كتاب الزهرة/الباب السابع من طال سروره قصرت شهوره


الباب السابع من طالَ سرورهُ قصرتْ شهورهُ

من صبر على الامتحان لمن يهواه على مثل ما ذكرناه كان خليقاً أن يبلغ أقصى مُناه وأهل هذه الحال الذين يحمدون الهوَى ويشكرونه ويصفون لذاذته للذين لا يعرفونه ويزرون على عيشٍ من لم يتطعَّم مذاقه ولم يُتعبَّد باسترقاقه ألم تسمع الَّذي يقول:

إذا أنتَ لم تعشقْ ولم تدرِ ما الهوَى
فكنْ حجراً من يابسِ الصَّخرِ جلْمدا
فما العيشُ إلاَّ ما تلذُّ وتشتهي
وإنْ لامَ ذو الشَّنآنِ فيه وفنَّدا
تبعتُ الهوَى جُهدي فمن شاءَ لامني
ومن شاء آسى في البُكاء وأسعدا

والكميت أنصف من هذا حيث يقول:

ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ونعيمها
فيما مضى أحدٌ إذا لمْ يعشقِ
الحبُّ فيهِ حلاوةٌ ومرارةٌ
سائلْ بذلك من تطعَّمَ أوْ ذُقِ

وقال القطامي:

ألا علِّلاني كلُّ حيٍّ مُعلَّلُ
ولا تَعِداني الشَّرُّ والخيرُ مُقبلُ
فإنَّكما لا تدريانِ أما مضى
من الدَّهر أمْ ما قد تأخَّرَ أطولُ

أنشد أبو تمام لنفسه:

أيُّ شيءٍ يكونُ أملحَ من صَ
بٍّ أديبٍ متيَّمٍ بأديبِ
جازَ حُكمي في قلبهِ وهواهُ
بعدما جازَ حُكمهُ في القلوبِ
كادَ أن يكتبَ الهوَى بينَ عينيهِ
كتاباً هذا حبيبُ حبيبِ
غيرَ أنِّي لو كنتُ أعشقُ نفسي
لتنغَّصْتُ عِشقها بالرَّقيبِ

فهؤلاءِ الذين قد سامحهم الدَّهر بصحابهم فاستطابوا المقام على حالهم ومن وصل إلى شيءٍ نفسه تقاصرت عليه الأيام وراصدته بمكروهات الشهور والأعوام.

قال جميل بن معمر:

يطولُ اليومُ لا ألقاكِ فيهِ
وحولٌ نلتقي فيه قصيرُ
وقالوا لا يضرُّكَ نأيُ شهرٍ
فقلتُ لِصاحبي فلمنْ يضيرُ

وقال آخر:

أقولُ لصاحبي والعيسُ تهوي
بنا بينَ المُنيفةِ والضِّمارِ
تمتَّعْ من شميمِ عَرارِ نجدٍ
فما بعدَ العشيَّةِ من عَرارِ
ألا يا حبَّذا نفحاتُ نجدٍ
وريَّا روضهِ بعدَ القِطارِ
وأهلُكَ إذْ يحلُّ القومُ نجداً
وأنتَ علَى زمانكَ غيرُ زاري
شهورٌ ينقضينَ وما علمنا
بأنصافٍ لهنَّ ولا سرارِ

وقال آخر:

لياليَ أعطيتُ الصَّبابةَ مِقْودي
تمرُّ اللَّيالي والشُّهورُ ولا أدري
مضى لي زمانٌ لو أُخيَّرُ بينها
وبينَ حياتي خالياً آخر الدَّهرِ
لقلتُ ذروني ساعةً وكلاهما
علَى غفلةِ الواشينَ ثمَّ اقطعوا عمري

وقال أبو تمام لنفسه:

وفاتنِ الألحاظ والخدِّ
مُعتدلِ القامةِ والقَدِّ
صيَّرني عبداً لهُ حسنهُ
والطَّرفُ قد صيَّرهُ عبدي

وقال بعض بني قشير:

لوَ أنَّكَ شاهدتَ الصِّبى يا ابنَ بَوْزلٍ
بجزعِ الغضا إذْ واجهتنا عياطلُهْ
لأبصرتَ عيشاً بعدَ سخطٍ من النَّوى
وبعدَ تنائي الدَّارِ حلواً شمائلُهْ

وقال الطائي:

لو كنتَ عندي أمسِ وهو مُعانقي
ومدامعي تجري علَى خدَّيْهِ
وقدِ ارتوتْ من عبرتي وجناتُهُ
وتنزَّهتْ شفتايَ في شفتيهِ
لرأيتَ بكَّاءً يهونُ علَى الهوَى
وتهونُ تخْليَّةُ الدُّموع عليهِ
ورأيتَ أحسنَ من بُكائيَ قولهُ
هذا الفتَى مُتعنِّتٌ عينيهِ

وقال أيضاً:

ظنُّكَ فيما أُسرُّهُ حكمُ
أرضى بهِ لي وطرفُكَ الفَهِمُ
فيمَ سُلوِّي وأنتَ بي كَلِفٌ
ليسَ بهذا تُعاشرُ النِّعَمُ
كيفَ وعيني إليكَ مُسرعةٌ
فيكَ وقلبي عليكَ مُتَّهمُ
أظهرتُ من لوعةِ الهوَى جزَعاً
والصَّبرُ إلاَّ عن الهوَى كرمُ

وقال أيضاً:

نِعمُ اللهِ فيكَ لا أسألُ اللَّ
هَ إليها نُعمَى سِوى أنْ تدُوما
ولَوَ انِّي فعلتُ كنتُ كمنْ تسْ
ألهُ وهوَ قائمٌ أنْ يقُوما

وقال أيضاً:

أيَّامُنا مصقولةٌ أطرافُها
بكَ واللَّيالي كلُّها أسحارُ
هِمَمي معلَّقةٌ عليكَ رِقابُها
معلولةٌ إنَّ الوفاءَ إسارُ
ومودَّتي لكَ لا تُعارُ بلَى إذا
ما كانَ تأْمُورُ الفؤادِ يُعارُ
والنَّاسُ غيركَ ما تغيّرُ حبوَتِي
لِفراقهمْ هلْ أنجدُوا أو غارُوا
ولذاكَ شِعرِي فيكَ قدْ سمعُوا بهِ
سَحرٌ وأشعارِي بهمْ إشعارُ

وقال علي بن محمد العلوي:

مِنْ قِصرِ اللَّيلِ إذا زُرتنِي
أبكِي وتَبكينَ منَ الطُّولِ
عدوُّ عينيكِ وشانِيهما
أصبحَ مشغولاً بمشغولِ

وقال أبو عبادة البحتري:

لوتْ بالسَّلامِ بناناً خضيباً
ولحظاً يشوقُ الفؤادَ الطَّروبا
وزارتْ علَى عجلٍ فاكْتسَى
لزَوْرتِها أبرقُ الحزنِ طِيبا
فكانَ العبيرُ بها واشياً
وجرسُ الحليِّ عليها رقِيبا
ولمْ أنسَ ليلَتَنا في العناقِ
ولفَّ الصِّبا بقَضيبٍ قضيبَا
كما أقبلتِ الرِّيحُ في مرِّها
فَطوراً خُفوقاً وطوراً هُبوبا

وقال أيضاً:

تأبَى المنازلُ أنْ تُجيبَ ومِنْ جوًى
يومَ الدِّيارِ دعوتُ غيرَ مُجيبِ
وقِصارِ أيَّامٍ بهِ شرَقَتْ لنا
حسَناتُها مِنْ كاشحٍ ورقيبِ
سُقيَ الغَضا والنَّازِليهِ وإنْ همُ
شبُّوهُ بينَ جوانِح وقلوبِ

وله أيضاً:

وأخٌ لبستُ العيشَ أخضرَ ناضراً
بكريمِ عِشرتهِ وفضلِ إخائهِ
وضياءِ وجهٍ لوْ تأمَّلهُ امرؤٌ
صادِي الجوانحِ لارْتَوى مِن مائهِ
فدعِ الهوَى أوْ متْ بدائكَ إنَّ مِنْ
شأنِ المُتيَّمِ أنْ يموتَ بدائهِ

وله أيضاً:

ألنْتَ لي الأيَّامَ مِن بعدِ قسوةٍ
وعاتبتَ لي دهرِي المسيءَ فأعتبا
وألبسْتَنِي النُّعمَى الَّتي غيَّرتْ أخِي
عليَّ فأضحَى نازِحَ الودِّ أجنبَا

وقال آخر:

ولمَّا خلوْنا واطْمأنَّتْ بنا النَّوى
وعادَ لنا العيشُ الَّذي كنتُ أعرفُ
أخذتُ بكفِّي كفَّها فوضعْتُها
علَى كبدٍ من خِشيةِ البَيْنِ ترجفُ

قال محمد بن نصير:

لا أظلمُ اللَّيلَ ولا أدَّعِي
أنَّ نجومَ اللَّيلِ ليستْ تغورُ
اللَّيلُ ما شاءتْ فإن لمْ تزرْ
طالَ وإنْ زارتْ فلَيْلِي قصيرُ

وقال جميل:

تذكَّرَ منها القلبُ ما ليسَ ناسياً
ملاحةَ قولٍ يومَ قالتْ ومعهدَا
فإن كنتَ تهوَى أوْ تُريدُ لقاءَنا
علَى خلوةٍ فاضربْ لنا منكَ موعِدا
فقلتُ ولمْ أملكْ سوابقَ عبرةٍ
أأحسنُ مِنْ هذا العشيَّةَ مَقعدا
فقالتْ أخافُ الكاشحينَ وأتَّقي
عيوناً منَ الواشينَ حوليَ شُهَّدا

وقال خالد الكاتب:

عشيَّةَ حَيانِي بوردٍ كأنَّهُ
خدودٌ أُضيفتْ بعضهنَّ إلى بعضِ
وولَّى وفِعلُ السُّكْرِ في لحظاتهِ
كفعلِ نسيمِ الرِّيحِ بالغصنِ الغضِّ

وقال آخر:

وقصيرةِ الأيَّامِ ودَّ جليسُها
لوْ نالَ مجلسَها بفقدِ حميمِ
بيضاءُ مِنْ بقرِ الجِواءِ كأنَّما
حفن الحياةِ بها وداءُ سقيمِ

وقال عروة بن أذينة:

فذَّانِ يُعنيهما للبينِ فرقتهُ
ولا يملاَّنِ طولَ الدَّهرِ ما اجتمعَا
مستقبلانِ نشاطاً مِنْ شبابِهِما
إذا دعَا دعوةً داعِي الهوَى سمِعا
لا يعجبانِ بقولِ النَّاسِ عنْ عُرضٍ
ويعجبانِ بِما قالا وما صنَعَا

وقال العرجي:

لَقيتُ بهِ سرَّ ينظرنَ موعدِي
وقِدماً وفتْ منِّي لهنَّ المواعدُ
أمِنَّ العيونَ الرَّامقاتِ ولمْ يكنْ
لهنَّ بهِ عينٌ سوَى الصُّبحِ رائدُ
فبتُّ صريعاً بينهنَّ كأنَّني
أخُو سقمٍ تحنُو عليهِ العوائدُ
يفدِّينِي طوراً ويضمُمْنَ تارةً
كما ضمَّ مولوداً إلى الصَّدرِ والدُ
لعمرِي إنْ أبدَيْنَ لي الودَّ إنَّني
بهنَّ وإنْ أخفيتُ وجدي لواجدُ

وقال البحتري:

وأهيفُ مأخوذٍ منَ النَّفسِ شكلهُ
ترَى العينُ ما تحتاجُ أجمعَ فيهِ
ولمْ تنسَ نفسِي ما سُقيتُ بكفِّهِ
منَ الرَّاحِ إلاَّ ما سُقيتُ بفيهِ
أرَى غفلةَ الأيَّامِ إعطاءَ مانعٍ
يُصيبكَ أحياناً وحلمَ سفيهِ

وقال آخر:

وليلٍ لم يقصِّرهُ رقادٌ
وقصَّرهُ مُنادمةُ الحبيبِ
نعيمُ الحبِّ أورقَ فيهِ حتَّى
تناوَلْنا جَناهُ مِنْ قريبِ
ومجلسِ لذَّةٍ لمْ نقوَ فيهِ
علَى شكوَى ولا عذرِ الذُّنوبِ
فلمَّا لمْ نطقْ فيهِ كلاماً
تكلَّمتِ العيونُ عنِ القلوبِ

وأنشدتني ستيرة العصيبية:

بتْنا بأطيبَ ليلةٍ وألذِّها
يا ليتَها وُصلتْ لنا بليالِ
حتَّى إذا ما اللَّيلُ أُشعلَ لونهُ
بالصّبحِ أوْ أودَى علَى الإشغالِ
نادَى منادٍ بالصَّلاةِ فراعَنا
ومضَى جميعُ اللَّيلِ غيرَ نوالِ
فنهضنَ مِنْ حذرِ العيونِ هوارباً
نهْضَ الهِجانِ بدَكْدَكٍ مُنهالِ
ثمَّ اطَّلعنَ كأنَّهنَّ غمائمٌ
زمنَ الرَّبيعِ هممْنَ باستهلالِ
حتَّى دفعنَ إلى فتًى جشَّمنهُ
ردَّ الكرَى وتعسُّفَ الأهوالِ

وقال بعض أهل هذا العصر:

خليليَّ أغرانِي منَ الشَّوقِ والهوَى
وأخلطُ مِنْ ماءِ الشَّاربينِ بالخمرِ
فصدرٌ علَى صدرٍ ونحرٌ علَى نحرٍ
وخدٌّ علَى خدٍّ وثغرٌ علَى ثغرِ
يظلُّ حسودُ القومِ فينا مفكِّراً
بخيْلٍ منِ المعشوقُ منَّا فلا يدرِي

وقال عمر بن أبي ربيعة:

وغضيضِ الطَّرفِ مِكسالِ الضُّحى
أحورِ المقلةِ كالرِّيمِ الأغنْ
مرَّ بي في بقرٍ يحفُفْنهُ
مثلَ ما حفَّ النَّصارى بالوثنْ
راعَنِي منظرهُ لمَّا بدَا
ربَّما ارتاعَ بالشَّيءِ الحسنْ
قلتُ مَنْ هذا فقالت بعضُ مَنْ
فتنَ اللهُ بهِ فيمنْ فتنْ
بعضُ مَن كانَ سَتيراً زمناً
ثمَّ أضحَى فهواكمْ قد محنْ
قلتُ حقّاً قلتِ قالتْ قولةً
أورثتْ في القلبِ همّاً وحزنْ
قلتُ يا سيِّدتِي عذَّبتِني
قالتِ اللهمَّ عذِّبني إذنْ

أما هذه المخاطبة فقلَّما يقع ألطف منها لفظاً ولا أجلّ منها موقعاً ولو لم يصبر المحبُّ علَى امتحان إلفه إلاَّ بسمع مثل هذا من لفظه لكان ذلك حظّاً جزيلاً ودركاً جليلاً فكيف وحال الصَّفاء إذا ابتدأت بين المتحابَّين بالمشاكلة الطبيعية ثمَّ اتَّصلت بالحراسة عن الأخلاق الدَّنيئة ثمَّ عذبت بالرّعايات الاختياريَّة بلغت بهما الحال إلى حيث انقطعت بهم دونه الآمال وعلى أنَّ الحزم لمن سومح بالوصال ألا يرسل نفسه كلَّ الإرسال فإنَّ ذلك ربَّما دعا المحبوب إلى الملال وإن كان مقيماً على رعاية الحال.

ولقد أحسن الَّذي يقول:

عليكَ بإقلالِ الزِّيارةِ إنَّها
تكونُ إذا دامتْ إلى الهجرِ مسلكَا
فإنِّي رأيتُ القطرَ يُسأمُ دائماً
ويُسألُ بالأيدي إذا هوَ أمسكَا