مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/مستقبل الدولة العثمانية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/مستقبل الدولة العثمانية

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 2 - 1913



لا سلطان إلا برجال ولا رجال إلا بمال ولا مال إلا بعمارة ولا عمارة إلا بعدل

وحسن سياسة

حكمة عربية

قال لامارتين: الإمبراطورية العثمانية تنقض اليوم لبنة بعد لبنة ويوشك أن تخلي اليوم أو غداً أقاليمها الواسعة فتتركها بلاقع قفراً من السكان. نهباً للتشعث واللوضي. ولا حاجة إلى التعجيل بتقويض هذا التمثال العظيم بدفعة يد أو لمسة بنان. فإنه ينهدم طوعاً أو كرهاً، ويتداعى لوهن سرى في أجزائه، واستقر في بنائه، وتخلخل لسنا نعرف إلى من نعزوه، ولا هو مما يستطاع الاحتيال على تدعيمه أو يقدر الترك أو أوربة على تقويمه.

كتب لامارتين هذه الكلمات سنة 1835. عقب حروب توالت بين الدولة وهذه الدول الناشئة التي تصاولها اليوم، ولكنها لم تكن حرب الطامع النهم أو إغارة الجائع الملتهم، بل كانت تملص مأسور يجاهد سلاسل الأسر.

وثورة مقهور ينحي عن كاهله نير الذل والقهر. ثم دعا الدول إلى عقد مؤتمر تتفق فيه على تقسيم أسلاب آل عثمان وتفريق تلك البقاع الخصبة بين أبناء آدم ليعمروا خرابها ويستغلوا يبابها. ويتيمموا منها صعيداً رق هواؤه وتدفق ماؤه. فيتكاثر عددهم ويعيشون هنالك آمنين في ظل أوربة.

ولا أحسب أنه كان يدور بخلد لامرتين يومئذ أن ذلك التمثال العظيم سيبقى بعده قائماً يقرقع ولا يسقط، ويظل إلى العام وهو يتصدع ثم لا يهبط فكيف إذا رآه اليوم وقد اشتكرت حوليه زعازع الخطوب، واشتجرت حفافيه مطامع الشعوب. .

وما كان لامرتين بأشد تطيراً من كثير من القاطنين في هذه الأيام. فإنك قلّ أن تصادف من لا يقول لك: لقد نزلت الطامة الكبرى، وآن لهذا الهلال أن يطوى. وغنه قد حق على هذه الدولة أن تمحى. ثم يقول إنما نحن نشهد اليوم في شرق أوروبة ما شهده الناس من قبل في غربها غير أن الأندلس قد خلفت بعدها من لو شاء لاعتبر بمصيرها. فهل يبقى منا بعد اليوم من يعتبر بمصيرنا ويتعظ بتفريطنا. .

كذلك زلزلت الصدمة قلوب العثمانيين فيئسوا من الدنيا كأن أوربة هي كل الدنيا. ولو ك الدولة العثمانية شجرة لا تنبت إلا في أوربة لحق لهم أن لا يرجوا منها بعد الآن ثمراً. ولكنها شرقية المنبت، وهذه أرومتها لا تزال في الشرق. وما هذه الولايات الأوربية إلا فروع منها لا يميتها انفصالها منها. وقد كان يمكن أن يدور التاريخ دورة غير التي دارها. فلا تتحول أنظار محمد الفاتح بتة إلى القسطنطينية، ولا يركض للترك جواد في بطاح مقدونية، أو يمخر لهم أسطول في بحر الروم، أو يتوغل منهم سلطان في أحشاء الغرب، وكان يكون لهم مع ذلك دولة ولواء، ويتسع لهم في آسيا أمة آسيوية بحتة، كاليابان في شرقها، وهل أذهبت عزلة هذه عن أوربة شيئاً من فخامة ملكها وعزة شأنها. .

فإن كان قد دار التاريخ دورته وقضى الأمر، فلتكن هذه القرون الستة فترة التيه عند بني عثمان، وليثوبوا إلى موطنهم الذي فيه درجوا ومنه خرجوا، وإن ما جاز بالأمس لا يستحيل اليوم، فليست هذه السنة آخرة دورات الفلك، ولئن استحال ذلك كما قد يرى القانطون، فإنما هو محال في أوربة وآسية على السواء.

لا نزعم أن المسألة تافهة هينة، ولكننا لا نظن كذلك أننا عند فراش محتضر طال به النزع، ولا أننا بين يدي شيخ فإن يتوكأ على عصا الشيخوخة إلى حافة القبر، ولا نتربص الموت بهذا الرجل المريض بل قد نرى فيه من الحيوية ما يعمر به إلى ما شاء الله. إذا سوعف بما ينفعه من الدواء.

قال ابن خلدون الدولة في الغالب لا تعدو أعمار ثلاثة أجيال والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط فيكون أربعين الذي هو انتهاء النمو والنشوء إلى غايته ثم قال: ولهذا يجري على السنة الناس في المشهور أن عمر الدولة مائة سنة.

ولا ريب أن ابن خلدون كان يكتب فصله هذا وهو إنما يحضره خيال تلك الدول العربية التي توارثت الملك دولة بعد دولة، ولا ينظر إلى قيام العباسيين تلو الأمويين، وتعاقب العروش الأفريقية والأندلسية بين السلائل المغربية. وكان لم يئن بعد لعمراني العرب أن ينظر إلى الأمة دون الدولة، لأنه لم يكن للأمة في تلك العهود وجود منفصل عن وجود الدولة، فكان شباب الأمة أو هرمها عنده لا يعرف إلا بالنظر إلى قدرتها على إمداد الدولة بالجند ونشاطها إلى الحرب وراء الفاتحين من ملوكها. فإذا استطاع الملك أن يستجلب الجند من غير أمته فالدولة فتية شابة، ولا شأن لحياة الأمة في عمر دولتها ما دام للملك جند متأهب للحرب يلبي نفيره، ويتبع ركابه. وما دامت الجبهة نقية من الغصون، فلا حاجة إلى فحص الجسم في حكم ابن خلدون.

وقد نظر إلى دولة الترك في أيامه هذه النظرة، ولو أنه عاش حتى يرى دولتهم تتجاوز المئة إلى المئين لما غير حكمه ولكان يرى أنها داوت هرمها باستجلاب الجند من غير جلدتها. وذلك كقوله: وربما يحدث في الدولة إذا طرقها الهرم بالترف والراحة أن يتخير صاحب الدولة أنصاراً وشيعةً من غير جلدتهم ممن تعودوا الخشونة فيتخذهم جنداً يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها حتى بإذن الله فيها بأمره. وهذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق فإن غالب جندها الموالي من الترك، فتتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرساناً وجنداً، فيكونون أجرأ على الحرب وأصبر على الشظف من أبناء المماليك الذين كانوا قبلهم وربوا في ماء النعيم والسلطان وظله.

وكيف كانت قاعدة ابن خلدون قاصرة عن الانطباق على أطوار الفتوة والهرم في الأمم الحاضرة، فلا مراء أنه قد أصاب شاكلة السداد في حكمه على دولة الترك، فإنها كانت إلى ما قبل اليوم ببضعة أعوام دولة دعامتها الجند وأساسها سلطة الحكومة، فلما دب الوهن إلى حكومتها، وتضعضت قواها الفاتحة. لم ينشب أن قعد بها العجز وتضاءلت سطوتها. ولكنها الدولة التي شاخت وليست الأمة، لأنها كانت تتلقى الصدمات منفردة، وكان لا يصيب أمتها من تلك الصدمات إلا ما لا بد منه في أمة تغفل حكومتها عن رعايتها وتدريب قواها الحيوية.

وقد اتفق ماكيافيلي وابن خلدون في تعيين مركز القوة من دولة الترك. لأنهما نظرا إليها من نقطة واحدة. وماكيافيلي عند الطليان كابن خلدون عند العرب. وكلاهما قد أخذ قضاياه عن أحوال الإمارات القديمة. فجاءت مقدمة ابن خلدون وكتاب ماكيافيلي الذي وسمه باسم الأمير على اتفاق غريب في وصف أنواع الحكومات. ومناشئ المنعة والانحلال فيها. لاسيما كلامهما عن الممالك الدينية والعسكرية. وكان عبد الحميد يكثر درس كتاب ماكيافيلي درس مستفيد وأمر بنقله إلى اللغة التركية. ولعله أخذ منه كثيراً من خططه السياسية التي أشار بها الرجل على الملوك المستبدين. قال ماكيافيلي بعد كلام عن الفرق بين تذليل الممالك المطلقة والممالك التي للشرفاء قسط من الحكم فيها: لهذا يعاني من يهاجم الترك مشقة عظيمة ولكنه متى قهرهم فليس أهون عليه من حفظ ما اغتصبه من ملكهم. وسبب هذه المشقة أن المهاجم لا يجد في مملكة الترك أميراً أو نبيلاً يدعوه إلى اقتحام المملكة ويؤازره على خلع السلطان. ولا ينتظر أن يستفيد من انتقاض بعض أتباع السلطان عليه. لأن وزراءه وولاته كلهم من صنائعه وخدمه. فلا يسهل إغراؤهم عليه. وإذا تم للمغير استمالة بعضهم فليس من الحزم أن يترقب من هؤلاء كبير فائدة. لأنهم عاجزون عن ضم الشعب إليهم للسبب المتقدم. ولذلك كان حتماً أنو يوقن من يشاء الزحف على الترك من أنه واجدهم يداً واحدة. وعليه أن يعتمد على عدته وجيشه أكثر من اعتماده على الدسائس الداخلية. فإذا تهيأ له الغلب عليهم وتشتيت شمل عسكرهم بحيث لا يبقى من يستطيع أن يجمعهم لمدافعته فقد استقر له الأمر وليس عليه أن يخشى إلا من أقرباء السلطان وأعضاء أسرته. فأما غيرهم من حشم السلطان وأتباعه فلا اعتماد للشعب عليهم ولا هو ينقاد إليهم. وكما أن المغير لم يعول على تعضيدهم قبل الفتح فليس عليه أن يرهب بأسهم بعده.

كان هذا شأن الدولة العثمانية لعهد ماكيافيلي أي في أيام سليم الأول وهي بعد في جن صباها وريعان فتوتها. فأما بعد ذلك فقد كانت الفتن الداخلية أشد على الدولة من أعدائها. ولا يعنينا من قول ماكيافيلي المتقدم إلا أن الحكومة هي مركز القوة في الممالك العسكرية المطلقة وأن الهزيمة تقع في تلك الممالك على رأس أولى السلطة دون سواهم - والانحلال الطبيعي في حكم الهزيمة من هذه الوجهة. أي أن أعراضه تظهر على الدولة دون الأمة؟؟

ولا يختلف اثنان في أن الدولة العثمانية قد تطرق إليها الهرم، وأنها ليست تلك الدولة الفاتحة التي عرفها الناس قديماً. ولا يمكن أن تعود كذلك فى يوم من الأيام. فهل اتصل الهرم بشعوبها منها وخمدت فيها جذوة الحياة. فلا عزم فيها يوري. ولا أمل عندها يرجى؟؟

ليس فى بوادر الشعوب العثمانية قاطبة ما ينبئ بشيخوخة أو انحلال، بل كلها لا تزال على حال الفطرة. لم تخثر طبائعها، ولم تفتر حرارتها ولا انتكست أخلاقها، وهذا التركي لم يفتأ شجاعاً جليداً كريم الطبع جم الأدب، والسوري لا تزال له خبرة الفينيقيين بالتحول على الكسب والسعي في طلب المعيشة، ولا يزال البدوي على عنجهيته الجاهلية وشرته الأولى، والكردي ما برح على عهده من يوم خلق، يغزو ويقنع بغفة من العيش، ولم يفقد الأرمني ما طبع عليه من الذكاء وسلامة النحيزة، فإن صح للعثماني أن يشكو عيباً في أمته فأدنى إلى الصواب أن يشكو منها الطفولة المرجوة، لا الشيخوخة الميؤسة.

فهذه عناصر الحياة والمنة متوفرة في الشعوب العثمانية، فهل يوفق حكامها إلى ضم أشتاتها ولم شعثها، وهل توائم الفرص هذه الطفولة فتنتقل إلى شباب غض وفتوة ناضرة؟؟

اقترح بعضهم فيما اقترحوه نظام اللامركزية ونحن نرى لمسألة اللامركزية وجهين، فهي من وجه منهما ضرورية لازمة، ومن الوجه الآخر فيها مجال للنظر.

فأما كونها ضرورية لازمة فيعززه ما هو معلوم من صعوبة تقدير نظام واحد لأمم وشعوب تختلف اختلافاً بعيداً في العادات والأخلاق والجنس واللغة والدين والموقع ومرافق الثروة والمصلحة المادية، واستحالة الأنافة على كل هذه الشؤن من مركز واحد بمعزل عما تشتمل عليه نفوس القوم من الرغائب وما هم مفتقرون إليه من المطالب، ويؤيده حق كل أمة في تصريف أمورها على الوجه الأوفق لها لاسيما في عصر اشرأبت فيه أعناق الأمم إلى الاستقلال واندفعت إليه بعزم لا تصده إلا قوة ليست فى يد الدولة الآن، وهي أحوج ما تكون إلى شد أزرها بقلوب رعاياها.

وأما مجال النظر فهو في تفاوت تلك الشعوب في الأهلية لحكم نفسها وتباينها فى الإخلاص للدولة. فإن منها ما لم يتعد بعد أبسط أنواع الحكومة البدوية. فلا يعقل أن يعهد إلى مثل هذه بسلطة كالتي تنالها أمة كالأمة. السورية أو التركية مثلاً. كما أن منها ما يكاد يحسب من جنس الأمة التركية. ومنها ما تجمعه بها وحدة دين أو عاطفة ولاء. ولا ينزع هؤلاء إلى الانشقاق عنها. وقد يغيرهم عليها تمييزها سواهم عنهم بهذه الحرية. هذا وربما هاج انفراد تلك الشعوب أطماع الدول التي تشتهيها فعجلت الوثبة عليها.

بيد أن مما لا مراء فيه أنه ليس من حسن السياسة ولا مما يوافق الدولة أن تقسر شعوبها على الاندماج في بنيتها قوة وغصباً. والعقل العصري لا يفهم من معنى الإخلاص أن يتقيد الشعب بالولاء لحكومة تحكمه لمصلحتها لا لمصلحته. وتضحي بشيء من حريته ومنفعته لغايتها لا لغايته. فإن لم يعتقد الشعب أنه يفيد من حكومته أكثر مما يفيده من سواها. وأنه يتمتع في ظلها بحرية لا يتمتع بأوسع منها في ظل حكومة أخرى. وأن بقاءه وارتقاءه آمن في تعلقه بها منهما في انفصاله عنهما فليس لتلك الحكومة حق ولاء عليه. وليس لها أن تتقاضاه الإخلاص والطاعة.

فليس للدولة العثمانية إلا خطة واحدة تجري عليها في حكم شعوبها كافة. وهي أن تربط مصلحتهم بمصلحتها وتقيم نفسها محوراً تدور حوله مرافق تلك الشعوب. وإنما يكون ذلك بمد السكك التجارية بين أجزائها وتبادل المعاملات الاقتصادية بين ولاياتها وممالكها. وتصيير عاصمة السلطنة سوقاً عامة للتجارة. ومرجعاً عالياً للعلم والصناعة. وكعبة مقصودة في الخوف والرجاء. والشدة والرخاء. وعليها أن تصرف أبصارهم عن التطلع إلى الخارج سياسياً ومادياً بتعمير داخلها. وبسط الأمن والحرية في أرجائها. حتى يعود درؤها المغير على بلادها ذياداً عن حريتها ورفاهتها. قبل أن يكون ذياداً عن سيادة دولتها.

ولا يستلزم هذا الإصلاح سن نظام اللامركزية بمعناه المطلق. بل قد يغني عنه في بادئ الأمر تخويل الولايات حقوق الإدارة الداخلية، مع مراعاة منزلتها من الرقي والكفاءة لتولي الأحكام، وأحسب أن توزيع السلطة على هذا النحو يربح الحكومة الرئيسية من المتاعب والمشاغل التي تملك عليها الوقت من جراء الخلافات العنصرية، ويحسم هذا النزاع القائم بين الأحزاب. وما كان قط نزاعاً حزبياً بالمعنى المعروف في البلاد الأروبية. ولكنه نزاع مداره على المنافسات العنصرية في سبيل إحراز الوظائف وامتيازات السلطة، فالاتحاديون كلهم من الترك أو ممن استهواهم الترك بالمواعيد والآمال، والائتلافيون عناصر شتى تجمعت لتعدل كفتها كفة الترك ويسمع كل منها صوته بلسان العناصر كلها، وما مبتغاهم جميعاً إلا الوظائف والسلطة، فإذا أحرز كل منهم قسطه منها في بلاده خفت وطأة نزاعهم عن الحكومة وتحولت أكثر مساعيهم إلى إصلاح تلك البلاد، وتجمعت قواهم في مواضعها بعد هذا التفرق الذي يذهب بمساعيهم أيدي سبا.

وهناك من زعماء العثمانيين من ينظر إلى الخارج أكثر من نظره على الداخل. فهؤلاء همهم الأول الانضمام إلى أحد الجانبين اللذين يتجاذبان النفوذ في أوروبة. ويقولون أنه ليس علينا الآن إلا أن نأمن العدو الأجنبي ثم نطمئن إلى إصلاح بلادنا. كأن تلك الدول ستتولى حراسة التخوم العثمانية بعد انضمام الدولة إليها، ثم تأخذ عن عاتقها مراقبة السياسة الخارجية!!.

نعم إن الأمن من جهة الخارج واجب من أكبر واجبات الدولة ولكن كيف يكون ذلك؟ أبا المحالفة؟

كلا! فإن المحالفة لا تؤكد للدولة إلا عداوة من تخالفه ثم إنها لا تكفل لها صداقة من تحالفه.

فإن محالفة بين الدولة والدول لا يمكن أن تبرم بميثاق صحيح، لأن قاعدة التحالف بين أوربا لهذا العهد أن تتعاون على ترجيح نفوذها وتغليب كلمتها في المشاكل السياسية. وليست الدولة صاحبة نفوذ في السياسة الدولية فترغب الدول في ودها. فهي إن حالفتها لم تنو إلا أن تأخذ منها ولا تعطيها أو تأخذ أكثر مما تعطي. فيكون التحالف إذن أشبه باتفاق بين السالب والمسلوب، وكلما جادت الدولة بأملاكها كان الإقبال على محالفتها أكثر.

وليعلم العثمانيون أن تلك الدول لا تعضدهم ولا تتخلى عنهم إلا لمصلحتها. فإن عنّ لها وجه المصلحة في تأييدهم نصرتهم سواء كانت معهم أو عليهم. أو عنّ لها وجه المصلحة في التخلي عنهم خذلتهم، سيان المحالف منها والمخالف.

فخير للدولة أن تدير شراعها من كل ريح من أن تتقيد بريح واحدة. وأنفع لها أن تكسب عطف الرأي العام في أوربة كلها من أن تكسب الود الظاهر من بعض حكوماتها. وقد كان يتعذر عليها ذلك أيام كان تاريخها مرتبطاً بتاريخ المنافسة بين الغرب والشرق والمسيحية والإسلام، وكانت في أوربة دولة شرقية غربية. ولكنها بطبيعتها الشرقية لم تصاحب أروبة في حركة التقدم الحديث، فبقيت دولة غربية شاذة في الغرب، وأعقبت لها تلك الذكريات ضغناً ونفوراً في نفوس القوم أشد مما تقتضيه المنافسة الضرورية بينهم.

فأما اليوم وقد رفعت يدها عن أكثر البقاع التي كان بقاؤها فيها يحرك تلك العداوة الموروثة فربما تيسر لها ما كان يتعذر عليها بالأمس.

ولسنا هنا في مقام رسم الخطط السياسية التي تتوخاها الدولة، ولكننا نجس نبضها ونتلمس فيها مدب الحياة الكامنة، ونشيم برق الفرص. وهنا مجال للثقة والريب، والأمل واليأس، فإن كان ذوو المآرب في فناء الدولة يرجحون جانب اليأس، فليكن جانب الأمل أرجح في قلوب آل عثمان ولئن كان الأمل على قدر الحاجة فليكن العمل كذلك على قدر الأمل. (العقّاد)