كتاب الزهرة/الباب الثالث والعشرون من غلبه هواه على الصبر


الباب الثالث والعشرون مَنْ غلبهُ هواهُ علَى الصَّبر

   مَنْ غلبهُ هواهُ علَى الصَّبر صبرَ لمنْ يهواهُ علَى الغدرِ

هذه الحال ليست جارية على الترتيب فيقع لصاحبها عذر أو تأنيب لأنها حال قد تجاوزت حدَّ العشق برضى المحب بكل فعل المحبوب وهو صاح عنها فأوقع له اختياره الرضى بها والمحبة معها ثمَّ تبعتها أشياء من غير جنسها إلاَّ أنَّها ليست هتكاً لحجاب المودة فاجتمعت معها وهذه حال وقعت بالمحبوب بعد أن وقع الرضى من محبة بخلافها ثمَّ وقع السخط منه بحدوثها والتباعد من صاحبها ثمَّ عرضت الحيرة الَّتي لا تمييز معها فردَّته بالصُّغر إلى ما لا يرضاه وصيَّرته على ما كان قبل وقوعه يخشاه وبين الرضى الاختياري وبين الرضى الاضطراري بَوْنٌ بعيد.

قال ذو الرمة:

أجِدَّكَ قد ودَّعتَ ميَّةَ إذْ نأتْ
فولَّى بقايا الحبِّ إلاَّ أمينُها
وإنِّي لطاوٍ سرَّها موضعَ الحشا
كُمونَ الثَّرى في عهدةٍ يستبينُها
لئنْ زُوِّجتْ ميٌّ خُنيساً لطالَ ما
بغَى منذرٍ ميّاً خليلاً يهينُها
تزينُكَ إنْ جرَّدتها من ثيابِها
وأنتَ إذا جرِّدتَ يوماً تشينُها
ولمَّا أتاني أنَّ ميّاً تزوَّجتْ
خُنيساً بكى سهلُ المِعَى وحزونُها
فيا نفسُ ذلِّي بعدَ ميٍّ وسامحِي
فقدْ سامحتْ ميٌّ وذلَّ قرينُها

وقال عمر بن نجا:

أتَى البخلُ دونَ الجودِ مِنْ أُمِّ واصلٍ
وضنَّ علينا بالعطاءِ ضنينُها
فللهِ درِّي يومَ مالتْ مودَّتي
إليها ولم ترجعْ إليَّ يمينُها
وما خُنتها إنَّ الخيانةَ كاسمِها
ولا نصحتْ نفسي لنفسٍ تخونُها
مددتِ حبالاً منكِ حتَّى تقطَّعتْ
إليَّ وما خانَ الحبالَ متينُها
فكيفَ أشعتِ السِّرَّ أُمَّ واصلٍ
وما أخلصَ الأسرارَ إلاَّ أمينُها

وقال آخر:

أكرُّ إلى ليلَى وأحسبُ أنَّني
كريمٌ علَى ليلَى وغيري كريمُها
فأصبحتُ قد أجمعتُ هجراً لبيتِها
وفي العينِ مِنْ ليلَى قذًى ما يريمُها
لئنْ آثرتْ بالودِّ أهلَ بلادِها
علَى نازحٍ مِنْ أرضِها لا يريمُها
وما يستوِي مَنْ لا يرَى غيرَ لمَّةٍ
ومَنْ هوَ عندَها لا يريمُها

وقال بعض الأعراب:

شكوتُ إلى رفيقيَّ الَّذي بي
فجاءانِي وقد جمعَا دواءَ
وجاءا بالطَّبيبِ ليكوِياني
وما أبغِي عدِمتُهُما اكتواءَ
فلو ذهبا إلى ليلَى فشاءتْ
لأهدتْ لِي منَ السَّقمِ الشِّفاءَ
تقولُ نعمْ سأقضِي ثمَّ تلوِي
ولا تنوِي وإنْ قدرتْ قضاءَ
أصارمةٌ حبالَ الوصلِ ليلَى
لأخضعَ يدَّعي دونِي ولاءَ
ومؤثرةُ الرِّجالِ عليَّ ليلَى
ولم أُؤثرْ علَى ليلَى النِّساءَ
ولو كانتْ تسوسُ البحرَ ليلَى
صدرْنا عن شرائعهِ ظماءَ
فمرَّا صاحبيَّ بدارِ ليلَى
جُعلتُ لها وإنْ بخلتْ فداءَ
أريتُكَ إنْ منعتَ كلامَ ليلَى
أتمنعُني علَى ليلَى البكاءَ

ولبعض أهل هذا العصر:

وتزعم للواشين أني فاسدٌ
عليك وأني لستُ مما عهدتني
وما فسدت لي يشهدُ اللهُ نيةٌ
ولكنما استفسدتني فأتهمتني
غدرتَ بعهدي عامداً وأخفتني
فخفت ولو آمنتني لأتمنتني
إلى الله أشكو لا إليك فطالما
شكوت الذي ألقى إليك فزدتني

وله أيضاً:

أُفوِّضُ أسبابي إلى اللهِ كلَّها
وأقنعُ بالمقدورِ فيها وأرتَضي
واسمحُ بالتَّفويضِ حتَّى إذا انتهَى
ضميري إلى ما بينَنا لم أُفوِّضِ
وباللهِ لو خيِّرتُ بينكَ غادراً
وبينَ كِلا المُلكينِ تخييرَ مُقتضِ
رضيتُكَ حظّاً منهما غيرَ أنَّني
بهذا الَّذي ترضاهُ لي غيرُ مرتضِ

وله أيضاً:

أبتْ غلَباتُ الشَّوقِ إلاَّ تقرُّبا
إليكَ ونأيُ العذلِ إلاَّ تجنُّبا
عليَّ رقيبٌ منكَ خالٍ بمهجَتي
إذا أنا سهَّلتُ اطِّراحكَ صعَّبا
فها أنذا وقفٌ عليكَ مجرَّبٌ
إذا ما نبَا بي مركبٌ رمتُ مركبَا
وما كانَ صدِّي عنكَ صدَّ ملالةٍ
ولا كانَ إقبالي عليكَ تطرُّبا
ولا كانَ ذاكَ العذلُ إلاَّ نصيحةً
ولا ذلكَ الإغضاءُ إلاَّ تهيُّبا
ولا الهجرُ إلاَّ فرطُ منٍّ ولا الرِّضى
بلا سببٍ إلاَّ اشتياقاً معذَّبا
ومَنْ يُمنعِ العذب الزُّلال ويمتنعْ
منَ الشُّربِ مِنْ سؤرِ الكلابِ تغضُّبا
خليقٌ إذا لمْ يستطعْ شربَ غيرهِ
وخافَ المنايا أنْ يذلَّ فيشربا
إذا المرءُ لمْ يُقدرْ لهُ ما يريدُهُ
أرادَ الَّذي يُقضى لهُ شاءَ أمْ أبى

وأنشد أعرابي ببلاد نجد:

فيا عجبَا مِنْ صونيَ الودَّ في الحشا
لمنْ هوَ فيما قد بدَا لي واترُ
ومِنْ طلبِي بالودِّ ثأري ولم يكنْ
ليُدركَ تبلاً بالمودَّةِ ثائرُ
فيا عجبَا منِّي ومنها تُضيعُني
وأحفظُها هذا اختلافُ السَّرائرِ
ويا عجبَا كيفَ اتَّفقنا فناصحٌ
مصرٌّ ومطويٌّ علَى الغشِّ غادرُ

وقال البحتري:

مغتربُ الدَّارِ إنْ أرضهُ أجدْ
مسافةَ النَّجم دونَ مُغتربهْ
راجعتهُ القولَ في ملاطفةٍ
أهربُ مِنْ صدقهِ إلى كذبهْ

وقال آخر:

سأعرضُ بالشَّكِ دونَ اليقينِ
حتَّى أُحسِّنَ غيرَ الحسنْ
وأقنعُ إذْ خُنتني مُعلناً
بقولكَ في السِّرِّ لي لم أخنْ

وقال مسلم بن الوليد:

سلوتُ وإنْ قالَ العواذلُ لا يسلو
وأقسمتُ لا يرقَى إلى سمعيَ العذلُ
أجارتنا ما في فراقكِ راحةٌ
ولكنْ جرَى قولٌ فأنتِ بهِ بَسلُ
أمَا واغتيالِ الدَّهرِ خلَّةَ بينَنا
لقد غالَ إلفاً ساكناً بهمُ الشَّملُ
فما بِي إلى مستطرفِ العيشِ وحشةٌ
وإنْ كنتُ لا مالٌ لديَّ ولا أهلُ
تتالَى بكِ الأمرُ الَّذي تكرهينهُ
إلى الحلمِ بالعُتبَى وقد سبقَ الجهلُ
عليكِ سلامٌ مِنْ أخٍ كانَ صاحباً
بهِ تنزلُ الشَّكوى ويحتملَ الثِّقلُ
إذا تمَّ حالٌ وهو غايةُ مَنْ بكى
حلا بعدكِ العيشُ الَّذي قلتُ لا يحلُو

وهذا كلام يستغني قارئه بقراءته عن التَّنبيه على تناقضه واستحالته ولا عذر في ذلك إلاَّ غلبة الحيرة على قائله وفي دون هذه الحال ما يذهل العقول ويطيش الألباب وليس العجب ممَّن أخطأ في هذا وإنَّما العجب ممَّن أصاب.

وقال علي بن محمد العلوي:

لياليَ يألفُكَ الغانياتُ
وكنَّ وكنتَ صغيراً صغارا
وقد كنتَ تملكُ ألحاظهنَّ
فصرنَ يُعرنكَ لحظاً مُعارا
فأصبحنَ أعقبنَ بعدَ الودادِ
بعاداً وبعدَ السُّكونِ النَّفارا
لا غرَّني غررُ الحادثاتِ
وقد كنتُ أوسِعُهنَّ اغترارا

وقال البحتري:

أَخفي هوًى في الضُّلوعِ وأُظهرُ
وأُلامُ في كمدٍ عليكِ وأُعذرُ
وأراكِ خنتِ على النَّوى مَنْ لم يخنْ
عهدَ الهوَى وهجرتِ مَنْ لا يهجرُ
وطلبتُ منكِ مودَّةً لم أُعطَها
إنَّ المعنَّى طالبٌ لا يظفرُ
هل دَينُ عَلوةَ يُستطاعُ فيُقتضى
أوْ ظلمُ عَلوةَ يستفيقُ فيُقصِرُ

وقال أيضاً:

تمادَى بها وجدِي وملِّكَ وصلَها
خليُّ الحشا في وصلِها جدُّ زاهدِ
وما النَّاسُ إلاَّ واجدٌ غيرُ مالكٍ
لِما يبتغِي أوْ مالكٌ غيرُ واجدِ
سقَى الغيثَ أكتافَ الحِمى مِنْ محلَّةٍ
إلى الحِقفِ مِنْ رملِ اللِّوى المُتقاوِدِ

وقال آخر:

طلبتُ أخاً محضاً صحيحاً مسلَّماً
نقيّاً منَ الآفاتِ في كلِّ موسمِ
لأمنحَهُ ودِّي فلم أُدركِ الَّذي
طلبتُ ومَنْ لي بالصَّحيحِ لمسلمِ

وقال الأحوص:

قد ودَّعتْكَ وداعَ الصَّارمِ القالي
نعمْ وداعُ بناءٍ غيرَ إذلالِ
وعادَ ما ودَّعتني مِنْ مودَّتها
بعدَ المواثيقِ كالجاري منَ الآلِ
فقلتُ لمَّا أتاني أنَّها ختَرَتْ
وطاوعتْ قولَ أعدائِي وعذَّالي
إنْ تصرمِ الحبلَ أوْ تُرضِ الوشاةَ بنا
أوْ تُمسِ قد رضيَتْ منَّا بأبدالِ
فقد أراها وما تبغِي بنا بدَلاً
ولا تطيعُ بنا في سالفِ الحالِ
أبقَى لها الدَّهرُ مِنْ ودِّي الَّذي عهدتْ
أمرَينِ لم يبرَحا منِّي علَى بالِ
شوقاً إليها إذا بتَّتْ مناسبَها
يوماً وأبصرتُ منها رسمَ أطلالِ
وحفظَ ما استودعتْ عندِي وقد زعمتْ
أنْ ليسَ يحسنُ حفظَ السِّرِّ أمثالِي
إنْ كانَ يُسلِي فؤادِي ما أتيتِ بهِ
فلا رجعتُ إلى أهلي ولا مالي
جُهداً لأُعلمَها الودَّ الَّذي عهدتْ
عندِي وأكَّدتُ أقوالاً بأقوالِ

وقال أيضاً:

متى ما تُحلِّي مِنْ ذُرى الأرضِ تلعةً
أزركِ ويكثرْ حيثُ كنتِ تردُّدي
وإنْ كدتُ شوقاً موهناً وذكرتُها
لأرجعُ بالرَّوحاءِ عَودِي علَى بَدِي
وقلتُ لعينِي قد شقيتُ بذكرِها
فجودِي بماءِ المقلتينِ أوِ اجمُدي
أجدَّكَ تنسَى أُمَّ عمرٍو وذكرُها
شعاركَ دونَ الثَّوبِ في كلِّ مرقدِ
فإنْ تتَّبعها تُغضِ عيناً علَى القذَى
وإنْ تجتنبْها بعدَ ما نلتَ تكمدِ

أمَّا من دعته الضرورة إلى الصبر على من غدر به فلا مدخل لنا في أمره وأما من يتمنَّى لإلفه أن يميل إلى حبِّ غيره ليكون ذلك عاطفاً له عليه وداعياً له إلى وصله فهو من الحمق في محلٍّ قلَّ ما يتهيَّأ مثله وما أحسب من هذه صفته يكون إلاَّ داخلاً في جملة من وقعت لهم المحابُّ لتنفيذ ضرب من الشَّهوات.

وقال بعض المحدثين:

ولمَّا بدا لي أنَّها ما تحبُّني
وأنَّ فؤادِي ليسَ عنها بمُنسلِي
تمنَّيتُ أنْ تهوَى سوايَ لعلَّها
تذوقُ حراراتِ الهوَى فترقُّ لي

وأحس من هذا ومن كل ما تقدمه قول الآخر:

واللهِ لا نظرتْ عيني إليكَ ولا
سالتْ مساربُها شوقاً إليكَ دمَا
إلاَّ رياءً لدفعِ القولِ عنكَ ولا
نازعتُكَ الدَّهر إلاَّ مكرهاً كلمَا
إنْ كنتَ خنتَ فلمْ أُضمرْ خيانتكمْ
واللهُ يأخذُ ممَّن خانَ أوْ ظلمَا
سماحةً لمحبٍّ خانَ صاحبهُ
ما خانَ قطُّ محبٌّ يعرفُ الكرمَا

هذا البائس قد ألزم نفسه قطيعة من غدر به وصبَّرها على المكروه كله إلاَّ أنَّه مع ذلك غير مضيع لما في ذمَّته من رعاية صاحبه بنفي الظُّنون عنه وهذا أكثر ما يمكن من الرعاية أو أتمُّ ما يتهيَّأ من الصِّيانة لمن بادر بالخيانة ولمن ضيَّع حقوق الأمانة ومن منع نفسه من طاعة الاشتياق وهو بعد مقيم تحت راية الإشفاق فقد قدر على أمر عظيم وظفر بحظ جسيم.

وقال جميل:

أتَوْني فقالُوا يا جميلُ تبدَّلتْ
بُثينةُ أبدالاً فقلتُ لعلَّها
وعلَّ حبالاً كنتُ أحكمتُ عقدَها
أُتيحَ لها واشٍ رفيقٌ فحلَّها

وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي قال: حدثنا عبد الملك بن شبيب قال: حدثنا مشيختنا قال: بينما الحكم بن عمر الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلّم يسير بخراسان في بعض البلاد وهو واليها إذ سمع في بعض غياطلها رجلاً يغنِّي بهذين البيتين:

تعزَّ بصبرٍ لا وجدِّكَ لا تُرى
بِوادِي الحصى أُخرى اللَّيالي الغوابرِ
كأنَّ فؤادِي مِنْ تذكُّرهِ الحمى
وأهلَ الحمى يهفو بهِ ريشُ طائرِ

فوقف وقال عليَّ بالرجل فأُتي به فقال ويحك ما أنت؟ قال رجل من أهل نجد من بني عامر كنت في الدَّهر من بني عامر فقال: هل لك في الحمى؟ فقال ما لي إلى ذلك سبيل ولي بالبلاد أهل وولد قال فإني أحمل معك أهلك وولدك قال فكيف بالمعاش لا حاجة لي في هذا قال ما من ذلك بدّ وأمر به أن يُحمل قال فاضطرب في أيديهم حتَّى مات وهذا من أعجب ما سمعت في معناه ولا أعرف لهذا الرجل عذراً في الفرار من الموضع الَّذي يهواه إلاَّ أن يكون قد اتَّصل به عن محبوبه من الغدر ما لا تنبسط على مثله يد الصَّبر فكان المقام على الفراق والتَّجلُّد على دواعي الاشتياق أهون عليه من مشاهدة ما لا طاقة له به عند التَّلاق.