الباب التاسع والعشرون من قصَّر عن مصاحبة الجار لم تنفعه مسائلة الدَّارأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب التاسع والعشرون من قصَّر عن مصاحبة الجار لم تنفعه مسائلة الدَّار
حدَّثني أبو العبَّاس أحمد بن يحيى النَّحويُّ قال حدَّثنا أبو سعيد قال حدَّثنا الهرويُّ قال حدثنا موسى بن جعفرٍ بن كثيِّرٍ قال كان المجنون لما أصابه ما أصابه يخرج فإذا أتى الشَّام قال لهم أين أرض بني عامر فقالوا له وأين أنت من أرض بني عامرٍ وقف عند جبلٍ يقال له التَّوباد ثمَّ أنشد:
وأجهشْتُ للتَّوبادِ لمَّا رأيتهُ
وهلَّلَ للرَّحمانِ حينَ رآني
وأذريْتُ دمعَ العينِ لمَّا رأيتهُ
ونادى بأعلى صوتهِ فدعاني
وقلتُ له أينَ الَّذينَ عهدتهمْ
حوالَيْكَ في عيشٍ وخير زمانِ
فقالَ مضوْا واستودعوني بلادهُمْ
ومنْ ذا الَّذي يبقى علَى الحدثانِ
وإنِّي لأبكي اليومَ من حذري غداً
فراقَكَ والحيَّانِ مُؤْتلفانِ
سجالاً وتهْتاناً ووبْلاً وديمةً
وسحّاً وتسجاماً وينهملانِ
قال ثمَّ يمضي حتَّى يأتي العراق فيقول مثل ذلك ثمَّ يأتي اليمن فيقول مثل ذلك.
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
ذاكَ وادي الأراكِ فاحبسْ قليلاً
مُقصراً منْ صبابةٍ أوْ مُطيلا
قِفْ مشوقاً أوْ مُسعداً أوْ حزيناً
أوْ مُعيناً أوْ عاذراً أوْ عذولا
إنَّ بينَ الكثيبِ فالجزعِ فالآ
رامِ رَبْعاً لآلِ هندٍ محيلا
أبلَتِ الرِّيحُ والرَّوائحُ والأ
يَّامُ منهُ معالماً وطُلولا
وخلافُ الجميلِ قولُكَ للذا
كرِ عهدَ الأحبابِ صبراً جميلا
لا تلُمْهُ علَى مواصلةِ الدَّمْ
عِ ولؤمٌ لومُ الخليلِ الخليلا
لم يكنْ يومُنا طويلاً بنعما
نٍ ولكن كانَ البُكاءُ طويلا
وقال يحيى بن منصور:
أما يستفيقُ القلبُ إلاَّ انبرى لهُ
توهُّمُ دارٍ من سعادٍ ومربَعِ
أُخادعُ عنْ عِرفانها العينَ إنَّها
متى تُثبتِ الأطلالَ عينيَ تدمعِ
عهدْنا بها وحشاً عليها براقعٌ
وهذي وحوشٌ حُسَّرٌ لم تُبرقعِ
وقال ذو الرمة:
أإنْ ترسَّمتَ من خرقاءَ منزلةً
ماءُ الصَّبابةِ من عينيكَ مسجومُ
منازلُ الحيِّ إذْ لا الدَّارُ نازحةٌ
بالأصفياءِ وإذْ لا العيشُ مذمومُ
تعتادني زفراتٌ حينَ أذكرُها
تكادُ تنقدُّ منهُنَّ الحيازيمُ
وقال أيضاً:
كأنَّ ديارَ الحيِّ بالزُّرقِ حلقةٌ
منَ الأرضِ أوْ مكتوبةٌ بمِدادِ
إذا قلتُ تعفو لاحَ منها مُهيِّجٌ
عليَّ الهوَى من طارفٍ وتِلادِ
وما أنا في دارٍ لميٍّ عرفتُها
بجلدٍ ولا عيني بها بجمادِ
إذا قلتُ بعدَ الجهدِ يا ميُّ نلتقي
عدتْني بكرْهٍ أن أراكِ عوادي
ودويَّةٍ مثلُ السَّماءِ اعتسفتُها
وقد صبغَ اللَّيلُ الحصى بسوادِ
أمَّا تشبيهه رسوم الدَّار بالحلقة من الأرض فهذا إحسانٌ في معناه وإعرابٌ في لفظه وما أساء في تشبيهها بالكتابة بالمداد غير أنَّ هذا مسبوقٌ إليه فالمعيد لذكره غير ملومٍ فيه ولا محمودٍ عليه وأما إخباره بأنَّها تهيج هواه وادكاره فهو أيضاً معنًى غير مبتدعٍ إلاَّ أنَّه يدلُّ على ضعفٍ في الحال ونقصٍ في الجزع ويشهد بما قلناه اعتذاره إلى من يهواه ومن تركه القصد إلى لقائه بأنه إذا عزم على ذلك عداه عنه مكروهٌ من أشغاله وكلُّ هذه الأوصاف تدلُّ على قصور حاله.
ولقد قال البحتري في أكثر هذه الأحوال فأحسن فيما قال فمن ذلك قوله:
دَمنٌ كمثلِ طرائقِ الوشْيِ انجلَتْ
لمَعاتهُنَّ منَ الرِّداءِ المُنهَجِ
يضْعُفنَ عنْ إذكارنا عهدَ الصِّبى
أوْ أنْ يهجْنَ صبابةً لم تهتجِ
ولرُبَّ دهرٍ قد تبسَّمَ ضاحكاً
عن طرَّتَيْ زمنٍ بهنَّ مُدبَّجِ
منْ قبلِ داعيةُ الفراقِ ورحلةٌ
منعَتْ مُغازلةَ الغزالِ الأدْعجِ
لأُكلِّفنَّ العيسَ أبعدَ غايةٍ
يجري إليها خائفٌ أوْ مُرتجِ
وله أيضاً:
لا تقفْ بي علَى الدِّيارِ فإنِّي
لستُ من أربُعٍ ورسمٍ مُحيلِ
في بكاءٍ علَى الأحبَّةِ شغلٌ
لأخي الحبِّ عنْ بُكاءِ الطُّلولِ
علَى أنَّه قد نقض أيضاً علَى نفسه هذا المعنى الَّذي استحسناه بقوله:
أينَ أهلُ القبابِ بالأجرعِ الفَرْ
دِ تولُّوا لا أينَ أهلُ القِبابِ
سقمٌ دونَ أعينٍ ذاتِ سُقمٍ
وعذابٌ دونَ الثَّنايا العِذابِ
وكمثلِ الأحبابِ لو يعلمُ العا
ذلُ عندي منازلُ الأحبابِ
فهو يوهمُنا في الأبيات الأول أنَّ الصَّبابة قد ملكت هممه وأفكاره وتناولت خواطره وادِّكاره حتَّى لم تدع فيه فضلاً لعارضٍ يهيجه ولا لمنزلٍ يذكّره وأنَّ شغله بالتَّفرُّد بالبكاء على إلفه يمنعه من التَّشاغل بالوقوف على منزله وهو في هذه الأبيات لا يرضى أن يجعل البكاء على الدَّار لضروبٍ من ضروب الادِّكار برغم أنَّ موقعها في فؤاده كموقع من كان فيها من أحبابه وهذا أفرط في التَّفاوت والمناقضات غير أنَّ من تكلَّم على قدر الأوقات وجرى مع أحكام الهوَى على حسب الغايات غدر بل تحيَّل في قوله فضلاً عن أن يخالف مذهباً إلى غيره.