كتاب الزهرة/الباب السادس عشر من لم يعاتب على الزلة فليس بحافظ للخلّة


الباب السادس عشر من لم يعاتب علَى الزَّلَّة فليس بحافظٍ للخُلّة

المعاتبة على الذُّنوب من المحبِّ والمحبوب قد تجري على ضروب فمنها معاتبة استتابٍ تقع على الارتياب ليزول الشَّكّ بما يجري فيها من الجواب ومعاتبة تقع بعد اليقين يقصد بها العاتب إلى أن يعلم هل من ذلك الذَّنب عذر أم هو داخل في باب الغدر ومنها معاتبة توقيف تجري على جهة التَّعنيف وهذه حال لا تكاد تجري بين المتحابَّين إلاَّ عند انقطاع الحال بينهما أوْ عند ضجرة شديدة تلحقهما أوْ تلحق أحدهما وأحمد أحوال العتاب صيانة الحال عن أن يجري فيها شيء من الاختلال بقيا على المذنب لا بقيا على المؤنِّب وترك جميع المعاتبة يدخل في باب الإهمال والموقِّف على كلِّ ذنب يوجب قطع المواصلة واتّصال العتب.

قال الحسن بن هانئ:

مُنقطعٌ عنكَ كانَ متَّصلاً
أوْ نازلٌ بالفِناءِ فارتحلا
قد كانَ في الحقِّ أن يقالَ لهُ
ماذا دعاهُ إلى الَّذي فعلا
ما عدلَ النَّاسُ عنكَ لي أملاً
إلاَّ ثناهُ الرَّجاءُ فاعتدلا

وقال آخر:

حيِّ طيفاً من الأحبَّةِ زارا
بعدَ ما صرَّعَ الكرى السُّمَّارا
قالَ إنَّا كما عهدْتَ ولكنْ
شغلَ الحيُّ أهلهُ أن يُعارا

ولبعض أهل هذا العصر:

يا أخي كمْ يكونُ هذا الجفاءُ
كمْ تشفَّى بهجركَ الأعداءُ
صارَ ذا الهجرُ لي غذاءً ولكنْ
رُبَّما أتلفَ السَّقيمَ الغِذاءُ
سيِّدي أنتَ أينَ ذاكَ الصَّفاءُ
أينَ ذاكَ الهوَى وذاكَ الوفاءُ
أنتَ ذاكَ الأخُ القديمُ ولكنْ
ليسَ هذا الإخاءَ ذاكَ الإخاءُ
لي ذنوبٌ ولستُ أُنكرُ فاغفرْ
فالتَّجنِّي علَى المقرِّ اعتداءُ
لي حقوقٌ أيضاً عليكَ ولكنْ
ذكرُ مثلي لمثلِ هذا جفاءُ

وقال البحتري:

وكنتُ إذا استبْطأتُ وُدَّكَ زرتهُ
بتفويفِ شعرٍ كالرِّداءِ المُحبَّرِ
عتابٌ بأطرافِ القوافي كأنَّهُ
طِعانٌ بأطرافِ القنا المُتكسِّرِ

وقال آخر:

فلا عيشٌ كوصلٍ بعدَ هجرٍ
ولا شيءٌ ألذُّ منَ العِتابِ
تواقفَ عاشقانِ علَى ارتقابٍ
أرادا الوصلِ منْ بعدِ اجتنابِ
فلا هذا يملُّ عتابَ هذا
ولا هذا يملُّ منَ الجوابِ

وقال آخر:

ألهْفَ أبي لمَّا أدمْتُ لكَ الهوَى
وأصفيتُ حبِّي فيكَ والوجدُ ظاهرُ
وجاهرْتُ فيكَ النَّاسَ حتَّى أضرَّ بي
مُجاهرتي يا ويلَ فيمنْ أُجاهرُ
وكنتَ كفيْءِ الغصنِ بينا يظلُّني
ويعجبُني إذْ زعزعتْهُ الأعاصرُ
فصار لغيري واستدارتْ ظلالهُ
سوايَ وخلاَّني ولفحَ الهواجرِ

ولبعض أهل هذا العصر:

إذا اشتدَّ ما ألقاهُ هوَّنَ علَّتي
رضايَ بأنْ تحيى سليماً وأسقَما
فيا منْ يزيلُ الخوفَ عنِّي وفاؤُهُ
بعهدي ومنْ لولاهُ لم أُمسِ مُغرَما
أكانَ جميلاً أن ترانيَ مُهملاً
وتسكُتَ عن أمري ونهْيي تبرُّما
سأرعاكَ إنْ أكرمْتَني أوْ أهنْتَني
وحسبُكَ نُبلاً أن تُهينَ وتُكرِما
وإنِّي لأستحْيي من الله أن أرى
ظَلوماً لإلفي أوْ أرى مُتظلِّما
سآخذُ من نفسي لنفسكَ حقَّها
وأصفحُ إن لم ترعَ عهدي تكرُّما
وما بيَ نفسي وحدها غيرَ أنَّني
أصونُ خليلي أن يجورَ ويظلِما
ولو قيلَ لي اخترْ نيلَهُ أوْ صلاحهُ
لآثرْتُ أن يُعصى هوايَ ويسلما
وقد كنتَ أولى بي من الشَّوقِ والهو
ى وقد كنتَ أمضى في الضَّميرِ مُتمِّما
فما ليَ قد أُبعدْتُ حتَّى كأنَّني
عدوٌّ وقد كنتُ الحبيبَ المُقدَّما

وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه:

يا سعدُ لم أذخرْ عليكَ مودَّةً
أنتَ المُقرُّ بها وأنتَ الجاحدُ
أشْكيتَني فشكوْتُ لا مُتشاكياً
وزعمْتَ أنِّي إذْ شكوتُكَ حاسدُ
ولئنْ حُسدْتُ عليكَ إنَّكَ لَلَّذي
حُسدتْ عليهِ أقاربٌ وأباعدُ
وزعمْتَ أنِّي لائمٌ لكَ عاتبٌ
وقصائدي بالذَّمِّ فيكَ شواهدُ
لؤُمَتْ إذنْ منِّي الخلائقُ واعتدى
بالحمدِ من هوَ قائمٌ بيَ قاعدُ
أنِّي أذمُّكَ يا سعيدُ وإنَّما بالمجدِ
منكَ إذا فخُرْتُ أُماجدُ
إن كان قلبكَ فيَّ مُشتركَ الهوَى
فالقلبُ منِّي فيكَ قلبٌ واحدُ
كنْ كيفَ شئتَ فإنَّني بكَ واثقٌ
ولئنْ ذممْتُكَ إنَّني لكَ حامدُ

وقال العرجي:

أقولُ لها والعينُ قد جادَ غربُها
وقد كانَ فيها دمعُها قد تردَّدا
أريْتُكِ إذْ أعرضْتِ عنِّي كأنَّما
تُلاقينَ من حيَّاتِ بيتان أسودا
أأسلاكِ عنِّي النَّأيُ أمْ عاقكِ العِدى
وما افترقوا أمْ جئتِ صرمي تعمُّدا
ألمْ أكُ أعصي فيكِ أهلَ قرابتي
وأُرغمُ فيكِ الكاشحَ المُتهدِّدا
فقالتْ ضننْتُ الوصلَ منكَ ولَلَّذي
جشمْتَ إلينا كان أدنى وأزهدا
لأشياءَ قد لاقيتُها فيكَ لم يكنْ
ليُحصيَها من منَّ وصلاً وعدَّدا
وإعراضُنا عنكُمْ فغيري بهِ بدا
فلمَّا أرادتْ عنكَ نفسي تجلُّدا
رجعْتُ إلى نفسي فعادتْ بحلْمها
عليكَ فلمْ تُرضي بصرمكَ حُسَّدا
إذا أمَّلوا وشكَ اهتجارٍ فأخفقوا
بهِ اليومَ فينا أمَّلوا هجرنا غدا
فكُنْ لِلَّذي تهوى وأغلظْ علَى الَّذي
قلاكَ وعوِّدْهُ الَّذي قد تعوَّدا
ولا تحسبنْ صرمَ الصَّديقِ مروءةً
ولا مُدركاً بالصَّرمِ ما عشتَ سُؤددا

وكتب بعض أهل هذا العصر إلى أخ له يستأذنه في شكره:

أتأذنُ لي يا مُتُّ قبلكَ في الشُّكرِ
فأشكرَ أم تنهى فأُغضي علَى صُغْرِ
وإنِّي لمُحتاجٌ إنَ انتَ أذنتَ لي
إلى العذرِ أيضاً من مجاوزتي قدري
فما حقُّ مثلي أن يُرى لكَ شاكراً
ولا مثلُ ما أُوليتُ يُشكرُ بالشِّعرِ
فرأيَكَ فيمنْ لا يرى نفسهُ إذا
عتبتَ عليها أهلَ شُكر ولا عُذرِ

فلم يأذن له في ذلك وكتب يعاتبه:

أفي العدلِ أن تنهى أخاكَ عنِ الشُّكرِ
وينأى فلا يُنهى عنِ النَّأيِ والهجرِ
أجلْ أنَّ ذا عدلٌ علَى الصَّبِّ في الهوَى
إذا كانَ لا يُنجيهِ منهُ سوى العُذرِ
أيجملُ في حقِّ الجوارِ دعِ الهوَى
أنَ ابقى علَى ظهرِ العشاءِ إلى الفجرِ
أُراعي نجوماً لم أُوكَّلْ برعْيِها
وأُذكي هوًى في القلبِ أذكى منَ الجمرِ
وأنتَ أخٌ لي قادرٌ أنْ تزيلَ ما
أُقاسيهِ لا تدري بما بيَ أوْ تدري
تبيتُ خليَّ القلبِ ممَّا أجِنُّهُ
كما أنا خِلوٌ في هواكَ منَ الصَّبرِ
وإنِّيَ أدري أنَّ في الصَّبرِ راحةً
ولكنَّ إنفاقي علَى الصَّبرِ من عُمري
أراني إذا واصلتُ ساءتْكَ عِشرتي
وإنْ غبتُ لم أخطرْ ببالٍ ولا فكرِ
أحينَ تناهى الودُّ واتَّصلَ الهوَى
وصرتَ شريكي في السَّريرةِ والجهرِ
مللتَ إخائي واطَّرحتَ مودَّتي
وأقصيتني حتَّى تحيَّرتُ في أمري

وله أيضاً:

جُعلتُ فِداكَ قد طالَ انعطافي
إليكَ وأنتَ قاسي القلبِ جافي
وليسَ أخاكَ من يرعاكَ كُرهاً
ولا البادي بوصْلكَ كالمُكافي
فإنْ ترعَ الأمانةَ لا أُضِعْها
وإنْ لا ترعَ يوحِشكَ انصرافي
يطولُ عليكَ أن تلقى خليلاً
تطولُ عليهِ أيَّامُ التَّصافي
مخافةَ أنْ يملَّكَ باجتماعٍ
فيرضى من نوالكَ بالكفافِ
فإنْ يكُ ذا الصُّدودُ صدودَ عتْبٍ
وأنتَ علَى المودَّةِ والتَّوافي
إذنْ فتلافني من قبلِ يأسٍ
يولِّدُ ما يجلُّ عنِ التَّلافي
وإلاَّ فاطَّرحْ وُدِّي وأجملْ
بتعريضٍ من التَّصريحِ كافي
متى يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ
إذا كانَ الضَّنى درْكَ المُعافي

وقال بعض الأعراب:

وأُنبئتُ ليلى أرسلتْ بشفاعةٍ
إليَّ فهلاَّ نفسُ ليلى شفيعُها
أأكرمُ من ليلى عليَّ فتبتغي
بهِ الجاهَ أمْ كنتُ امرءاً لا أطيعُها

وقال الحسين بن الضحاك:

أما ناجاكَ بالنَّظرِ الصَّحيحِ
وأنَّ إليكَ من قلبٍ قريحِ
فليتكَ حينَ تهجرُهُ ضِراراً
تمنُّ عليه بالقتلِ المُريحِ
بحُسنكَ كانَ أوَّلُ حُسنِ ظنِّي
وما ينهاكَ حُسنكَ عن قبيحِ
وما تنفكُّ مُتَّهماً لنُصحي
بنفسيَ نفسُ مُتَّهمِ النَّصيحِ

وقال آخر:

إلى كمْ يكونُ الصَّدُّ في كلِّ ساعةٍ
وكمْ لا تملِّينَ القطيعةَ والهجرا
رُوَيدكِ إنَّ الدَّهر فيهِ بلاغةٌ
لتفريقِ ذاتِ البينِ فانتظري الدَّهرا

وقال يزيد بن الطثرية:

علَى حينِ صارمتُ الأخلاَّءَ كلَّهُمْ
إليكِ وأصفيتُ الهوَى لكِ أجمعا
وزدْتُكِ أضعافاً وغادرتُ في الحشا
عظامَ البلايا بادياتٍ ورُجَّعا
جزيتُكِ فرضَ الودِّ ثمَّتَ خِلْتُني
كذي الشَّكِّ أدنى شكَّهُ فتطوَّعا
فلمَّا تنازعنا سقاطَ حديثِها
غشاشاً فلانَ الطَّرفُ منها فأطمعا
علَى إثر هجرانٍ وساعةِ خلوةٍ
من الناسِ نخشى غُيَّباً أنْ تطلَّعا