كتاب الزهرة/الباب الحادي والعشرون من راعه الفراق ملكه الاشتياق


الباب الحادي والعشرون مَنْ راعهُ الفراقُ ملكهُ الاشتياقُ

   التَّرويع بالفراق هو السَّهم الَّذي لا يعدل عن مقاتل العشَّاق من رمى به من المحبوبين أصاب ومن دُعي به من المحبِّين أجاب وربَّما ولعت نفوس العشَّاق محاذرة وقوع الفراق عن غير سبب يوجبه إظهار الإشفاق وتلك حالٌ لا يتهيَّأ معها وصالٌ.

وفي نحو ذلك يقول الحسين بن الضحاك:

أباحَنِي قربهُ ووسَّدنِي
يُمنى يديهِ وباتَ مُلتَزِمِي
فقلتُ لمَّا استخفَّنِي فرَحي
أشوبُ عينَ اليقينِ بالتُّهمِ
أصبحَ مُستثبتاً نظرِي
إخالُني نائماً ولمْ أنمِ

وللبحتري في مثله:

حبيبٌ سرَى في خيفةٍ وعلَى ذُعرِ
يجوبُ الدُّجى حتَّى التقينا علَى قدرِ
وشككتُ فيهِ مِنْ سرورٍ خلتُهُ
خيالاً أتى في النَّومِ مِنْ طيفهِ يسرِي

وعلى أنَّ من العشَّاق من يتحاقر روعات الفراق وذلك إمَّا لما ناله من مضاضة هجرٍ أو مواقعة غررٍ وإمَّا لطغيان النَّفس ونشاطها وانبساطها في محابِّها واستظهارها بغرَّة الجهل على أحبابها ولمن كان بهذه الخلل باب مفردٌ ووصفٌ مجرَّدٌ.

وقال جميل بن معمر:

كفَى حزَناً للمرءِ ما عاشَ أنَّه
ببينِ حبيبٍ لا يزالُ يروَّعُ
فوا حزَنا لو ينفعُ الحُزنُ أهلهُ
ووا جزعَا لو كانَ للنَّفسِ مجزعُ
فأيُّ فؤادٍ لا يذوبُ بما أرَى
وأيُّ عيونٍ لا تجودُ فتدمعُ

وأنشد لأحمد بن أبي طاهر:

أذاهبةٌ نفسِي شعاعاً فميِّتٌ
ومنصدعٌ قبلَ انصداعِ النَّوى قلبِي
مخافةَ بينٍ لا تلاقيَ بعدهُ
وشحطِ النَّوى بعدَ الزِّيارةِ والقربِ

وقال آخر:

ظللتُ كأنِّي خشيةَ البينِ إذْ جرَى
أخُو جنَّةٍ لا يستبلُّ صريعُها
إذا العينُ أفنتْ عبرةً مِنْ سجامِها
بكتْها بأُخرى تستهلُّ دموعُها

وقال آخر:

خليليَّ مِنْ عُليَا هوازنَ لم أجدْ
لنفسيَ مِنْ شحطِ النَّوى مَنْ يجيرُها
غداً تمطرُ العينانِ مِنْ لوعةِ الهوَى
ويبدُو منَ النَّفسِ الكتومِ ضميرُها
أيصبرُ عندَ البينِ قلبكَ أمْ لهُ
غداً طيرةٌ لا يدَّ أنْ سيَطيرُها

وقال الطائي:

يا بُعدَ غايةِ دمعِ العينِ إنْ بعُدوا
هي الصَّبابةُ طولَ الدَّهرِ والسَّهدُ
قالُوا الرَّحيلُ غداً لا شكَّ قلتُ لهمْ
اليومَ أيقنتُ أنَّ اسمَ الحِمامِ غدُ

وقال أبو نواس:

طرحتم منَ التَّرحالِ أمراً فغمَّنا
فلو قدْ فعلتمْ صبَّحَ الموتُ بعضَنا
زعمتم بأنَّ النَّأيَ يحزنُكمْ نعمْ
سيحزنُكمْ عِلمي ولا مثلَ حُزننا
تعالُوا نُقارعكمْ ليثبتَ عندنا
مَنَ اشجَى قلوباً أوْ مَنَ اسخنَ أعيُنا
أطالَ قصيرُ اللَّيلِ يا رحمُ عندكمْ
فإنَّ قصيرَ اللَّيلِ قد طالَ عندَنا
ولا يعرفُ اللَّيلَ الطَّويلَ وكربهُ
منَ النَّاسِ إلاَّ مَنْ ينجِّمُ أوْ أنا

وقال العرجي:

ما زلتُ من روعةِ البَينِ الَّذي ذكروا
أُذري الدُّموعَ ومنِّي يُحفزُ النَّفسُ
كأنَّني حازمٌ باللَّيلِ مُرتهنٌ
ساهي الفؤادِ وعليهِ الأمرُ مُلتبسُ

وله أيضاً:

غداً فاعلمي أنِّي أشدُّ صبابةً
وأحسنُ عندَ البينِ من غيرنا عهدا
نُقطِّعُ إلاَّ بالكتابِ عتابَنا
سوى ذكرةٍ لا أستطيعُ لها ردَّا
فقالتْ وأذرتْ دمعَها لا بعدْتمُ
يعزُّ علينا أن نرى لكمُ فقدا
غداً يكثرُ الباكونَ منَّا ومنكمُ
وتزدادُ داري من دياركمُ بُعدا

وله أيضاً:

بلِّغْ قريبةَ أنَّ البينَ قدْ أفِدا
وأنَّنا إن سلِمنا رائحونَ غدا
كمْ بالحجازِ وإن كنَّا نُكاثرهُمْ
منَ الدُّموعِ ودَدْنا لا نرى أبدا
وماتَ وجداً علينا ما يبوحُ بهِ
يُحصي اللَّيالي إذا غِبنا لنا عددا
يا ليلةَ السَّبتِ قد زوَّدْتني سقماً
حتَّى المماتِ وحزناً صدَّعَ الكبدا

وقال غيره:

فراقُكَ في غدٍ وغداً قريبُ
فوا كبدا من البينِ القريبِ
فيا صدرَ النَّهارِ إليكَ عنِّي
ويا شمسَ الأصائلِ لا تغيبي

وقال آخر:

خليلي غداً لا شكَّ فيهِ مودِّعٌ
فوالله ما أدري بهِ كيفَ أصنعُ
فإنْ لم أشيِّعْهُ تقطَّعتُ حسرةً
ووا كبدا إن كنتُ فيمنْ أُشيِّعُ
فيا يومُ لا أدْبرتَ هلْ لكَ محبسٌ
ويا غدُ لا أقبلتَ هلْ لكَ مدفعُ

وقال آخر:

يا صاحبيَّ منَ الملامِ دعاني
إنَّ البليَّة فوقَ ما تصفانِ
زعمَتْ بُثينةُ أنَّ رِحلتها غدا
لا مرحباً بغدٍ فقدْ أبكاني

وقال أشجع السلمي:

غداً يتفرَّقُ أهلُ الهوَى
ويكثرُ باكٍ ومُسترجعُ
وتختلفُ الدَّارُ بالظَّاعنينَ
فنوناً تشتُّ فلا تُجمعُ
وتبقى الطُّلولُ ويفنى الهوَى
ويصنعُ ذو الشَّوقِ ما يصنعُ
فأنتَ تُبكِّي وهُمْ جيرةٌ
فكيفَ تكونُ إذا ودَّعوا

وقال ذو الرمة:

وقد كنتُ أبكي والنَّوى مُطمئنَّةٌ
مُحاذرة من علمِ ما البينُ صانعُ
وأُشفقُ من هجرانكُمْ وتشفُّني
مخافةُ وشكِ البينِ والشَّملُ جامعُ
وأهجركُمْ هجرَ البغيضِ وحبُّكمْ
علَى كبدي منه شؤونٌ صوادعُ

وقال آخر:

أخافُ الفِراقَ فأشتاقكُمْ
كأنَّا افترقنا ولم نفترقْ
فلا نبرحُ الدَّهرَ أوْ نشتفي
وهلْ يشتفي أبداً من عشِقْ

وقال العرجي:

فما أنسَ مِ الأشياءِ لا أنسَ موقفاً
لنا ولها بالسَّفحِ دونَ ثبيرِ
ولا قولها وهْناً وقد بلَّ جيبَها
سوابقُ دمعٍ ما يجفُّ غزيرِ
أأنتَ الَّذي خُيِّرتَ أنَّكَ باكرٌ
غداةَ غدٍ أوْ رائحٌ فمهجِّر
فقلتُ يسيرٌ بعضُ شهرٍ أغيبُهُ
وما بعضُ يومٍ غيبهُ بيسيرِ
أحينَ عصيتُ العاذلينَ إليكمُ
ونازعتُ حبلي في هواكَ أميري
وباعدني فيكِ الأقاربُ كلُّهمْ
وباح بما يُخفي اللِّسانُ ضميري
فقلتُ لها قولَ امرئٍ شفَّهُ الهوَى
إليها ولو طالَ الزَّمان فقيرِ
فما أنا إن شطَّتْ بيَ الدَّارُ أوْ دنتْ
بيَ الدَّارُ عنكمْ فاعلمي بصبورِ

وقال آخر:

إذا ريعَ قلبي بالفراقِ تحدَّرتْ
دموعيَ من وجدٍ عليكِ دخيلِ
لَعمري لَموتٌ يعتريني فُجاءةً
أحبُّ إليَّ من فراقِ خليلِ

وقال أيضاً:

أيا كبدي حُمَّ الفراقُ ولم أجدْ
لنفسيَ ممَّا حاذرتْ من يُجيرُها
كأنَّ فؤادي عظْمُ ساقٍ مهيضةٍ
عنيفٌ مُداويها بطيءٌ جُبورها
فإنْ عصبوها بالجُبارِ توجَّعتْ
وإن تركوها زادَ صدعاً نفورُها
غداً تصبحُ الخوْدُ المليحةُ غُربةً
تُزارُ وتُغشي لستُ ممنْ يزورُها

وقال توبة بن الحمير:

كأنَّ القلبَ ليلةَ قيلَ يُغدى
بليلى العامريَّةِ أوْ يُراحُ
قطاةٌ غرَّها شركٌ فباتتْ
تُجاذبهُ وقدْ علقَ الجناحُ
فلا في اللَّيلِ نامتْ فاطمأنَّتْ
ولا في الصُّبحِ كانَ لها براحُ

وقال آخر:

أبيتُ والهمُّ تغشاني طوارقهُ
من خوفِ روعةَ بين الظَّاعنينَ غدا
قدْ صدَّعَ القلبَ حزنٌ لا ارتجاعَ لهُ
إذْ الانصداع النية العمدا

وقال آخر:

قالوا يسيرونَ لا ساروا بلى وقفوا
ولا استقلَّتْ بهمْ للبينِ أكوارُ
إذا تحمَّلَ من هامَ الفؤادُ بهِ
فلا أبالي أقامَ الحيُّ أمْ ساروا

وقال آخر:

ما زلتُ من حذرِ التفرُّقِ مُشفقاً
لو كانَ أغنى ذلك الإشفاقُ
وترى المحبَّ قريرَ عينٍ بالهوى
حتَّى يُنغِّصهُ عليهِ فراقُ

وقال آخر:

روِّعتُ بالبينِ حتَّى ما أُراعَ بهِ
وبالتَّفرُّقِ في أهلي وجيراني
لم يتركِ الدَّهرُ لي خِدناً أُسرُّ بهِ
إلاَّ اصطفاهُ ببينٍ أوْ بهجرانِ

وقال آخر:

يحنُّ إذا خافَ الفراقَ منَ اجْلها
حنينَ المُرجِّي وُجهةً لا يُريدها
وكائنْ ترى من صاحبٍ حيلَ دونهُ
ومُتْبعِ إلفٍ نظرةً لا يُعيدها

ولبعض أهل هذا العصر:

علَى كبدي من خيفةِ البينِ لوعةٌ
يكادُ لها قلبي أسًى يتصدَّعُ
يخافُ وقوعَ البينِ والشَّملُ جامعٌ
فيبكي بعينٍ دمعُها متسرِّعُ
فلوْ كانَ مسروراً بما هو واقعٌ
كما هو مسرورٌ بما يتوقَّعُ
لكان سواءً بُرْؤهُ وسقامهُ
ولكنَّ وشكَ البينِ أدْهى وأوجعُ

وأكثر استظهار خوف الفراق إنَّما هو على المتيَّمين والعشَّاق الذين استغرقهم الضَّعف بأحبابهم وجرت خلائق أحبَّتهم على نهاية محلِّهم فآمالهم مقصورة إلى الحذر من زوالهم فأمَّا من قد خرج عن حدود العشَّاق والمتيَّمين إلى مرتبة المولَّهين فإنَّ حذاره من الخيانة والغدر يشغله عن محاذرة الفراق والهجر.

وقال توبة بن الحمير:

قالتْ مخافةَ بيننا وبكتْ لهُ
والبينُ مبعوثٌ علَى المتخوِّفِ
لو ماتَ شيءٌ من مخافةِ فُرقةٍ
لأماتني للبينِ طولُ تخوُّفي
ملأَ الهوَى قلبي فضقْتُ بحملهِ
حتَّى نطقْتُ بهِ بغيرِ تكلُّفِ

فليلى الأخيليَّة عفا الله عنا وعنها إن كان ما حكاه لنا توبة عنها في البيت الثاني حقّاً فإنَّها كانت جاهلةً بأحوال العشَّاق غافلةً عمَّا تولده روعات الفراق ولَعمري إن من مراثيها في توبة بعد وفاته لدالَّةً على أنَّها لم تتعلَّق من الهوَى إلاَّ بأطرافه إذْ لو كان الهوَى قد بلغ بها أقصى الحال كانت حياتها بعد وفاة توبة ضرباً من المحال وما أحصي ما اتَّصل بي من أخبار من تخوَّف بمفارقة حبيبه فتلف من ساعته ولقد اتَّصل بي خبر لم أسمع بأعجب منه وإنَّ صاحبته وليلَى الأخيليَّة لفي الطَّرفين هذه عندها أنَّه لا يموت أحد من مخافة فرقةٍ وتلك تلفت من جريان خاطرٍ بالفراق على قلبها من غير أن يؤدي ذلك إليه ناظرها ولا سمعها ذكر أبو مالك الرَّاوية أنَّه سمع الفرزدق يقول أبقَ غلامان لرجل من بني نهشل يقال له الخضر قال فخرجت في طلبهما وأنا على ناقةٍ لي عنساء أريد اليمامة فلما صرت في ماءٍ لبني حنيفة ارتفعت لي سحابةٌ فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألتهم القِرى فأجابوا فدخلت الدَّار وأنخت النَّاقة وجلست تحت ظلالهم من جريد النَّخل وفي الدَّار جويريةٌ سوداء إذْ دخلت الدَّار جاريةٌ كأنَّها فلقة قمر وكأنَّ عينيها كوكبان درِّيَّان فسألت السوداء لمن هذه العنساء فقالت لضيفكم هذا فعدلت إليَّ فقالت السَّلام عليك فقلت وعليكِ السَّلام فقالت لي من الرِّجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيِّ بني حنظلة قلت من بني نهشلٍ قالت فأنت الَّذي يقول فيك الفرزدق:

إنَّ الَّذي سمكَ السَّماءَ بنى لنا
بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
بيتاً زُرارةُ مُحتبٍ بفنائهِ
ومُجاشعٌ وأبو الفوارسِ نهشلُ

قال قلت نعم فتبسَّمت وقالت فإنَّ ابن الخطفى جريرٌ هدم عليه بيته هو الَّذي يقول:

أخزى الَّذي رفعَ السَّماءَ مُجاشعاً
وبنى بناءَكَ بالحضيضِ الأسفلِ
بيتاً يُحمَّمُ قينكُمْ بفنائهِ
دنِسٌ مقاعدهُ خبيثُ المدخلِ

قال فأعجبتني فلمَّا رأت ذلك في وجهي قالت إلى أين تؤمُّ قلت اليمامة قال فتنفَّست الصُّعداء ثمَّ قالت ها هي تلك أمامك ثمَّ أنشأت تقول:

تُذكِّرني بلاداً خيرُ أهلي
بها أهلُ المروءةِ والكرامةْ
ألا فسقى المليكُ أجشَّ صوبٍ
يدرُّ بسحِّهِ تلكَ اليمامةْ
وحيَّى بالسَّلامِ أبا نُجيدٍ
فأهلٌ للتَّحيَّةِ والسَّلامةْ

قال فأنست بها فقلت أذات خدنٍ أم ذات بعلٍ فأنشأت تقول:

إذا رقدَ الخليُّ فإنَّ عمراً
تُؤرِّقهُ الهمومُ إلى الصَّباحِ
تُقطِّعُ قلبهُ الذِّكْرى وقلبي
فلا هو بالخليِّ ولا بصاحِ
سقى اللهُ اليمامةَ دارَ قومٍ
بها عمرٌو يحنُّ إلى الرَّواحِ

قال فقلت لها من عمرٌو فأنشأت تقول:

فإنْ تكُ ذا قُبولٍ إنَّ عمراً
هوَ القمرُ المضيءُ لمُستنيرِ
وما لي بالتَّبعُّلِ مُستراحٌ
ولو ردَّ التَّبعُّلُ لي أسيري

قال ثمَّ سكتت سكتةً كأنَّها تستمع إلى كلامي ثمَّ تهافتت وأنشأت تقول:

يُخيَّلُ لي أبا عمرو بنَ كعبٍ
كأنَّكَ قد حُملتَ على سريرِ
فإنْ يكُ هكذا يا عمرو إنِّي
مُبكِّرةٌ عليكَ إلى القبورِ

قال ثمَّ شهقت فماتت فقلت لهم من هذه قالوا هذه عقيلة بنت الضَّحَّاك بن النُّعمان بن المنذر بن ماء السَّماء قلت ومن عمرٍو هذا قالوا ابن عمِّها قال فارتحلت من عندهم فدخلت اليمامة فسألت عن عمرٍو فإذا به قد دفن في ذلك الوقت من ذلك اليوم.