كتاب الزهرة/الباب الأول من كثرت لحظاته دامت حسراته


الباب الأول من كثُرت لحظاته دامت حسراته

   ===الباب الأول من كثُرت لحظاته دامت حسراته===

قال بعض الحكماء ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة وربَّ عشق غُرس من لحظة وقال العتبي أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجّاً فلما مررت بقباء تداعى النَّاس ألماً وقالوا قد أقبلت الصقيل فنظرت وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها فقلت يرحمكِ الله إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بوجهكِ فانصاعت وأنا أرى الضحك في عينيها وهي تقول:

وكنتَ متى أرسلتَ طرفكَ رائداً
لقلبكَ يوماً أتبعتكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا تأكلهُ أنتَ قادرٌ
عليه ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ

وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لامرأةٍ من الأعراب:

أرَى الحرَّ لا يفنَى ولمْ يفنهِ الأُلى
أُحينوا وقدْ كانوا علَى سالفِ الدَّهرِ
وكلهمُ قدْ خالهُ في فؤادهِ
بأجمعهِ يحكونَ ذلكَ في الشِّعرِ
وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ
ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ
ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى
وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ

وقال آخر:

تعرَّضنَ مرمى الصَّيدِ ثمَّ رَمينا
منَ النَّبلِ لا بالطَّائشاتِ الخواطفِ
ضعائفٌ يقتلنَ الرِّجالَ بلا دمٍ
فيا عجباً للقاتلاتِ الضَّعائفِ
وللعينِ ملهًى في التلادِ ولمْ يقدْ
هوَى النَّفس شيئاً كاقتيادِ الطَّرائفِ

وقال آخر:

وكمْ منْ فتًى جَلدٍ يقادُ لحينهِ
بطرفٍ مريضِ النَّاظرَينِ كحيلِ
إذا ما الهوى منهُ تعزَّزَ جانبٌ
فما شئتَ مِن مقتولةٍ وقتيلِ

وقال جرير بن عطية:

إنَّ العيونَ التي في طرفِها مرضٌ
قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حراكَ بهِ
وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا

وقال جميل بن معمر العذري:

رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى
وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ
رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ
ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي

أما معنى البيت الأول فقبيح أن يجعل في الغزل إن كان قصد في باطنه ما يتبين في ظاهره وقد زعم بعض أهل الأدب أن قوله رمى الله في عيني بثينة بالقذى إنَّما عنى به الرَّفيبَ وقوله. وفي الغرّ من أنيابها إنَّما عنى به سروات قومها والقوادح الحجارة وقد عرضتُ هذا القول على أبي العباس أحمد بن يحيى فأنكره وقال لم يعن ولم يرَ به بأساً العرب تقول قاتله الله فما أشجعه ولا تريد بذلك سوءاً.

وقال العديل بن الفرج العجلي:

يأخذنَ زينتهنَّ أحسنَ ما ترَى
فإذا عطِلنَ فهنَّ غيرُ عواطلِ
وإذا جلينَ خدودهنَّ أرَيْننا
حدقَ المها وأخذنَ نبلَ القاتلِ
فرَمَيْنا لا يستترنَ بجُنَّةٍ
إلاَّ الصِّبى وعلمنَ أينَ مَقاتلي
يلبسنَ أرديةَ الوقارِ لأهلِها
ويجرُّ باطلهنَّ حبلَ الباطلِ

وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:

سَمْعي وطرفي حليفَا أعلَى جسدي
فكيفَ أصبرُ عنْ سمعي وعنْ بصري
لوْ طاوَعاني علَى أنْ لا أُطاوعَها
إذاً لقضَّيتُ مِن أوطارِها وطَري

وقال يزيد بن سويد الضبعي:

بيضٌ أوانسُ يلتاطُ العبيرُ بها
كفَّ الفواحشَ عنها الأُنسُ والخفرُ
ميلُ السَّوالفِ غيدٌ لا يزالُ لها
منَ القلوبِ إذا لاقينَها جزرُ

وأنشدني بعض الكلابيين:

يا مَن بدائعُ حسنِ صورتهِ
تَثني إليهِ أعنَّةَ الحدقِ
لي منكَ ما للنَّاسِ كلّهمِ
نظرٌ وتسليمٌ علَى الطُّرقِ
لكنَّهمْ سعدُوا بأمنهمِ
وشقيتُ حينَ أراكَ بالفرقِ

وقال آخر:

دعا قلبهُ يوماً هوًى فأجابهُ
فؤادٌ إذا يلقَى المِراضَ مريضُ
بمُستأنِساتٍ بالحديثِ كأنَّها
تهلُّلُ مزنٍ برقهنَّ وميضُ

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:

طربتُ إلى حوراءَ آلفةِ الخِدرِ
هيَ البدرُ أوْ إنْ قلتَ أكملُ مِنْ بدرِ
تُراسلُني باللَّحظِ عندَ لقائها
فتخلسُ قلبي عندَ ذلكَ مِنْ صدري

وقال عمرو بن الأيهم:

ويومَ ارتحالِ الحيِّ راعتكَ روعةً
فلمْ تنسَها مِنْ ذاكَ إلاَّ علَى ذكرِ
رمتكَ بعينيْ فرقدٍ ظلَّ يتَّقي
شآبيبَ قطرٍ بينَ غُصنينِ مِنْ سدرِ

وقال آخر:

قلبي إلى ما ضرَّني داعِي
يُكثرُ أسقامي وأوْجاعي
لقلَّ ما أبقَى علَى ما أَرى
أُشكُ أنْ ينعانِيَ النَّاعِي
كيفَ احْتراسِي من عدوِّي إذا
كانَ عدوِّي بينَ أضلاعِي
ما أقتلَ اليأْسَ لأهلِ الهوَى
لا سيَّما مِنْ بعدِ إطماعِ

وقال الطرماح:

فلمَّا ادَّركناهنَّ أبدينَ للهوَى
محاسنَ واسْتولينَ دونَ محاسنِ
ظعائنُ يستحدثنَ في كلِّ بلدةٍ
رَهيناً ولا يُحسنَّ فكَّ الرَّهائنِ

وقال العجيف العقيلي:

خليليَّ ما صبرِي علَى الزَّفراتِ
وما طاقَتي بالشَّوقِ والعبراتِ
تقطَّعُ نفسِي كلَّ يومٍ وليلةٍ
علَى إثرِ مَنْ قدْ فاتَها حسراتِ
سقَى ورعَى اللهُ الأوانسَ كالدُّمى
إذا قمنَ جنحَ اللَّيلِ مُنبهراتِ
دعونَ بحبَّاتِ القلوبِ فأقبلتْ
إليهنَّ بالأهواءِ مُبتدراتِ

وأنشدني أحمد بن يحيى الشيباني أبو العباس النحوي:

إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتَى
سقوطَ حصَى المرجانِ مِنْ سلكِ ناظمِ
رمينَ فأنفذنَ القلوبَ ولا ترَى
دماً مائراً إلاَّ جوًى في الحيازمِ
وخبَّركِ الواشونَ ألاّ أُحبّكمْ
بلَى وستورِ البيتِ ذاتِ المحارمِ
أصدُّ وما الصَّدُّ الذي تعلمينهُ
بنا وبكمْ إلاَّ جزع العلاقمِ
حياءً وبُقيا أنْ تشيعَ نميمةٌ
بنا وبكمْ أُفٍّ لأهلِ النَّمائمِ
أمَا إنَّه لوْ كانَ غيركِ أرقلتْ
صعادُ القنا بالرَّاعفاتِ اللَّهاذمِ
ولكنْ وبيتِ اللهِ ما طلَّ مسلماً
كغرِّ الثَّنايا واضحاتِ الملاغمِ
وإنَّ دماً لوْ تعلمينَ جنيتهِ
علَى الحيِّ جانِي مثلهِ غيرُ نائمِ

وقال عمر بن أبي ربيعة:

فلمَّا تواقَفْنا وسلَّمتُ أقبلتْ
وجوهٌ زهاها الحسنُ أنْ تتقنَّعا
تبالَهْنَ بالعرفانِ لمَّا عرفنني
وقلنَ امرؤٌ باغٍ أضلَّ وأوضعا
وقرَّبنَ أسبابَ الهوَى لمتيَّمٍ
يقيسُ ذراعاً كلَّما قسنَ إصبعا
فقلتُ لمُطريهنَّ بالحسنِ إنَّما
ضررتَ فهلْ تسطيعُ نفعاً فتنفعَا

وقال أيضاً:

وكمْ مِنْ قتيلٍ ما يُباءُ بهِ دمٌ
ومِنْ غلقٍ رهناً إذا لفَّهُ مِنَى
ومن مالئٍ عينيهِ مِنْ شيءِ غيرهِ
إذا راحَ نحوَ الجمرةِ البيضُ كالدُّمى
أوانسُ يسلبنَ الحليمَ فؤادهُ
فيا طولَ ما شوقٍ ويا حسنَ مُجتلَى
مع اللَّيلِ قصراً قدْ أضرَّ بكفِّها
ثلاثَ أسابيعٍ تعدُّ منَ الحصَى
فلمْ أرَى كالتَّجميرِ منظرَ ناظرٍ
ولا كليالِي الحجِّ أفتنَّ ذا هوَى

وقال آخر:

بوارحُ رحنَ من برحٍ إلينا
بأفئدةِ الرِّجالِ مبرِّحاتِ
رمينَ حصَى الجمارِ بخاضباتٍ
وأفئدةَ الرِّجالِ بصائباتِ

وقال ذو الرمة:

فما ظبيةٌ ترعَى مساقطَ رملةٍ
كسَا الواكفُ الغادي لها ورقاً خُضرا
بأحسنَ مِنْ ميٍّ عشيَّةَ حاولتْ
لتجعلَ صدعاً في فؤادكَ أوْ عَقرا
بوجهٍ كقرنِ الشَّمسِ حرٍّ كأنَّما
تهيجُ بهذا القلبِ لمحتهُ وقْرا
وعينٍ كأنَّ البابليَّيْنِ لبَّسا
بقلبكَ منها يومَ لاقيتَها سِحرا

وقال كثير بن عبد الرحمن:

أصابكَ نبلُ الحاجبيَّةِ إنَّها
إذا ما رمتْ لا يستبلُّ كليمُها
لقدْ غادرتْ في القلبِ منِّي أمانةً
وللعينِ عبراتٌ سريعٌ سجومُها
فذُوقي بما أجنيتِ عيناً مشومةً
عليَّ وقدْ يأتِي علَى العينِ شومُها

وقال آخر:

وتنالُ إذا نظرتْ إليكَ بطرفِها
ما لا ينالُ بحدِّهِ النَّصلُ
وإذا نظرتَ إلى محاسنِ وجهِها
فلكلِّ موضعِ نظرةٍ قتلُ
ولقلبِها حلمٌ تصدُّ بهِ
عنْ ذي الهوَى ولطرفِها جهلُ

وقال حبيب بن أوس الطائي:

يا جفوناً سواهِداً أعدمتْها
لذَّةَ النَّومِ والرُّقادِ جفونُ
إنَّ للهِ في العبادِ منايَا
سلَّطتْها علَى القلوبِ عيونُ

وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:

دارَ الهوَى بعبادِ اللهِ كلّهمِ
حتَّى إذا مرَّ بي مِنْ بينهمْ وقفَا
إنِّي لأعجبُ مِنْ قلبٍ يكلِّفكمْ
ومَا يرَى منكمُ برّاً ولا لَطَفا
لولا شقاوةُ جدِّي ما عرفتكمُ
إنَّ الشَّقيَّ الذي يشقَى بمنْ عرَفا

وأنشدني أبو طاهر أحمد بن بشر الدمشقي:

رمتْني وسِترُ اللهِ بيني وبينها
عشيَّةَ أحجارِ الكَنَاسِ رميمُ
رميمُ الَّتي قالتْ لجاراتِ بيتها
ضمنتُ لكمْ أنْ لا يزالَ يهيمُ
ألا ربَّ يومٍ لوْ رمتْني رَمَيْتها
ولكنَّ عهدي بالنِّضالِ قديمُ

وبلغني أنَّ بثينة وعزَّة كانتا خاليتين تتحدثان إذ أقبل كثيِّر فقالت بثينة لعزَّة أتحبين أن أُبين لك إن كان كثيِّر فيما يظهره لك من المحبة غير صادق قالت نعم قالت: أدخلي الخباء فتوارت عزَّة ودنا كثيِّر حتَّى وقف على بثينة فسلم عليها فقالت له ما تركت فيك عزَّة مستمتَعاً لأحدٍ فقال كثيِّر والله لو أن عزَّة أمَة لوهبتها لكِ قالت له بثينة إن كنت صادقاً فاصنع في ذلك شعراً فأنشأ يقول:

رمتْني علَى فوتِ بثينةُ بعدَ ما
تولَّى شبابِي وارْجحنَّ شبابُها
بعينينِ نجلاوينِ لوْ رقرقتْهُما
لنوءِ الثُّريَّا لاستهلَّ سحابُها

فبادرت عزَّة فكشفت الحجاب وقالت يا فاسق قد سمعت البيتين قال لها فاسمعي الثالث قالت وما هو فأنشأ يقول:

ولكنَّما ترمينَ نفساً شقيَّةً
لعزَّةَ منها صفوُها ولبابُها

وهذا الشعر وإن كان قبيحاً لمناسبته الخيانة والغدر فهو حسن من ثبات حدَّة الخاطر وسرعة الفكر.

وقال أبو عبادة البحتري:

نظرتْ قادرةً أنْ ينكفِي
كلُّ قلبٍ في هواهَا بعلَقْ
قالَ بُطلاً وأفالَ الرَّأيَ مَنْ
لمْ يقلْ إنَّ المنايا في الحدَقْ
كانَ يكفِي ميِّتاً مِنْ ظمإٍ
فضلُ ما أوبقَ ميْتاً مِنْ غرَقْ
إنْ تكنْ محتسباً مَنْ قدْ ثوَى
لحمامٍ فاحتسبْ مَنْ قدْ عشِقْ

وقال القطامي وهو أحسن ما قيل في معناه:

وفي الخدورِ غماماتٌ برقنَ لنا
حتَّى تصيَّدننَا مِنْ كلِّ مُصطادِ
يقتُلْننا بحديثٍ ليسَ يعلمهُ
مَنْ يتَّقينَ ولا مكتومهُ بادِ
فهنَّ يُبدينَ مِنْ قولٍ يُصبنَ بهِ
مواقعَ الماءِ من ذِي الغلَّةِ الصَّادي

قد ذكرنا من أقاويل الشعراء في الهوَى أنَّه يقع ابتداؤه من النظر والسَّماع ما في بعضه بلاغٌ ثمَّ نحن إن شاء الله ذاكرون ما في ذلك الأمر الَّذي أوقعه السماع والنظر ولمَ وقع وكيف وقع إذ قد صحَّ كونه عند العامَّة وخفيَ سببه على الخاصَّة أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني قال حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنَّه قال: الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.

وفي مثل ذلك يقول طرفة بن العبد:

تعارفُ أرواحُ الرِّجالِ إذا التقَوْا
فمنهمْ عدوٌّ يُتَّقى وخليلُ
وإنَّ امرءاً لمْ يعفُ يوماً فكاهةً
لمنْ لمْ يردْ سوءاً بها لجهولُ

وزعم بعضُ المتفلسفين أن الله جلَّ ثناؤه خلقَ كلَّ روحٍ مدوَّرة الشكل على هيئة الكرة ثمَّ قطعها أيضاً فجعل في كل جسد نصفاً وكل جسد لقي الجسد الَّذي فيه النصف الَّذي قطع من النصف الَّذي معه كان بينهما عشقٌ للمناسبة القديمة وتتفاوت أحوال النَّاس في ذلك على حسب رقَّة طبائعهم.

وقد قال جميل في ذلك:

تعلَّقُ رُوحي روحَها قبلَ خلقِنا
ومِنْ بعدِ ما كنَّا نِطافاً وفي المهدِ
فزادَ كمَا زِدنا فأصبحَ نامِياً
وليسَ إذا مُتنا بمُنتقضِ العهدِ
ولكنَّهُ باقٍ علَى كلِّ حالةٍ
وزائرُنا في ظُلمةِ القبرِ واللَّحدِ

وفي نحوه يقول بعض أهل هذا العصر:

مَنْ كانَ يشجَى بحبٍّ ما لهُ سببٌ
فإنَّ عندي لِما أشجَى بهِ سببُ
حُبِّيهِ طبعٌ لنفسِي لا يغيِّرهُ
كرُّ اللَّيالِي ولا تُودي بهِ الحقبُ
إن كانَ لا بدَّ للعشَّاقِ من عطبٍ
ففي هوَى مثلهِ يُستغنمُ العطبُ

وكتب بعض الظرفاء إلى أخ له إنِّي صادقت منك جوهر نفسي فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام لأن النفس يتبع بعضها بعضاً وحُكي عن أفلاطون أنَّه قال ما أدري ما الهوَى غير أنِّي أعلم أنَّه جنون إلاهي لا محمود ولا مذموم.

وقد قال بعض الشعراء في مثله:

إنَّ المحبَّةَ أمرُها عجبٌ
تُلقَى عليكَ وما لها سببُ

ولقد أحسن الحسين بن مطير في قوله:

قضَى اللهُ يا سمراءُ منِّي لكِ الهوَى
بعزمٍ فلمْ أمنعْ ولمْ أُعطِهِ عمدا
وكلُّ أسيرٍ غيرُ مَنْ قدْ ملكتهِ
مُرجًّى لقتلٍ أوْ لنعماءُ أوْ مُفدَى

وزعم بطليموس أن الصداقة والعداوة تكون على ثلاثة أضرب إما لاتفاق الأرواح فلا يجد المرء بدّاً من أن يحب صاحبه وإما للمنفعة وإما لحزن وفرح فأما اتفاق الأرواح فإنه يكون من كون الشَّمس والقمر في المولدين في برج واحد ويتناظران من تثليث أو تسديس نظر مودَّة فإنه إذا كان كذلك كانا صاحبا المولدين مطبوعين على مودَّة كل واحد منهما لصاحبه فأما اللذان تكون مودَّتهما لحزن أو لفرح فإنه من أن يكون طالع مولديهما برجاً واحداً ويتناظر طالعاهما من تثليث أو تسديس وأما اللذان مودتهما للمنفعة فإن ذلك من أن يكون بينهما سعادتاهما في مولديهما في برج واحد أو يتناظر السهمان من تثليث أو تسديس فإن لك يدل على المولدين تكون منفعتهما من جهة واحدة وينتفع أحدهما بصاحبه فتجلب المنفعة بينهما الصداقة أو تكون مضرتهما من جهة واحدة فيتفقان على الحزن فيتوادان بذلك السبب ويُقوِّي ذلك كله نظر السعود في وقت المواليد ويضعفه نظر النحوس وقد ذكر بعض الشعراء الهوَى فقسمه على نحوٍ من هذا المعنى فقال:

ثلاثةُ أحبابٍ فحبُّ علاقةٍ
وحبُّ تِملاقٍ وحبٌّ هوَ القتلُ

وزعم جالينوس أنَّ المحبة قد تقع من العاقلين من باب تشاكلهما في العقل ولا تقع بين الأحمقين من باب تشاكلهما في الحمق لأن العقل يجري على ترتيب فيجوز أن يُتفق فيه على طريق واحد والحمق لا يجري على ترتيب فلا يجوز أن يقع به اتفاق بين اثنين وقال بعض المتطببتن إنَّ العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع إليه مواد من الحرص مكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدَّة القلق وكثرة الشَّهوة وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء ومن طغيان السوداء فساد الفكر ومع فساد الفكر تكون العدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون وتمنِّي ما لا يتمُّ حتَّى يؤدي ذلك إلى الجنون فحينئذ ربَّما قتل العاشق نفسه وربَّما مات غمّاً وربَّما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً وربَّما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنَّه قد مات فيقبرونه وهو حيٌّ وربَّما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضمُّ عليها القلب فلا ينفرج حتَّى يموت وربَّما ارتاح وتشوَّق للنَّظر أو رأى من يحبُّ فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحبُّ كيف يهرب ويستحيل لونه وإن كان الأمر يجري على ما ذكر فإنَّ زوال المكروه عمَّن هذه حاله لا سبيل إليه بتدبير الآدميين ولا شفاء له إلاَّ بلطف يقع له من رب العالمين وذلك أن المكروه العارض من سبب قائم منفرد بنفسه يتهيَّأ التَّلطُّف في إزالته بإزالة سببه فإذا وقع الشَّيئان وكل واحد منهما علَّة لصاحبه لم يكن إلى زوال واحدة منهما سبيل فإذا كانت السوداء سبباً لاتصال الفكر وكان اتصال الفكر سبباً لاحتراق الدم والصفراء وقلبها إلى تقوية السوداء كلما قويت قوَّت الفكر والفكر كلما قوي قوَّى السوداء وهذا هو الداء الَّذي يعجز عن معالجته الأطبَّاء وقد زعم بعض المتصوفين أن الله جل ثناؤه إنَّما امتحن النَّاس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه وليشق عليهم سخطه ويسرَّهم رضاؤه فيستدلّ بذلك على قدر طاعة الله عزَّ وجلّ إذ كان لا مثل له ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم ورازقهم مبتدئاً غير ممتنٍّ عليهم فإن أوجبوا على أنفسهم طاعة من سواه كان هو تعالى أحرى بأن يتَّبع رضاه والكلام في اعتبار ما حكيناه والإخبار عن جميعه بما يرضاه يكثر وربَّما استغني بالحكايات عن التَّصريح بالاختبارات ونحن إن شاء الله نذكر بعقب هذا الباب مبلغ الهوَى من قلوب ذوي الألباب ونصف مراتبه وتصرفه وازدياده وتمكنَّه ونخبَّر باقتداره على المقتدرين واستظهاره على المستظهرين وتلاعبه بقلوب المتفلسفين وتمالكه على خواطر المستسلمين.