الباب الثاني والأربعون نحول الجسد من دلائل الكمدأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الثاني والأربعون نحول الجسد من دلائل الكمد
أمَّا الدَّلالة على صحَّة هذا القول من جهة الطِّبِّ فهي إنَّ الحرارة المتولِّدة من الحزن تنحاز إلى القلب من سائر أعضاء البدن ثمَّ تتصاعد إلى الدِّماغ فتتولَّد بخاراتٍ رديَّةً فإن طاقتها الطَّبيعة بالقوَّة الغريزيَّة أذابت تلك البخارات الرَّديَّة فأجرتها دموعاً وربَّما أضرَّ كثرة جريانها بالمجاري فأدماها فجرى الدَّم مجرى الدَّمع وهكذا تذيب تلك القوى البخارات المتولِّدة في الدِّماغ في كمون الحرارة لما يعرض للرَّأس من حرٍّ وبردٍ فتجريه من الأنف زكاماً فتذهب غائلته ولو لم تذبه وتجره من الأنف صار كيموساً غليظاً ومادَّة منصبةً إلى بعض الأعضاء الرَّئيسية فحينئذٍ تتلف أوْ تولِّد علَّةً غليظةً فكذلك الدُّموع إن لم تطق تذويبها القوى الطَّبيعيَّة واشتغلت عنها بمدافعة ما هو أخوف على النَّفس منها صارت تلك البخارات كيموساً غليظاً فولَّد أمراً عظيماً وإمَّا أن يستقرَّ في الدماغ فيفسد ما جمع فيبطل الذّكر ويفسد الفكر ويهيج التَّخييلات المستحيلات وذلك هو الجنون بعينه وربَّما فسدت منه كرَّةً أو كرَّتين فيفسد بفسادها ما كان مستقيماً بصلاحها وشرح ذلك يطول وليس من جنس ما ابتدأناه فيجب علينا أن نشرح منه ما أجملناه وربَّما انحدر ذلك الكيموس عن الدماغ إلى القلب فهتك بعض الحجب أوْ جميعها وكان منه حينئذٍ التَّلف لا محالة والله أعلم وربَّما انحدر إلى الكبد فمنع شهوة الطَّعام والشَّراب فحينئذٍ يكون نحول الجسم وضعف القوَّة ولقد أصاب كلَّ الإصابة على الإصابة حيث يقول:
عجائبُ الحبِّ لا تفنى وأوَّلها
ممَّنْ تحبُّ بتكذيبٍ وإنكارِ
ماءُ المدامعِ نارُ الشَّوقِ تُحدرهُ
فهلْ سمعتَ بماءٍ فاضَ من نارِ
لأنَّ هذا هو الَّذي قدَّمنا ذكره من أنَّ الحرارات هي المولِّدة لتلك البخارات الَّتي يحدث الدَّمع منها بإذابة الحرارة الغريزية لها وقد ذكرت الشعراء جملاً من أن فيض الدمع أروح من كمونه ولم يدلُّوا على سبب ذلك ولا أحسبهم وقفوا عليه ومن أقربهم وصفاً له الَّذي يقول:
كتمتُ الهوَى حتَّى بدا كتَمانهُ
وفاضَ فنمَّتْهُ عليَّ المدامعُ
ولو لمْ يفضْ دمعي لعادَ إلى الحشا
فقطَّعَ ما تُحنى عليهِ الأضالعُ
وقال بعض الأعراب:
يقولونَ لا تُنزفْ دموعكَ بالبُكا
فقلتُ وهلْ للعاشقينَ دموعُ
لئنْ كانَ أبقى لي التَّشوُّقُ قطرةً
لهنَّ إذنْ من عاشقٍ لمُضيعُ
أظنُّ دموعَ العينِ تذهبُ باطناً
إلى القلبِ حتَّى انصاعَ وهو صديعُ
وقال عمرو بن متبعة الرقاشي:
تضيقُ جفونُ العينِ عنْ عبراتها
فتفسحُها بعدَ التَّجلُّدِ والصَّبرِ
وغُصَّةِ صدرٍ أظهرتْها فرفَّهتْ
حرارةَ حزنٍ في الجوانحِ والصَّدرِ
وقال آخر:
سأبكي وما لي عبرةٌ من معوَّلٍ
لديكِ وما لي غيرُ حبِّكِ من جُرمِ
لعلَّ انسكابَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً
من الوجدِ أوْ يشفي الفؤادَ منَ السُّقمِ
وظنِّيَ أنْ لا يذهبَ الحزنُ بالبكا
عليكِ وأن أزدادَ كلْماً علَى كلْمِ
وقال ذو الرمة:
فوالله ما أدري أجوْلانُ عبرةٍ
تجودُ بها العينانِ أحرى أمِ الصَّبرُ
وفي هملانِ العينِ من غُصَّةِ الهوَى
رواحٌ وفي الصَّبرِ الجلادةُ والأجْرُ
وقال الفرزدق:
ألمْ ترَ أنِّي يومَ حرِّ سُويقةٍ
بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليا
خليلٌ دعا والرَّملُ بيني وبينهُ
فأسمعني سقياً لذلكَ داعيا
وكانَ جوابي أنْ بكيْتُ صبابةً
وفدَّيْتُ من لوْ يستطيعُ فدانيا
وقلتُ لها إنَّ البكاءَ لَراحةٌ
به يشتفي من ظنَّ أن لا تلاقيا
وقال ذو الرمة:
أمِنْ حذرِ الهجرانِ قلبكَ يجمحُ
كأنَّ فلوّاً بينَ حِضْنيكَ يرمحُ
أمنزلتَيْ ميٍّ سلامٌ عليكما
علَى النَّأيِ والنَّائي يودُّ وينصحُ
وإنْ كنتُما قد هجتُما راجعَ الهوَى
لذي الشَّوقِ حتَّى ظلَّتِ العينُ تفسحُ
أجلْ عبرةٌ كادتْ لفُرقانِ منزلٍ
لميَّةَ لو لمْ تُسهلِ العينُ تذبحُ
وقال أيضاً:
خليليَّ عوجا من صدورِ الرَّواحلِ
بجُمهورِ حزْوى فأبكيا في المنازلِ
لعلَّ انحدارَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً
من الوجدِ أو يشفي نجيَّ البلابلِ
دعاني وما داعي الهوَى من بلادها
إذا ما نأتْ خرقاءُ عنِّي بغافلِ
وما يومُ خرقاءَ الَّذي فيهِ نلتقي
بنحسٍ علَى عيني ولا متطاولِ
وإنِّي لأُنحي الطَّرفَ من نحوِ غيرها
حياءً ولو طاوعتهُ لم يُعادلِ
إذا قلتُ ودِّعْ وصلَ خرقاءَ واجتنبْ
زيارتها تخلق حبالُ الوسائلِ
أبتْ ذكرٌ عوَّدْنَ أحشاءَ قلبهِ
خفوقاً وقضَّاتُ الهوَى في المفاصلِ
ولقد أحسن سابق اليزيدي في قوله:
وقد رابني من فعلِ عينيَ أنَّها
إذا ذُكرتْ سُعدى اعتراني جُمودُها
وفي الدَّمعِ لو جادتْ به العينُ شاهدٌ
عليها فلمْ يشهدْ لنفسي شهودُها
ولبعض أهل هذا العصر:
يا من إذا صدَّ لم أُظهرْ له جزَعا
لا تحسبنِّي علَى الهجرانِ ذا جلَدِ
ما يمنعُ الدَّمعَ أن تجري غواربهُ
إلاَّ شماتةُ من قدْ كانَ ذا حسدِ
فيضُ الدُّموعِ وإنْ تمَّتْ بوادرُها
أشفى لمنْ عالجَ البلوى منَ الكمدِ
وقال آخر:
نزفتُ دمعي وأزمعْتُ الرَّحيلَ غداً
فكيفَ أبكي ودمعُ العينِ منزوفُ
واسَوْأتي من عيونِ العاشقينَ غداً
إذا رحلتُ ودمعُ العينِ مكفوفُ
هذا البائس يعتذر من ذهاب دموعه ولو عرف علَّة ذهابها لكان محتاجاً إلى الاعتذار لو دامت من دوامها.
وأحسن من هذا قول قيس بن ذريح:
تُشوِّقني ذكرى إذا ما ذكرتُها
وكمْ عرضُ أرضٍ دونها وسماءُ
ومن عبراتٍ تعتريني أكفُّها
ومن زفراتٍ ما لهنَّ فناءُ
ومن قولها إنَّ القُوى قد تقطَّعتْ
وهلْ لقُوًى لا تستجدُّ بقاءُ
ومن أنَّها باتتْ ولم تدرِ ما الَّذي
لها عندنا من خلَّةٍ وصفاءُ
ومن أريحيَّاتِ الصِّبى عندَ ذكرها
ولمَّاتِ شوقٍ ما بهنَّ خفاءُ
فلا حبَّ حتَّى يلصقَ العظمُ بالحشا
ولا وجدَ حتَّى لا يكونَ بكاءُ
وقد لطف أبو تمام في هذا المعنى حيث يقول:
وإذا فقدْتَ أخاً ولم تفقدْ لهُ
دمعاً ولا صبراً فلستَ بفاقدِ
أفلا ترى إلى إزرائه على الدَّمع وتقصيره بأهله وإخباره أنَّ من قويت حاله انقطع دمعه ونحل جسمه.
ولقد أحسن الَّذي يقول:
قدْكَ فلا دمعٌ ولا صبرُ
ربعُ الهوَى من أهلهِ قفْرُ
عمرُ الفتَى في كلِّ لذَّاتهِ
فإنْ نأتْ عنهُ فلا عمرُ
وقال محمد العلوي:
أبقى الهوَى منهُ جسماً كالهواءِ ضنًى
لقدْ تنسَّمَ منهُ وهوَ مفؤودُ
أنستُ بالذِّكرِ منها والسُّهادِ لهُ
أعجبْ بهِ من مسيءٍ وهو مورودُ
وقال قيس بن الملوح:
فأنتِ الَّتي إنْ شئتِ أشقيتِ عيشتي
وإنْ شئتِ بعدَ اللهِ أنعمتِ باليا
وأنتِ الَّتي ما من صديقٍ ولا عدًى
رأى نضْوَ ما أبقيت إلاَّ رثى ليا
وقال البحتري:
ألا هلْ أتاها بالمغيبِ سلامي
وهل خبرَتْ وجدي بها وغرامي
وهلْ علمتْ أنِّي ضنيتُ وأنَّها
شفائيَ من داءِ الضَّنى وسقامي
فداؤُكِ ما أبقيتِ منِّي فإنَّهُ
حُشاشةُ جسمٍ في نحولِ عظامي
وقال ماني:
ها أنا ذا يُسقطني للبِلى
عن فرشتي أنفاسُ عوَّادي
لو يحسدُ السِّلكُ علَى دقَّةٍ
حقّاً لأمسى بعضَ حسَّادي
وقال أيضاً:
ومُدنفٍ زادَ في النُّحولِ منِ ال
وجدِ إلى مثلِ دقَّةِ الألِفِ
يشاركُ الطَّيرَ في النَّحيبِ ولا
يشركهُ في النُّحولِ والقصفِ
وقال أيضاً:
أما ترَيْني ناحلَ الجسمِ
أصيرُ من همٍّ إلى همِّ
أُنقلُ من ثوبٍ إلى دونهِ
حتَّى كأنِّي بدنُ الكُمِّ
ولقد أحسن الَّذي يقول:
غابوا فأضحى بدني بعدهُمْ
لا تبصرُ العينُ لهُ فيَّا
بادى وجه إتلافهِمْ
إذا رأوْني بعدهُمْ حيَّا
واخَجلتا منهمْ ومن قولهمْ
ما ضرَّكَ الفقدُ لنا شيَّا
وقال آخر:
شِعْرُ ميتٍ أتاكَ عن لفظِ حيٍّ
صارَ بينَ الحياةِ والموتِ وقْفا
قد برتْهُ حوادثُ الدَّهرِ حتَّى
كادَ عن أعينِ الحوادثِ يخفى
وقال عمر بن أبي ربيعة:
إرحمي مُغرماً بحبِّكِ لاقى
من جوى الحبِّ والصَّبابةِ جهدا
قد براهُ وشفَّهُ الحبُّ حتَّى
صارَ ممَّا بهِ عظاماً وجِلدا
وأنشدني بعض الأدباء:
لم يبقَ إلاَّ نفسٌ خافتُ
ومقلةٌ إنسانُها باهتُ
ومغرمٌ توقدُ أحشاؤهُ
بالنَّارِ إلاَّ أنَّهُ ساكتُ
لم يبقَ في أعضالهِ مفصلٌ
إلاَّ وفيهِ سقمٌ ثابتُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يُعيِّرني الواشي بأنْ لستُ مُدْنفاً
كما هو من فرطِ الصَّبابةِ مدنفُ
فيا كاشحاً قد جاءَ في زيِّ ناصحٍ
تشاغلْ بغيري لستُ ممَّنْ يُعرَّفُ
ولا تلحَني فيمنْ أحبُّ فإنَّني
أضنُّ به ممَّا تظنُّ وأشغفُ
سلوهُ فإنِّي لا أكلِّمُ واشياً
أيدْري بمنْ يلحي وفيمنْ يُعنِّفُ
وقال مجنون بني عامر:
يا دارَ ليلَى بسقْطِ الحيِّ قد دُرستْ
إلاَّ الثُّمامُ وإلاَّ موقدُ النَّارِ
أبلى عظامكَ بعدَ اللَّحمِ ذكرهُما
كما تتبَّعَ قِدحَ الشَّوحطِ الباري
فبين صاحب هذا الكلام وصاحب الكلام الَّذي قبله بوْنٌ بعيدٌ وتفاوتٌ شديدٌ ويزعم أنَّ تزايد الحال توجب له نفي الهزال وهذا لم يرض لنفسه بنحول اللَّحم حتَّى أضاف إليه نحول العظم.