كتاب الزهرة/الباب السابع والعشرون من غاب قرينه كثر حنينه


الباب السابع والعشرون من غاب قرينهُ كثر حنينه

من شأن من غاب عن خليله أن تناله حيرةٌ في جميع أموره يصحو عنها ويرجع إليه تمييزه فمن كان المتناول له من تلك الحيرة والآخذ بعنانه من تلك الغمرة داعٍ من غلبات الاشتياق وناهٍ عن المقام في قبضة الفراق لم يتمالك عن أحبابه وقتاً من الأوقات ولم يتشاغل عنهم بضربٍ من اللذَّات ومن كان الآخذ بيده من تلك الغمرات والمتخلِّص بخواطره من تلك السَّكرات ضرباً من الاشتغال بغير تلك الحال سلا على مرِّ الأيَّام والليالي وما دام في تلك الحيرة فهو متشاغل بتذكُّر من فارقه والشَّوق والحنين إلى من خلَّفه ألم تسمع الَّذي يقول:

وإنَّ امرءاً في بلدةٍ نصفُ قلبهِ
ونصفٌ بأُخرى غيرِها لصبورُ
وددْتُ من الشَّوقِ المُبرِّحِ أنَّني
أُعارُ جناحَيْ طائرٍ فأطيرُ
فما من نعيمِ العيشِ بعدكِ لذَّةٌ
ولا لسرورٍ لستِ فيهِ سرورُ

والَّذي يقول:

بأكنافِ الحجازِ هوًى دفينُ
يؤرِّقُني إذا هدَتِ العيونُ
أحنُّ إلى الحجازِ وساكنيهِ
حنينَ الإلفِ فارقهُ القرينُ
وأبكي حينَ ترقدُ كلُّ عينٍ
بكاءً بينَ زفرتهِ أنينُ

وقال آخر:

ذكرتُكِ ذكرى هائمٍ بكِ تنتهي
إليكِ أمانيهِ وإنْ لم يكنْ وصلُ
وليسَتْ بذكرى ساعةٍ بعدَ ساعةٍ
ولكنَّها موصولةٌ ما لها فصلُ

وقال أبو عطاء السندي:

ذكرتُكِ والخطِيُّ يخطرُ بيننا
وقدْ نهكَتْ منَّا المُثقَّفةُ السُّمْرُ
فوالله ما أدري وإنِّي لصادقٌ
أداءٌ عناني منْ ودادكِ أمْ سحْرُ
فإنْ يكُ سحراً فاعذُريني علَى الهوَى
وإنْ يكُ داءً غيرَهُ فلكِ العُذرُ

وقال آخر:

ألا يا لقومي للصَّبابةِ والذِّكرِ
وللقدَرِ السَّاري إليكَ ولا تدري
وللشَّيءِ تنساهُ وتذكرُ غيرَهُ
وللشَّيءِ لا تنساهُ إلاَّ علَى ذكرِ

وقال آخر:

دعاكِ ضمانُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ
ولله أنْ يشفينَ أغنى وأوسعُ
يُذكِّرُنيكِ الخيرُ والشَّرُّ والَّذي
أخافُ وأرجو والَّذي أتوقَّعُ

وقال مسلم بن الوليد:

يذكِّرُنيكَ البُخْلُ والجودُ والعلى
وقيلُ الخنا والحلمُ والعلمُ والجهلُ
فألقاكَ عن مكروهِها مُتنزِّهاً
وألقاكَ في محمودها ولكَ الفضلُ

وقال آخر:

ذكرْتُ بهِ منْ لنْ أُبالي بذكرهِ
تفرُّقَ شعبٍ في النَّوى مُتزايلِ
وإنَّ امرءاً بالشَّامِ أكثرُ أهلهِ
وبُطنانَ ليسَ الشَّوقُ عنهُ بغافلِ

وقال آخر:

وذكرْتُ هنداً والمطايا تعتلي
بالقومِ قد قطعوا العقيقَ وأنجدوا
بعُدَ الطَّريقُ فباتَ يقسمُ أمرهُ
أيجودُ بالعبراتِ أمْ يتجلَّدُ
ولقدْ حُبستُ علَى البِعادِ فزادني
طولُ البِعادِ حرارةً لا تبردُ

وقال معاذ ليلَى:

ذكرتُكِ حيثُ استأمنَ الوحشُ والتقتْ
رفاقٌ منَ الآفاقِ شتَّى شعوبُها
وعندَ الحطيمِ قدْ ذكرتُكِ ذكرةً
أرى أنَّ نفسي سوفَ يأتيكِ حوبُها
دعا المحرمونَ اللهَ يستغفرونهُ
بمكَّةَ يوماً أنْ تُمحَّى ذنوبُها
فناديْتُ أنْ يا ربِّ أوَّلُ سِئلتي
لنفسيَ ليلَى ثمَّ أنتَ حسيبُها
فإنْ أُعْطَ ليلَى في حياتيَ لا يتُبْ
إلى اللهِ عبدٌ توبةً لا أتوبُها

وقال آخر:

لقدْ زادني الحُجَّاجُ شوقاً إليكمُ
وما كنتُ قبلَ اليومِ للحجِّ قاليا
وما نظرتْ عيني إلى شخصِ قادمٍ
من الحجِّ إلاَّ بلَّ دمعي ردائيا

وقال آخر:

فما وجدَتْ كوجدي أمُّ سقْبٍ
أضاعتْهُ فرجَّعتِ الحنينا
ولا شمطاءُ لمْ تترُكْ شفاها
لها من تسعةٍ إلاَّ حُنينا

وقال بعض الأعراب:

وما وجدُ أعرابيَّةٍ قذفَتْ بها
نوى غُربةٍ من حيثُ لم تكُ طُلَّتِ
تمنَّتْ أحاليبَ الرَّعاءِ وخيمةً
بنجدٍ فلمْ يُقدرْ لها ما تمنَّتِ
إذا ذكرَتْ ماءَ العضاهِ وطيبهُ
وبردَ الحصى من نحوِ نجدٍ أرنَّتِ
بأعظمَ من وجدٍ بريَّا وجدْتهُ
غداةَ غدوْنا غُربةً واطمأنَّتِ
فإنْ يكُ هذا آخرَ العهْدِ منهمُ
فهذا الَّذي كُنَّا ظننَّا وظنَّتِ

وقال الحسين الخليع:

يا مَنْ شغلْتُ بهجرهِ ووصالهِ
هِممَ المُنى ونسيتُ يومَ معادي
والله ما التقتِ الجفونُ بطرفةٍ
إلاَّ وذِكرُكَ خاطرٌ بفؤادي

وقال ذو الرمة:

إذا خطرَتْ من ذكرِ ميَّةَ خطرةٌ
علَى القلبِ كادَتْ في فؤادِكَ تجرحُ
علَى حينِ راهقْتُ الثَّلاثينَ وارعوَتْ
لِداتي وكادَ الحلمُ بالجهلِ يرجحُ
ذكرتُكِ أنْ مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ
أمامَ المطايا تشرئبُّ وتسنحُ
رأتنا كأنَّا عامدونَ لقصدِها
بهِ فهيَ تدنو تارةً وتزَحْزحُ
هيَ الشِّبهُ أعطافاً وجيداً ومُقلةً
وميَّةُ أبهى بعدُ منها وأملحُ

وأنشدتني أعرابية بالبادية:

هلِ الشَّوقُ إلاَّ مثلُ ما أتكلَّفُ
أبينُ وعيني ما تَني الدَّهرَ تذرفُ
تذكَّرْتُ بيتاً من نُعيْمةَ والنَّوى
قريبٌ وقد كانَ الَّذي أتخوَّفُ
فقدْ ظنَّ هذا القلبُ أنْ ليسَ ناظراً
إلى وجهها ما كذَّبَ الله خندفُ
فيا قلبُ صبراً واعترافاً بما قضى
لكَ الله إنَّ الحرَّ بالصَّبرِ يُعرفُ
تجلَّدْ وأجملْ واصطبرْ وازجُرْ الأسى
لعلَّ النَّوى يوماً بنعمةَ تُسعفُ
عسى دارُها أنْ ترعَوي بعدَ بُعدها
عليكَ وتلقاها كما كنتَ تعزفُ

وقال آخر:

هلِ الشَّوقُ إلاَّ أنْ يحنَّ غريبُ
وأنْ يستطيلَ العهدُ وهوَ قريبُ
لياليَ يدعوني الصِّبى فأُجيبهُ
وللشَّوقِ داعٍ مُسمعٌ ومُجيبُ
وقائلةٍ ما بالُ لونكَ شاحباً
وأهونُ ما بي أنْ يكونَ شحوبُ
فقلتُ لها في الصَّدْرِ منِّي بلابلُ
تقطَّعُ أنفاسي لها وتذوبُ

وقال بعض الأعراب:

ولو أنَّ ما ألقى وما بي منَ الهوَى
بأرعنَ رُكناهُ صفاً وحديدُ
تفطَّرَ من وجدٍ وذابَ حديدهُ
وأمسى تراهُ العينُ وهوَ عميدُ
ثلاثونَ يوماً كلَّ يومٍ وليلةٍ
أموتُ وأحيا إنَّ ذا لشديدُ

وقال آخر:

أصابني بعدكِ ضُرُّ الهوَى
ومسَّني كربٌ وإقلاقُ
ويعلمُ اللهُ بحسْبي بهِ
أنِّي إلى وجهكِ مُشتاقُ

وقال آخر:

أحنُّ إلى ليلَى وقد شطَّتِ النَّوى
بليلى كما حنَّ اليراعُ المُثقَّبُ
يقولونَ ليلَى عذَّبتْكَ بحبِّها
ألا حبَّذا ذاكَ الحبيبُ المعذِّبُ

وقال آخر:

أحنُّ إلى أرضِ الحجازِ وحاجتي
خيامٌ بنجدٍ دونها الطَّرفُ يقصرُ
وما نظري من نحوِ نجدٍ بنافعي
أجلْ لا ولكنِّي علَى ذاكَ أنظرُ
أفي كلِّ يومٍ نظرةٌ ثمَّ عَبرةٌ
بعينيكَ يجري ماءها يتحدَّرُ
متى يستريحُ القلبُ إمَّا مُجاورٌ
حزينٌ وإمَّا نازحٌ يتذكَّرُ

ولبعض أهل هذا العصر:

كفى حَزناً ألا أُعاينَ بُقعةً
من الأرضِ إلاَّ زدْتُ شوقاً إليكمُ
وإنِّي متى ما طابَ لي خفضُ عيشةٍ
تذكَّرتُ أيَّاماً مضتْ لي لديكمُ
فنغَّصَ تَذكاري لها طيبَ عيشَتي
فقلتُ سيفْنَى ذا فيأسى عليكمُ

وقال آخر:

لئنْ درسَتْ أسبابُ ما كانَ بيننا
منَ الوصلِ ما شوقي إليكِ بدارسِ
ولا أنا منْ أنْ يجمعَ اللهُ بيننا
علَى جُمْلِ ما كنَّا عليهِ بيائسِ

وقال آخر:

خليليَّ لا تستسلما وادعوا الَّذي
لهُ كلُّ أمرٍ أنْ يصوبَ ربيعُ
حياً لبلادٍ طيَّرَ المحْلُ أهلها
وجبراً لعظْمٍ في شظَناهُ صدوعُ
عسى أنْ يحلَّ الحيُّ جرعاءَ وابلٍ
وعلَّ النَّوى بالظَّاعنينَ تريعُ
أفي كلِّ عامٍ زفرةٌ مُستجدَّةٌ
تضمَّنُها منِّي حشًى وضلوعُ

وقال أبو تمام:

إذا بنْتَ لم أحزَنْ لفقدِ مُفارقٍ
سواكَ ولمْ أفرحْ بقربِ مُقيمِ
فيا ليتني أفديكَ من غُربةِ النَّوى
بكلِّ خليلٍ واصلٍ وحميمِ

وقال آخر:

إذا كنتَ لا يُسليكَ عمَّنْ تحبُّهُ
فراقٌ ولا يشفيكَ طولُ تلاقِ
فهلْ أنتَ إلاَّ مُستعيرٌ حُشاشةً
بمهجةِ نفسٍ آذنتْ بفراقِ

وقال يزيد بن الطثرية:

ولمَّا رأيتُ البِشرَ قد حالَ دونهمْ
ووافَتْ بناتُ الصَّدرِ يهوينَ نُزَّعا
تلفَّتُّ نحوَ الحيِّ حتَّى رأيتُني
وجعْتُ منَ الإصغاءِ ليتاً وأخدعا

وقال ابن الدمينة:

حننْتُ لذكرى منْ أميمةَ وارْعوى
لها من قديماتِ الهوَى كلُّ سالفِ
حنيناً ولوعاتٍ يفضنَ لها سوى
بوادرِ غرباتِ الدُّموعِ الذَّوارفِ

وقال بعض الأعراب:

فلا تُشرفنْ رأسَ اليفاعِ فإنَّني
لدى الشَّوقِ من رأسِ اليفاعِ قديرُ
إذا شرفَ المحزونُ بشراً رأيتهُ
يُسكِّنُ أحشاءً تكادُ تطيرُ

وقال الحسين بن مطير:

إذا ارتحلتْ منْ ساحلِ البحرِ رِفقةٌ
مشرِّقةٌ هاجَ الفؤادَ ارتحالُها
فإنْ لا يُصاحبْها يُتبِّعْ بأعينٍ
سريعٍ برقراقِ الدُّموعِ اكتحالُها

وقال أيضاً:

أحنُّ ويثنيني الهوَى نحوَ يثربٍ
ويزدادُ شوقي كلَّ ممسًى وشارقِ
كذاكَ الهوَى يُزري بمنْ كان عاشقاً
ونوْلُ الهوَى يحنو علَى كلِّ عاشقِ

وقال آخر:

فما سرْتُ من ميلٍ ولا بتُّ ليلةً
منَ الدَّهرِ إلاَّ اعتادني لكِ طائفُ
وكمْ من بديل قدْ وجدنا وطوْفةٍ
فتأبى عليَّ النَّفسَ تلكَ الطَّوائفُ

وقال زيادة بن زيد:

تذكَّرَ عنْ شحطٍ أُميمةَ فارْعوى
لها بعدَ إقصارٍ وطولِ نُكوبِ
وإنَّ امرءاً قدْ جرَّبَ الدَّهرَ لم يخفْ
تقلُّبَ عصريهِ لغيرُ لبيبِ
هلِ الدَّهرُ والأيَّامُ إلاَّ كما أرى
رزيَّةُ مالٍ أوْ فراقُ حبيبِ

ولبعض أهل هذا العصر:

إلى اللهِ أشكو عبرةً قد أظلَّتِ
ونفساً إذا ما عزَّها الشَّوقُ ذلَّتِ
تحنُّ إلى أرضِ الحجازِ ودونها
تنائفُ لو تسري بها الرِّيحُ ضلَّتِ
وإنِّي بها لو لا أماني تغرُّها
وقد أرجفتْ هوجُ المطايا وكلَّتِ
أأمنعُ منْ وادي زُبالةَ شربةً
وقدْ نهِلتْ منهُ الكلابُ وعلَّتِ
سقى اللهُ رملَ القاعِ والقاعَ فاللِّوى
فقدْ عطفَتْ نفسي إليهِ وحنَّتِ
وأسقى لِوى جبليْ زرودَ ومُرْبخاً
سحائبُ لا يلقى الظَّما ما أظلَّتِ
هممْتُ فلمْ أربعْ علَى الفكْرِ لحظةً
وقد كانَ حظُّ النَّفسِ أنْ لو تأنَّتِ
وأصبحتُ لهْفاناً علَى ما أضعتهُ
كذاكَ يكونُ الرَّأيُ ما لم يُثبَّتِ