كتاب الزهرة/الباب الثامن والخمسون ذكر التزهيد فيما يفنى والترغيب فيما يبقى


الباب الثامن والخمسون ذكر التزهيد فيما يفنى والترغيب فيما يبقى

بلغنا أن أمية بن أبي الصلت أُغمي عليه في مرضه الَّذي مات فيه، فأفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما هأنذا لديكما، لا ثري فأعتذر ولا ذو قوة فأنتصر. ثمَّ أُغمي عليه ثمَّ أفاق وهو يقول: لبيكما لبيكما لا مال لي يفتديني ولا عشيرة تحميني، ثمَّ قال:

ليتني كنت قبل ما قد بدا لي
في قِلال الجبال أرعى الوعولا
كل عيش وإن تطاولَ يوماً
صائرٌ مرَّه إلى أن يزولا
فاجعل الموت نُصب عينيك واحذرْ
غولة الدَّهر إن للدهر غولا

أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لنافع بن لقيط القفعسي:

اذهبْ إليك فليس يعلمُ عالمٌ
من أين يُجمعُ خطُّه المكتوبُ
يسعى ويأملُ والمنيَّةُ خلفه
يوفي الأكام بها عليه رقيبُ
يسعى الفَتَى لينال أقصى سعيه
هيهات ذاك ودون ذاك خطوبُ
لا الموتُ مُحتقرُ الصغير فعادلٌ
عنه ولا كِبرُ الكبير مهيبُ
فلئن بُليتُ لقد عبرتُ كأنني
غصنٌ تفيّأهُ الرياح رطيبُ
وكذاك حقّاً من يعمرُ يبلهِ
كرّ الزَّمان عليه والتقليبُ
حتَّى تعود إلى البلى وكأنه
بالكفّ أفوقُ ناصلٍ مغصوبُ
مرط الفداد فليس فيه مصنّع
لا الريش ينفعه ولا التعقيبُ

وقال لبيد:

المرءُ يأملُ أن يعيش وطول عيشٍ ما يضرُّه

تفنى بشاشتُه ويبقى حلوِ العيش مُرُّه

وتصرّف الحالات حتَّى لا يرى شيئاً يسرُّه

كم شامتاً بي إن هلكتُ وقائلاً لله درُّه

وقال أيضاً:

بلينا وما تَبْلى النجومُ الطوالعُ
ويبقى الخيالُ بعدنا والمصانعُ
وما النَّاس إلاَّ كالديار وأهلها
بها يومَ حلّوها ونغدو بلاقعُ
وما المرء إلاَّ كالشهاب وضوؤهُ
يحورُ رماداً بعد إذْ هو ساطعُ
وما المال والأهلون إلاَّ ودائعٌ
ولا بدَّ يوماً أن تُردَّ الودائعُ
أُخبَّر أخبارَ القرون الَّتي مضت
أؤود كأني كلَّما قمتُ راكعُ
أليس ورائي إن تراخت منيتي
لُزومُ العصا تُحنى عليه الأضالعُ
فأصبحتُ مثلَ السَّيف أخلق جفنَه
تقادُم عهد القين والنصل قاطعُ
أعاذِلَ ما يُدريك إلاَّ تظنناً
إذا رحل السُّفّار من هو راجعُ

وذكر ابن الأعرابي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما في شعر العرب أحكم من شعر بعض العابدين:

لقد غرَّتْ الدُّنيا رجالاً فأصبحوا
بمنزلة ما بعدها مُتحوَّلُ
فساخِطُ أمر لا يُبدَّلُ غيرهُ
وراضٍ بأمرٍ غيرَه سيُبدَّلُ
وبالغُ أمرٍ كان يأملُ دونه
ومُخْتلجٌ من دون ما كان يأملُ

وقال آخر:

يا موتُ ما أقساك من نازلٍ
تنزل بالمرءِ علَى رغمهِ
تستخرج العذراء من خدرها
وتأخذ الواحد من أمّهِ

وقال الفرزدق:

أخاف وراء القبر إن لم يُعافني
أشدَّ من القبرِ التهاباً وأضيقا
لقد خاب من أولاد آدم من مشى
إلى النَّار مغلولَ القِلادةِ أزرقا

وقال الخليل بن أحمد:

وقبلكَ داوى الطبيبُ المريضَ
فعاشَ المريضُ ومات الطبيبُ
فكن مستعدّاً لداعي الفنا
فإن الَّذي هو آتٍ قريبُ

وقال التستري:

ويلٌ لمن لمْ يرحَم الله
ومن تكونُ النّارُ مثواهُ
يا غفلتي من كل يومٍ مضى
يُذكرني الموتَ وأنساهُ
كأنّما قد قيل في مجلسٍ
قد كنتُ آتيهِ وأغشاهُ
صار البشيريُّ إلى ربِّهِ
يرحمُنا الله وإياهُ

وقال محمود الورَّاق:

بقّيت مالك ميراثاً لوارثه
فليت شعري ما بقّى لك المالُ
القوم بعدك في حالٍ يسرّهمُ
فكيفَ بعدهمُ حالتْ بك الحالُ
ملّوا البكاءَ فما يبكيك من أحدٍ
واستحكم القيلُ في الميراث والقالُ
ألْهتهُمُ عنك دنيا أقبلتْ لهمُ
وأدبرت عنك والأيام أحوالُ

وقيل للمؤيد مات الملك فقال: كان أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه أمس، فأخذه أبو العتاهية فقال:

بكيتُكَ يا أخي بدموعِ عينيْ
فما أغنى البكاءُ عليكَ شَيَّا
وكانت في حياتك لي عِظاتٌ
وأنتَ اليومَ أوعظُ منكَ حيّا

وقال أبو نُواس:

أيَّة نارٍ قدحَ القادحُ
وأيَّ حكم بلغَ المازحُ
لله درّ الشَّيْب من واعظٍ
وناصح لو قُبل الناصحُ
أغدُ فما في الشَّيْب أغلوطةٌ
ورُحْ بما أنت له رائحُ
من يتق الله فذاك الَّذي
سيق له المُتّجرُ الرابحُ
لا يجتلي الحوراءَ في خدرِها
إلاَّ فتًى ميزانه راجحُ
فاسمُ بعينيك إلى نسوةٍ
مهورُهنَّ العملُ الصالحُ

وقال أيضاً:

إذا امتحن الدُّنيا لبيبٌ تكشَّفت
له عن عدوٍ في ثياب صديقِ
وما النَّاس إلاَّ هالكٌ وابن هالكٍ
وذو نسبٍ في الهالكين عريقِ

وقال أبو دؤاد الإيادي:

وكلُّ حصنٍ وإن طالت سلامتُهُ
يوماً ستدركه النكباءُ والحوبُ
كل امرئٍ بلقاء الموت مُرْتهنٌ
كأنه غرضٌ للموتِ منصوبُ

وقال حاتم طيّ:

وما أهل طود مكفهرّ حصونهُ
من الموت إلاَّ مثلُ من حلَّ بالصحرِ
وما دارع إلاَّ كآخرَ حاسر
وما مُقترٌ إلاَّ كآخرَ ذي وَفْرِ
تنوطُ لنا حُبَّ الحياةِ نفوسُنا
ويسري إلينا الموت من حيث لا ندري

وقال آخر:

لعمرك ما الدُّنيا بدار إقامةٍ
ولو عَقلوا كانوا جميعاً علَى رجلِ
فما تبحث الساعات إلاَّ عن البلى
ولا تنطوي الأيام إلاَّ علَى ثُكلِ

وقال مُضرّس بن ربَعي:

وما هي إلاَّ ليلةٌ ثمَّ يومها
وحولٌ إلى حولٍ وشهرٌ إلى شهرِ
منايا يُقرِّبنَ الصحيحَ من البِلى
ويُدْنينَ ذا الجسم الصحيح من القبرِ
ويتركن أزواجَ الغَيورِ لغيرهِ
ويقسمنَ ما يحوي الشحيحُ من الوفرِ

وقال آخر:

وما أهل الحياة لنا بأهلٍ
ولا دار الفناء لنا بدارِ
وما أموالنا إلاَّ عَوارٍ
سيأخذها المعير من المُعارِ

وقال آخر:

وما الدُّنيا لصاحبها بدارٍ
وما حظُّ البنان من الخضاب
غَناءٌ عن مؤمله قليلٌ
دنوّ اللاّمعات من السّراب
وما أدري وإن سافرت يوماً
علَى رجع الظنون مَتَى إيابي

وقال أبو بكر العَرْزمي:

نُراعُ إذا الجنائز قابلتنا
ونَسكنُ حين تخفى ذاهباتِ
كروعة ثلّةٍ لمُغارِ سبعٍ
فلمّا غاب عادت راتعاتِ

وقال آخر:

اسمع فقد آذنك الصوتُ
إن لم تبادر فهو الفوتُ
نِلْ كلَّما شئت وعش آمناً
آخرُ هذا كلِّهِ الموتُ

وهذا مأخوذ من قول النابغة:

وعمرو بنُ دُهْمانَ الهُنيدةَ عاشها
وتسعينَ عاماً ثمَّ قُوّم فانصاتا
فعادَ سوادُ الرأس بعد بياضه
وعاجله شرْخُ الشَّبابِ الَّذي فاتا
وعاجله حلم أصيلٌ وقوَّةٌ
ولكنه من بعد ذا كُلِّهِ ماتا

وذكر عن الأصمعي أنَّه قال: أصبت حفراً حول الحيرة فإذا فيه رجلٌ عليه حلتان وإذا عند رأسه لوحٌ مكتوب فيه أنا عبد بن حيّان بن بقيلة:

حلبت الدَّهر أشطره حياتي
ونلتُ من المنى فوق المزيدِ
وكافحتُ الأمورَ وكافحتني
ولم أخضعْ لمعضلةٍ كؤودِ
وكدتُ أنالُ في الشرف الثريّا
ولكنْ لا سبيلَ إلى الخلودِ

وقال آخر:

استعدّي يا نفسُ للموت واسعَيْ
لنجاةٍ فالحازمُ المستعدُّ
قد تبينتُ أنَّه ليس للحيِّ خل
ودٌ ولا من الموت بدُّ
أيُّ ملكٍ في الأرض أوْ أيُّ حظٍّ
لامرئ حظه من الأرض خُلْدُ
كيف يهوى امرء لذاذة أيّا
مٍ عليه الأنفاسُ فيها تعدُّ

ولعمري لقد طَرِفَ إسماعيل بن جعفر حيث يقول:

أصبحتِ الدُّنيا لنا عِبرةً
والحمدُ لله علَى ذالكا
اجتمعَ الناسُ علَى ذَمِّها
وما نرى منهمْ لها تاركا