كتاب الزهرة/الباب الثالث والسبعون ذكر ما للشعراء من الافتخار بالسخاء


الباب الثالث والسبعون ذكر ما للشعراء من الافتخار بالسخاء

قال حاتم بن عبد الله الطائي:

أماويَّ قد طالَ التَّجنُّبُ والهجرُ
وقد عذرتني في طلابكمُ العذرُ
أماويَّ إنَّ المالَ غادٍ ورائحٌ
ويبقى من المالِ الأحاديثُ والذِّكرُ
أماويَّ إنِّي لا أقولُ لسائلٍ
إذا جاءَ يوماً حلَّ في مالنا نذرُ
أماويَّ إمَّا مانعٌ فمبيّنٌ
وإمَّا عطاءٌ لا ينهنههُ الزَّجرُ
أماويَّ إنْ يصبحْ صدايَ بقفرةٍ
من الأرضِ لا مالٌ لديَّ ولا خمرُ
ترَي أنَّ ما أهلكتُ لم يكُ ضرَّني
وأنَّ يدي ممَّا بخلتُ به صفرُ
وقدْ علمَ الأقوامُ لو أنَّ حاتماً
أرادَ ثراءَ المالِ كانَ لهُ وفرُ
وأنِّي لا آلو بمالي صنيعةً
فأوَّله زادٌ وآخره ذُخرُ
يفكُّ بهِ العاني ويؤكلُ طيِّباً
وما إنْ تعرِّيهِ القداحُ ولا الخمرُ
ولا أظلمُ ابنَ العمِّ إنْ كانَ إخوتي
شهوداً وقد أودى بإخوتهِ الدَّهرُ
عنينا زماناً بالتَّصعلكِ والغنى
وكلاّ سقاناهُ بكأسيهما الدَّهرُ
فما زادَنا بغياً على ذي قرابةٍ
غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقرُ

وقال آخر:

ذريني أكن للمالِ ربّاً ولا يكنْ
لي المال ربي تحمدي غَيّه غدا
أريني جواداً ماتَ هزلاً لعلَّني
أَرَى ما ترين أو بخيلاً مخلَّدا

وقال آخر:

فلسنا نناجي غيرنا في أُمورنا
ولا نتَّقي ما تُتَّقى في الَّذي يقْضي
غنينا بعزّ الله لا عزَّ غيرَهُ
عن النَّاس لما احتاج بعض إلى بعضِ

وقال الحكم الأسدي:

وأُعسرُ أحياناً فتشتدّ عُسرتي
فأُدركُ ميسورَ الغِنى ومعي عِرضي
وأقضي علَى نفسي إذا الأمرُ نابني
وفي النَّاس من يُقضى عليه ولا يقضي

وقال ابن حازم:

للنَّاس مال ولي مالان مالُهما
إذا تحارس أهل المالِ حُرَّاسُ
مالي الرّضا بالَّذي أصبحت أملكه
ومالي اليأسُ ممَّا يملك النَّاسُ

وقال آخر:

إنِّي أَرَى من لهُ قنوعُ
يَعدلُ من نالَ أوْ تعنَّى
والرّزق يأتي بلا عناءٍ
وربَّما فاتَ ما تمنَّى

وقال آخر:

ويمنعني وسوء الحال ليلٌ
فأكثر ما أقول بك استعنتُ
ويسألني صديقي كيفَ حالِي
فأوهمه الغنى ولقد جُهدتُ
ولولا أن أذكر الموت يُسلي
عن الدُّنيا ولذّتها أسفتُ
وأعظمُ من نزول الموت أنِّي
أُدانُ بما كسبتُ وما اكتسبتُ

وقال آخر:

ناري ونار الجار واحدةٌ
وإليه قبْلي تنزل القدْرُ
ما ضرَّ جار لي مجاورني
ألاَّ يكونَ لبابهِ سِتْرُ

وقال جعفر بن أبي طالب:

يا ليت للنَّاسِ رسماً في وجوههُم
تبين أخلاقهم فيه إذا اجتمعوا
وليتَ رزق أُناس مثل نائلهم
قوتاً بقوت وتوسيعاً إذا اتّسعوا
وليتَ ذا الفُحش لاقى فاحشاً أبداً
وذا التحكّم أهل الحلم فارتدعوا
وليتَ من يمنع المعروف يُحرمهُ
حتَّى يذوقَ أُناسٌ مثل ما صنعوا

وقال كعب بن زهير:

وعاذلةٍ تخشى الرَّدَى أن يصيبني
تروح وتغدو بالملامة والهَشَمْ
تقول هلكنا إن هلكتَ وإنَّما
علَى الله أرزاق العباد كما زعمْ
فإنِّي أُحبُّ الخلد لو أستطيعُهُ
وكالخلد عندي أن أموتَ ولم أُلَمْ

وقال عروة بن الورد:

إنِّي امرؤ عافي إنائي شِركةٌ
وأنتَ امرؤ عافي إنائك واحدُ
أتهزأ منِّي إن سمنت وأن ترى
بجسمي شحوب الحقّ والحقُّ جاهدُ
أُقسِّمُ جسمي في جسوم كثيرةٍ
وأحسو قُراح الماء والماء باردُ

وقال ابن البرصاء:

ولستَ بذي فضل وإن كنتَ نلتَهُ
علَى الحيِّ حتَّى لا تضُرَّ وتنفعا
أمن أجلِ أن لم تلقَ عزّاً كعزّنا
وتستجلب الأدنى إذا خابَ أودعا
غضضتَ بأطرافِ البنان نفاسةً
علَى المجدِ حتَّى لم تدعْ لك إصبعا

وقال بشر بن المغيرة:

جفاني الأميرُ والمغيرةُ قد جَفَا
وأمسى يزيدُ لي قد ازورَّ حاجبُهْ
وكلُّهمُ قد نالَ شِبعاً لبطنهِ
وشِبعُ الفَتَى لؤمٌ إذا جاعَ صاحبُهْ
فيا عَمِّ مهلاً واتَّخذني لنوبةٍ
تنوبُ فإن الدَّهر جمٌّ نوائبُهْ
أنا السَّيف إلاَّ أنَّ للسَّيف نَبوةً
ومثليَ لا تنبُو عليك مضاربُهْ

وقال آخر:

فيا بنتَ عبد الله وابنةَ مالكٍ
ويا بنتَ ذي البُردين والفرس الوردِ
إذا ما صنعتِ الزَّادَ فالتمسي له
أكيلاً فإنِّي لستُ آكلهُ وحدي
أخاً طارقاً أوْ جارَ بيتٍ فإنني
أخافُ ذميمات الأحاديث من بعدي
وإنِّي لعبدُ الضَّيف ما دامَ ثاوياً
وما فيَّ إلاَّ تلك من شيم العبْدِ

وقال عبد الله بن سبرة:

شتَّان عندي من أُصيبَ ببلدةٍ
يهوى إليَّ ومن أُصيبَ مجاوري
إن المصابَ إذا أُصيب ببلدةٍ
يهوى إليَّ كجار بيتي الحاضرِ
قالت هوازنُ والخطوب كثيرةٌ
ما ذنبُ قومك في القتيلِ الزَّائرِ
فكفيت قومك عقله ووديته
وسننتَ ذلك سُنَّة في عامرِ

وقال عبد العزيز بن زرارة:

لقد علمتْ أُمُّ الحويرث أنَّني
إذا نزلَ الأضيافُ غير ذميم
فإن لا أكن عينَ الشُّجاع فإنَّني
أردُّ سنانَ الرُّمح غير سليم
وإن لا أكن عين الجواد فإنَّني
علَى المالِ في الظّلماءِ غيرُ لئيم

وقال بعض بني عجل:

إذا كنت ذا حظٍّ من المالِ فالتمسْ
به الأجر وارفعْ ذكرَ مَن في المقابرِ
وإن كثيرَ المال يفنى وفضلَهُ
كظلِّ مقيل الشَّمس عند الهواجرِ

وقال آخر:

وإنَّا لمشَّاؤون بين رجالنا
إلى الضَّيف منَّا ملحِفٌ ومُنيمُ
فذو الحلم منَّا جاهلٌ دون ضيفهِ
وذو الجهلِ منَّا عن أذاهُ حليمُ

وقال آخر:

إذا نحنُ قلنا صَدّق القولَ فِعلُنا
وكم قائلٍ يُكذِّبهُ الفعلُ

وقال آخر:

ألا تَرَينَ وقد قطَّعتني عَذَلاً
ماذا من البعدِ بين البُخل والجُودِ
ألاَّ يكن وَرقٌ يوماً أجودُ بها
للمُعتفينَ فإنِّي ليِّنٌ عودي
لن يعدم المبتغي للخير يسألني
إما نوالي وإما حُسن مردودي

وقال آخر:

ومُسْتنبح قبل الهُدُوّ دعوتُهُ
بشقراءَ مثل الفجرِ ذاك وَقودُها
فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحباً
بطارق نارٍ مُحْمد مَن يرودُها
فإن شئت آويناك في الحيِّ مُكرماً
وإنْ شئت بلغناك أرضاً تُريدُها

وقال آخر:

ومُسْتنبح قال الصَّدي مثلَ قولِهِ
رفعت له ناراً لها حطبٌ جَزْلُ
وقمتُ إليه مسرعاً فكتمتُهُ
مخافة قومي أن يفوزوا به قبلُ
وداويتُهُ من سوءِ ما فعلَ الطّوي
بتعجيل ما ضمَّ المزادة والرَّحلُ
وأوسعني حمداً وأوسعتهُ قِرًى
فارتجْ بحمدٍ كانَ كاسبهُ الأكلُ

وقال آخر:

ومُسْتنبح تهوى مساقطُ رأسهِ
إلى كلِّ شخصٍ وهو للسمع أصورُ
يصفِّقُهُ أنفٌ من الريح باردٌ
ونكباءُ ليلٍ من جُمادى وصرصرُ
حبيبٌ إلى كلبِ الكريم مُناخُهُ
بغيضٌ إلى الكوماء والكلبُ أبصَرُ
خَطأتُ له ناري فأبصرَ ضوءها
وما كانَ لولا خطأة النَّار يُبصرُ
دَعَتهُ بغر اسمٍ هلمّ إلى القرى
فأسرعَ يبوعُ الأرض والنَّار تزهَرُ
فلما أضاءتْ شخصهُ قلتُ مرحباً
رَشَدتَ وللصَّالين بالنَّار أبشروا
وقمتُ بنصل السَّيف والبرك جاهد
لها زورةٌ والموتُ في السَّيف يُنظرُ
فأغضضتُهُ الطُّولى سناماً وخيرَها
ولاءً وخيرُ الخير ما يُتخيَّرُ

وقال آخر:

أجَلَّكَ قومٌ حين صرتَ إلى الغِنَى
وكلُّ غنيٍّ في العيونِ جليلُ
وليسَ الغِنَى إلاَّ غنًى زيَّنَ الفَتَى
عشيَّة يَقري أوْ غداة يُنيلُ

وقال آخر:

رمَى الفقرُ بالفتيان حتَّى كأنَّهم
بأقطار آفاقِ البلادِ نجومُ
وإن امرءاً لم يُفقرِ العام بيتَهُ
ولم يتخدَّدْ لحمهُ للئيمُ

وقال الخُريمي:

وإنِّي لسهلُ الوجه للمُبتغي القِرى
وإنَّ فنائي للقِرى لرحيبُ
أُضاحكُ ضيفي قبل إنزال رَحْله
ليُخصبَ عندي والمحلُّ جَديبُ
وما الخصبُ للأضياف أن يكثر القِرى
ولكنَّما وجهُ الكريم خصيبُ

وقال الحسين بن رجاء بن أبي الضحاك:

قد يصبرُ الحرُّ علَى السَّيف
ويأنفُ الصَّبر علَى الحيفِ
ويؤثر الموت علَى حالةٍ
يَعجزُ فيها عن قِرى الضَّيفِ

وقال آخر:

اللَّيلُ يا غلامُ ليلٌ قرُّ
والريحُ يا موقدُ فيها صِرُّ
فأجّج النَّارَ لمن يمُرُّ
إن جَلَبتَ ضيفاً فأنتَ حُرُّ

قال علي بن الجهم في كلب أهداه إلى بعض إخوانه يوصيه به:

أُوصيك خيراً به فإنَّ ل
هُ سجيَّةً لا أزال أحمدُها
يدلُّ ضيفي عليَّ في غسق
اللَّيل إذا النَّار نام موقدها

وقال علي بن محمد العلوي:

يسترسل الضَّيف في أبياتنا أُنساً
فليسَ يعلمُ خلقٌ أيُّنا الضَّيفُ
والسَّيفُ إن قسته يوماً بنا شبهاً
في الرَّوع لم يدْر عزماً أيُّنا السَّيفُ

قال أبو بكر محمد بن داود: وهذا أحسن ما قيل في معناه، على أن الافتخار كله عندي يقبح، وأقبحه الافتخار بالسخاء خاصة، لأن الأجمل بأهل الكرم أن تنشر عنهم فضائلهم، وأن يعترفوا هم بالتقصير على أنفسهم، فإن استقلالهم لمعروفهم الَّذي يستكثره غيرهم دلَّ على كرم طباعهم من الشحح بما صنعوا من معروف إلى غيرهم حتَّى إن ذكر مكارمهم بحضرتهم غير جميل من مادحيهم وتلقِّيهم إيَّاه بالقبول غير محمود من فعلهم. وليس يجمل الافتخار في حال من الأحوال إلاَّ بمن كفر نعمه، ونسب إلى غير ما يستحقّه، فيحسن منه حينئذٍ الاعتذار لنفسه بما ينفي عنه ما قرب به كالذي يقول:

يُعيّرني بالدّين قومي وإنَّما
دُيونيَ في أشياءَ تكسبهمْ حمدا

وعلى كل حال فالافتخار بالسخاء أجمل من الافتخار بضدّه، كما افتخر الَّذي يقول في شعره:

وإنَّا لنجفو الضَّيف من غير عُسرةٍ
مخافَةَ أن يُعزى بنا فيعود

ولو كان هذا الشاعر صرف همَّته إلى ذكر مكرمة عن نفسه هذا الصرف قد أبرَّ على كلّ من ذكرنا شعره.