الباب الرابع والثلاثون من امتحن بالمفارقة والهجر اشتغل فكره بالعيافة والزَّجرأبو بكر محمد بن داود الظاهري
الباب الرابع والثلاثون من امتحن بالمفارقة والهجر اشتغل فكره بالعيافة والزَّجر
سبيل كلّ مشغوف بشيء ما كان أن يحذر عليه ما دام في قبضته ويرجو رجوعه إذا خرج عن يده فالمحبُّ ما دام مقيماً مع محبوبه فخواطره موقوفةٌ على الحذر عليه من الزوال وفكره مرتهنةٌ بالخوف من تغيّر الحال فإذا فارق محبوبه وافتقد مطلوبه اشتغلت خواطره بتأميل أوبته كاشتغالها بمحاذرة فرقته إذ هو غير خال من الأحوال فتراه حينئذ يتيامن بالسَّوانح حسب تشاؤمه بالبوارح وقد قالت الشعراء في كلّ ذلك ونحن إن شاء الله نذكر من أقاويلهم حسب ما يحتمله الباب إذ كنَّا غير متجاوزين لما شرطناه في صدر الكتاب.
قال عبد الله بن قيس الرقيات:
بشَّرَ الظَّبيُ والغرابُ بسُعدى
مرحباً بالذي يقولُ الغرابُ
قالَ لي إنَّ خيرَ سُعدى قريبٌ
قدْ أنى أنْ يكونَ منهُ اقترابُ
قلتُ أنَّى تكونُ سعدى قريباً
وعليها الحصونُ والأبوابُ
حبَّذا الرِّيمُ والوشاحانِ والقصْ
رُ الَّذي لا تنالهُ الأسبابُ
فعسى أنْ يُؤتِّىَ الله أمراً
ليسَ في غيِّهِ علينا ارتقابُ
وقال آخر:
نعبَ الغرابُ برؤيةِ الأحبابِ
فلذاكَ صرتُ أليفَ كلِّ غرابِ
لا شُكَّ ريشكَ إذْ نعبْتَ بقربهمْ
وسقيتَ مُزنَ صبيبِ كلِّ سحابِ
وسكنتَ بينَ حدائقٍ في جنَّةٍ
محفوفةٍ بالنَّخلِ والأعنابِ
وقال الراعي:
جرى يومُ رُحنا عامدينَ لأهلِها
عُقابٌ فقالَ القومُ مرَّ سنيحُ
وكرَّ رجالٌ منهمُ وتراجعوا
فقلتُ لهمْ طيرٌ إليَّ بريحُ
عقابٌ بأعقابٍ من الدَّارِ بعدما
مضتْ نيَّةٌ تُقصي المحبَّ طروحُ
وقالوا نراهُ هُدهداً فوقَ بانةٍ
هدًى وبيانٌ والطَّريقُ تلوحُ
وقالوا دمَ دامتْ مودَّةٌ بيننا
ودامَ لنا صفوٌ صفاهُ صريحُ
وقال جران العود:
جرى يومَ جئنا بالجِمالِ نزفُّها
عقابٌ وشحَّاجٌ من البينِ يبرحُ
فأمَّا العقابُ فهو منها عقوبةٌ
وأمَّا الغرابُ فالغريبُ المطرَّحُ
أفلا ترى إلى تقارب ما بين هذين التَّأويلين الرَّاعي لأنه كان مفارقاً لأحبابه وجرى العقاب بالأعقاب من الدَّار ورجوع الحال إلى ما يهوى لضعف المخاوف من المفارق وقوَّة الآمال وهذا لأنه كان مقيماً مع أحبَّته وجرى العقاب بالعقوبة من صاحبته فهذا كلُّه شاهدٌ لما قد ذكرناه.