما الذي تفعل ؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر . فقال له : ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن ؟ فقال : إنما نهيتني عن التثويب . فقال له : لا تفعل . فكف زماناً . ثم جعل يضرب الأبواب ، فأرسل إليه مالك فقال : ما هذا الذي تفعل : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر . فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه .

قال ابن وضاح : وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنما أحدث هذا بالعراق . قيل لـابن وضاح : فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو غيرها من الأمصار ؟ فقال : ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين .

فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادىء الرأي وجعله أمراً محدثاً ، وقد قال في التثويب : إنه ضلال ، وهو بين ، لأن :

" كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب ، لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة ، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثاً أحدثه .

وقد أحدث بالمغرب المتسمى بالمهدي تثويباً عند طلوع الفجر وهو قولهم أصبح ولله الحمد إشعاراً بأن الفجر قد طلع ، لإلزام الطاعة ، ولحضور الجماعة ، وللغد ولكل ما يؤمرون به . فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويباً بالصلاة كالأذان . ونقل أيضاً إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية ، وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها ، فصار ذلك كله سنة في المساجد إلا الآن ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح . وهذا نظير قولهم عندنا : الصلاة ـ رحمكم الله .

وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دخل مسجداً أراد أن يصلي فيه ، فثوب المؤذن ، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه . قال ابن رشد : وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله : حي على الصلاة : ثم ـ قال ـ وقيل : إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه : حي على خير العمل . لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة . ووقع في المجموعة : أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه ، كفعل ابن عمر رضي الله عنهما .

وفي المسألة كلام ، المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك : إنه ضلال ، والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة ، أو في المواطن التي تقام فيها السنن ، والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة ، لأنها إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها ، فكان وزر ذلك عائداً على الفاعل أولاً ، فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته .

والشرط الرابع : أن لا يستصغرها ولا يستحقرها ـ وإن فرضناها صغيرة ـ فإن ذلك استهانة بها ، والاستهانة بالذنب أعظم من الذنب ، فكان ذلك سبباً لعظم ما هو صغير ، وذلك أن الذنب له نظران : نظر من جهة رتبته في الشرط ، ونظر من جهة مخالفة الرب العظيم به ، فأما النظر الأول فمن ذلك الوجه يعد صغيراً إذا فهمنا من الشرع أنه صغير ، لأنا نضعه حيث وضعه الشرع ، وأما الآخر فهو راجع إلى اعتقادنا في العمل به حيث نستحرم جهة الرب سبحانه بالمخالفة ، والذي كان يجب في حقنا أن نستعظم ذلك جداً ، إذ لا فرق في التحقيق بين المواجهتين ـ المواجهة بالكبيرة ، والمواجهة بالصغيرة .

والمعصية من حيث هي معصية لا يفارقها النظران في الواقع أصلاً ، لأن تصورها موقوف عليهما ، فالاستعظام لوقوعها مع كونها يعتقد فيها أنها صغيرة لا يتنافيان ، لأنهما اعتباران من جهتين : فالعاصي وإن كان يعمل المعصية لم يقصد بتعمده الاستهانة بالجانب العلي الرباني ، وإنما قصد اتباع شهوته مثلاً فيما جعله الشارع صغيراً أو كبيراً ، فيقع الإثم على حسبه ، كما أن البدعة لم يقصد بها صاحبها منازعة الشارع ولا التهاون بالشرع ، وإنما قصد الجري على مقتضاه ، لكن بتأويل زاده ورجحه على غيره ، بخلاف ما إذا تهاون بصغرها في الشرع فإنه إنما تهاون بمخالفة الملك الحق ، لأن النهي حاصل ومخالفته حاصلة ، والتهاون بها عظيم ، ولذلك يقال : لا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى عظيمة من واجهته بها .

وفي الصحيح " أن رسول الله قال في حجة الوداع : أي يوم هذا ؟ قالوا : يوم الحج الأكبر ، قال : فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا، لا يجني جان إلا على نفسه ، ألا لا يجني جان على ولده ولا مولود على والده ، ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً ، ولا تكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم فسيرضى به " ، فقوله عليه الصلاة والسلام :" فسيرضى به " دليل على عظم الخطب فيما يستحقر .

وهذا الشرط مما اعتبره الغزالي في هذا المقام ، فإنه ذكر في الإحياء أن مما تعظم به الصغيرة أن يستصغرها . ( قال ) : فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند الله ، وكلما استصغره كبر عند الله . بين ذلك وبسطه .

فإذا تحصلت هذه الشروط فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيرتها صغيرة ، فإن تخلف شرط منها أو أكثر صارت كبيرة ، أو خيف أن تصير كبيرة ، كما أن المعاصي كذلك ، والله أعلم .