مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/نوابغ العالم

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/نوابغ العالم

ملاحظات: بتاريخ: 6 - 2 - 1913



ابن الرومي - الفيلسوف نيتشه

ابن الرومي

بقلم الأستاذ ابراهيم عبد القادر المازني

بسم الله الرحمن الرحيم

نسأل الله يقينا يعمر القلب ويملأ الصدر (وبعد) فهذا ما شحذت العزم على كتابته وحضضت على تقديمه من النظر في شعر أبي الحسن علي بن العباس المعروف بابن الرومي الشاعر المشهور وتاريخه والموازنة بينه وبين نظرائه وأكفائه من فحولة شعراء العرب والفرنج بما يستدعي ذكر أعيان قصائده ومقطعاته ويستوجب الشرح والملاحظة وتفسير ما يقع من كلام غريب ومعنى مستغلق حتى يكون المقال مكتفياً بنفسه ومستغنياً عن أن يرجع إلى أحد في تقريب بعيده، وبيان مستعجمه، وهو عمل لعمري غير أنه وعن المركب، كوؤد المطلب، وما أظن بك إلا أنك عالم بصعوبته، عارف باعتياضه وبعد مشقته، وإلا أنك قد مهدت لي العذر من ذي نفسك في التقصير والضعف وسائر ما عساه يقع من الارتباك والخلل، فقد وجدت، أصلحك الله، أكثر من ترجم ابن الرومي من الكتاب المتقدمين لم يستقصوا أخباره ولا توخوا الإحاطة بها أو ترتيب ما أثروا منها، ومن أين لنا أن نوفي القول في تاريخه وكل ما انتهى إلينا لا يبرد الغلة ولا يسد الحاجة، وكيف نقتني معالم سيرته ونتتبع نمو عقله ونستقري أطوار نفسه ونحن لا نعلم أي أخباره أسبق ولا نعرف عن كثير ممن اتصل بهم وصاحبهم وتقلب بينهم إلا أنهم عاشوا وماتوا كسائر الناس؟

ورأيت كذلك المؤرخين السابقين رحمهم الله قد أتحفونا بطائفة من فضائله ورذائله رواها بعضهم عن بعض بالتواتر، وليس من غرضنا أن ننفي ذلك أو نثبته، فإن لهذا وقتاً لا نستعجله، وإنما أود أن نقول أن هذا المذهب أشبه بالعمليات الحسابية منه بالتحليل الأخلاقي، وأنه ليس تصويراً للنفس ولكنه قياس لطول الصورة وعرضها، وشتان بين أن تجمع شتيت الصفات ثم تسردها واحدة واحدة وبين أن ترسم الخلق الحادث من تفاعلها واصطكاك بعضها ببعض، فإن مما لا شبهة فيه ولا ريب أن النفس الإنسانية ليست كخزانة الكتب ترى فيها الفضائل والرذائل مرصوفة مرتبة لا تعدو واحدة مكانها ولا تتجاوزه إلى سواه، وإنما هي ميدان لتلاقيها وتلاحمها، وعالم صغير تقضادم فيه الغرائز والملكات وتقتتل على الحياة والبقاء كما يحترب الناس في هذا العالم الكبير ويتنازعون البقاء فيما بينهم، وبحر تتسرب فيه الطبائع بعضها في خلال بعض كما تتسرب الموجة من الماء في خلال الموجة وتغيب في أثنائها.

وفي الحقيقة أن كتاب العرب ومؤرخيهم قصروا أشد التقصير وأسوأه في ترجمة شعرائهم وكتابهم وعلمائهم وعظماء رجالهم، ولم ينصبوا أنفسهم في هذا المعنى على كثرة ما ألفوا وصنفوا، ولا جؤا بشيء يضارع ما عدا أمم الفرنج منه، وإنك لتقرأ لأحدهم السفر الضخم ذا الأجزاء العديدة والحواشي والتعاليق، وتعاني في تصفحه من البرح والعنت ما تعاني، ثم لا تظفر إلا بأشياء لا تستحق ما عالجت في سبيلها من الشدة، وبذلت من الجهد وأنفقت في طلبها من الساعات والأيام، وقصص وأخبار لا تجد عليها طابع العقل وميسم التفكير، كأن لم يكتبها إنسان وهبه الله عقلاً وفهما. وفؤاداً ذكياً. وذهناً يتفكر. وقلباً يتدبر. أو كأنما كانوا يكتبونها وهم رقود.

لسنا نقصد إلى تنقص مؤرخي العرب والتسميع بهم، والوقوع فيهم وتحقير شأنهم. أو إلى تفضيل مؤرخي الفرنج عليهم، والتنويه بمفاخرهم، فإن هذا مالا يخطر لنا ببال ولا يسنح في فكر، وعلى أننا بعد لو قصدنا إلى شيء من ذلك التفضيل لا تسع لنا فيه نطاق المعذرة، ولبرأنا عقلاء القوم من اللائمة، فإن مما لا يخفى على أحد له أدنى معرفة أن مؤرخي العرب لم ينظروا إلا إلى الدولة دون الأمة، وإلى الحكومة دون الشعب، ولم يعنوا إلا بذكر الفتوحات والحروب وتعاقب الولاة، واختلاف الحكام، ولم يفطنوا إلى عظمة الشعر وجلال الأدب فطنة الغربيين لذلك، وهذه أسفارهم فليراجعها من شاء إن كان في شك مما نقول وليحكم عقله وليتجرد من الهوى، فإنه لا بد صادر عنها بآماله، وراجع بالخيبة وحبوط المسعى، ولعل للعرب بعد عذراً من زمانهم وأحوال أيامهم ونحن نلوم. . .

الإنسان وجهة الإنسان وموضع عنايته، وليس أدل على مدنيته واستئناسه من حبه للترجمة والتاريخ ولكفه بهما، على الرغم مما يدلي به لرد ذلك ودفعه، وأي شيء أحلى في القلب، وأثلج للنفس، وأشرح للصدر، من أن يساهم أحدنا شعور أخيه الإنسان، ويشاطره إحساسه، ويتغلغل نظره إلى قلبه، ويحيط بحركات نفسه. ويقف على ما يضطرب به جنانه. ويدور في خاطره، ويجري في ذهنه. بل أي شيء ادعى إلى طرب العقل وأبعث على لذة الفكر ومتعة الذهن من أن ينظر أحدنا بعيني أخيه ويرى العالم كما هو باد في مرآة عينه؟

تلك لذة لا تعادلها لذة، ومتعة أنعم بها من متعة، فأما من تغيرت قلوبهم على البشر، واعتقدوا للنوع البغض والعداء، وطووا أحناء الصدور على الكراهية والمقت والاحتقار، فلعمري إن هذا لمظهر من مظاهر حبهم للنوع وإخلاصهم له، وغنما غلبت عليهم السوداء، واسودت الدنيا في عيونهم وتنكرت لهم فتنكروا لها لا للناس وإن خيل غير ذلك، ثم لم يدروا كيف يجازونها بغضة ببغضة. ومقتاً بمقت، فانقلبوا على الناس إذ لم يصيبوا غيرهم ما يشفون منه غيظهم، فهم صديق في ثياب عدو!

قلنا أن من أظهر الأشياء في الإنسان حبه للتأريخ والترجمة وكلفه بهما وأنا لا نعرف معنى أجمع لصفات المدنية، ولا أدل على جماع الإنسانية من ميل المرء إلى ذلك، وتقليبه وجوه الرأي له، وتصريفه أعنة الفكر فيه، ونقول أن هذا الميل مركب في السلائق، ومركوز في الطبائع، وإن كل إنسان مؤرخ ببعض الاعتبارات. فإن أردت دليلاً على ذلك فانظر في من حولك وتدبر ما يجري بينهم من الكلام في متحدثاتهم ومجالس سمرهم، أليس أكثر ما يرد على السمع منه حكايات وقصص وأنباء، فمن ناقل إليك ما ترامى إليه من الأخبار، ومن مسر إليك بذات نفسه وما لقيه من المحنة والبلاد. وكيف عدلت عنه الأيام، ثم عطفت عليه،

وبينا نعمة إذ حال بؤس ... وبؤس إذ تعقبه ثراء

  • * *

ومن ولجد قد ألزم القلب كفه ... ومن طرب يعلو اليفاع ويشرف

ومستعبر قد أتبع الدمع زفرة ... تكاد لها عوج الضلوع تثقف

ومن لعب مجان يتداعب على الناس ويركبهم بالهزل والمزاح. ويروي لك النادرة المضحكة إثر الطريفة المستملحة، إلى آخر ذلك مما لا حاجة بنا إلى الإفاضة فيه، ثم تأمل الشعر، أليس شعوراً مترجماً، وقصة مروية، وخاطراً مجلواً؟، والعلوم بأنواعها، أليست مجموعة تجارب فهو أيضاً تاريخ للعقل الإنساني! وهل الحياة إلا قصة طويلة يمثل كل منها فيها دوره الذي خص به وقدر له، ثم يحدث الناس به؟

والمرء مدفوع إلى ذلك بعاملين أحدهما علمي والثاني شعري. فأما أنه لا يزال يحاول أن يطلع على نفس أخيه الإنسان ويستكشفها مسوقاً إلى ذلك بدافع علمي، فلأن الطبيعة قد اختصت كل أحد بمسألة من مسائل الوجود هو مسؤل أن يحلها على الوجه الذي يبدو له، ولو لم يكن من ذلك إلا كيف وفق بين جسمه وروجه. وكيف عالج هذا في سبيل ذاك وأراد ذلك على طاعة هذا لكان ذلك حسبنا دافعاً وسائقاً مستحثاً. . إلا أن العامل الشعري أقوى دفعاً وأشد حملاً للنفس وإغراء لها وحضاً. فإن هذا التنازع بين الإرادة البشرية والحاجة المادية هو الشعر ولا شعر إلا به، وما زال العنصر الشعري في النفس أقوى من العنصر العلمي وأظهر وأن كانا في الحقيقة مظهرين مختلفين لشيء هو في جوهره واحد،. . . وكذلك ينظر أحدنا بعيون الناس فتكتحل عينه بعوالم متباينة، ويشاطرهم إحساسهم. فيحيا حياتهم كما يحيى حياته، وكأن كل واحد مرآة مجلوة - علمية شعرية - طبعية سحرية - نود لو أتيح لنا أن نرفع ما أرسل عليها من الحجب لنرى فيها وجوهنا ونبصر في صقالها نفوسنا. ونستبين في نورها أغمض أسرار الضمير وأخفى طوايا الصد،. . .

(وبعد) فلا يحسبن أحد أن الأمر ينتهي عند هذا القدر، ويقف عند هذا الحد، فإنه أكبر من ذلك وأعظم، والمسألة أدق وألطف، وما في النفس ميل أعرق، ونزعة أثبت من هذه النزعة الإنسانية التاريخية. لأن الإنسان كما قدمنا وجهة الإنسان في كل شيء، ومن أحل هذا تجد عنايته به شديدة، واهتمامه بآثاره كبيراً، وإجلاله لقدرها عظيماً، ومن أجل هذا أيضاً لا ينفك أحدنا وهو ينظر في قصيدة الشاعر أو رسالة الكاتب يحاول أن يصور لنفسه روحه التي كانت تحفزه، وعقله الذي أملى عليه وأوحى إليه، ومن ذا الذي لم تذهله عن نفسه قصيدة من الشعر حتى تجرد من نفسه، وتغري من شخصيته واعتاض منهما نفس الشاعر وشخصيته وروجه وعقله، وأي معنى في ظنك لهذا التجرد الوقتي؟. . . بل أي متعة ألذ من هذه الغيبة وأشهى وأطيب على رغم أنف النقادة الذين لا يفتأون يطلبون أن يتجرد المرء من إنسانيته ليتجرد من الهوى، وليكون أصح حكماً، وأصدق نظراً. كأن قيمة الشعر لا تقدر أيضاً على حسب اللذة المستفادة منه؟

كذب النقادة وصدق الإنسان! ولعمر النقادة لو أن قصيدة ابن الرومي التي يقول في مطلعها:

أجنت لك الوجد قضبان وكثبان ... فيهن نوعان تفاح ورمان

وفوق ذلك أعناب مهدّلة ... سود لهن من الظلماء ألوان

وتحت هاتيك عناب تلوح به ... أطرافهن قلوب القوم قنوان

غصون بان عليها الدهر فاكهة ... وما الفواكه مما يحمل البان

ونرجس بات ساري الطلّ يضربه ... وأقحوان منير النور ريان

ألفن من كل شيءٍ طيب حسن ... فهن فاكهة شتى وريحان

ثمار صدق إذا عاينت ظاهرها ... لكنها حين تبلو الطعم خطبان

بل حلوة مرة طوراً يقال لها ... شهد وطوراً يقول الناس ذيفان

يا ليت شعري وليت غير مجدية ... إلا استراحة قلب وهو أسوان

لأي أمر مراد بالفتى جمعت ... تلك الفنون فضمتهن أفنان

تجاورت في غصون لسن من شجر ... لكن غصون لها وصل وهجران

تلك الغصونن اللواتي في أكمتها ... نعم وبؤس وأفراح وأحزان

يبلو بها الله قوماً كي يبين له ... ذو الطاعة البر ممن فيه عصيان

وما ابتلاهم لا عنات ولا عبث ... ولا الجهل بما يطويه إبطان

لكن ليثبت في الأعناق حجته ... ويحسن العفو والرحمن رحمن

ومن عجائب ما يمني الرجال به ... مستضعفات لنا منهن أقران

مناضلات بنبل لا يقوم له ... كتائب الترك يزجيهن خاقان

مستظهرات برأي لا يقوم له ... قصير عمرو ولا عمرو ووردان

من كل قاتلة قتلى وآسرة ... أسرى وليس لها في الأرض أثخان

يولين ما فيه أغرام وآونة ... يولين ما فيه للمشغوف سلوان

ولا يدمن على عهد لمعتقد ... أني - وهن كما شبهن بستان

يميل طوراً بحمل ثم يعدمه ... ويكتسي ثم يلفى وهو عريان

حالاً فحالاً كذا النسوان قاطبة ... نواكث دينهن الدهر أديان

يغدرن والغدر مقبوح يزينه ... للغاويات وللغاوين شيطان تغدو الفتاة لها خل فإن غدرت ... راحت ينافس فيها الخل خلان

نقول لو أن هذه القصيدة لم تكتبها يد الشاعر أو يد سواه من الناس وإنما ارتسمت حروفها على صفحة الطرس من تلقاء نفسها، ونبتت شطورها في ثرى القرطاس بفعل الهواء وتأثير الجو، كما تخضر الأرض جادتها ديمة سمحة القياد سكوب أكان يكون لها في تقديرك ما لها من الواقع، أم كنت مبوئها أخص موضع بين غيرها من القصائد البشرية كما أنت اليوم صانع بها؟ كلا!

تدبر ذلك تدبر من شأنه التوق إلى أن يعرف الأشياء على حقائقها، ويتغلغل إلى دقائقها، ويتجافى بنفسه عن مرتبة المقلد الذي يجري مع الظاهر، ومنزلة المكابر الذي يخطئ كل قول، ويعيب كل رأي، فإنه باب كثير المحاسن، جم الفوائد، يؤنس النفس، ويثلج الصدر، بما يفضي بك إليه من المعرفة، ويؤديه إليك من التبيين،. . . أو ما ترى الناس يأتون في كل عام إلى الأهرام، وما أظنها أروع جلالاً، وأبرع تكويناً، وأفتن جمالاً، ولا أدل على القدرة من جبال (الهملايا)؟. . .

ثم ألا ترى كيف تجاوز البحتري جبال لبنان وهضبها إلى رباع الفتح ابن خاقان في قوله:

تلفت من عليا دمشق ودوننا ... للبنان هضب كالغمام المحلق

إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما ... ذممت مقامي بين بصرى وجلق

مقاصير ملك أقبلت بوجوهها ... على منظر من عرض دجلة مونق

كأن الرياض الحو يكسين حولها ... أفانين من أفواف وشي ملفق

إذا الريح هزت نورهن تضوعت ... روائحه من فأر مسك مفتق

ومن شرفات في السماء كأنها ... قوادم بيض من حمام محلق

رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ... غنى لعديم أو فكاكا لمرهق

وكيف أنه وصف الجعفري والإيوان والكامل والمتوكلية والصبيح والمليح والبركة وغير ذلك ولم يقل بيتاً في كهف أو جبل؟ وإنما كان هذا كذلك لأن النفس تجد لذة وعزاء في استجلاء آثار النفس.

كفرحة الأديب بالأديب * وطرب المحب بالحبيب

  • وحنة المريض للطبيب * الناس عن الناس أفهم، وإليهم أصبي وأسكن، وبهم آنس وأشغف،

وليس معنى هذا أن الشيء لا يروقك، ويقع من قلبك، إلا إذا كان صانعه آدمياً، فإن هذا ما لا نذهب إليه، أو ن قول به، وإنما نعني أن الإنسان حبيب إلى الإنسان، وأن أكثر ما يفتنه ويستولي عل لبه وهواه، ما كان عن الإنسان صدره، وما تبين عليه ميسمه وأثره، وهذا ملموح فيكل حركة، وملحوظ فيكل لفظة، وما تأملت قط هذا الأمر إلا أثار لي التأمل، واستخرج لي التفرس، غرائب لم أعرفها، وعجائب لم أقف عليها، وإلا استيقنت أن الأمر كما ذكرت، والحال على ما وصفت، وأن الإنسان لا تزال يتلمس الإنسان ويحاول أن يجتليه في كل شيء كأنما هو يستوحش الشيء إذا أحس أنه منه خلاء، ولو لم يكن الأمر كذلك ما كان الإنسان إنساناً، ولا كان على الدنيا طلاوة، ولا للحياة رونق وحلاوة، ولعمري هل تروقنا الأرض إلا لأنها سكننا ومثوانا، ومراحنا ومغدانا، وهل يملأ الروض عين من نظر إلا إذا أحس أن رياحينه تحييه، وحمامه يغنيه ويلهيه. وغصونه توسوس إليه، ولعمري كيف الحياة وماذا العيش إذ أنت حرمتنا هذا الإحساس الحلو والأنانية اللذيذة، وسلبتنا هذا الخلق الإنساني، والغريزية التاريخية، وذلك أصل الدين، وأصل الشعر، وأصل العلم. . .

وبعد فأي شيء يدفع الناس إلى إنفاق الوقت على طلب التاريخ. واستنزاف الأيام في معاناته، والتوجه إلى تعلم اللغات الدارسة، والانقطاع لحل الرموز الهيروغليفية مثلاً وإيضاح مشكلها: والكشف عن معانيها. وماذا يحمل الناس على الغوص على آداب العرب والفرس والهند واليونان والرومان، ولماذا يستنفذون الطاقة كلها ويعنون بترجمة هذه الآداب من لغة إلى لغة، أو ليس حسب كل أمة ما عندها من ذلك؟ وما هو السر في أن أساطير الأمم القديمة وقصص البربر والهمج ربما كانت أخلب لللب وأغتن للنفس وأسحر للعقل من فلسفة أفلاطون وكانت وغيرهما؟ وماذا يحتث الناس ويسوقهم إلى هذا الكد والتصرف؟ أليس هو أن المرء ينبغي أن يعرف كيف كان الإنسان في العصر الحالي ليعرف أي شيء هو؟؟

يرى سقراط. ورأيه الحق، أن غاية الفلسفة أن يحيط المرء بنفسه. وأن ذلك أحق بالتقديم، وأسبق في استيجاب التعظيم، وأنه لا عرفان إلا وذلك هو السبيل إليه، ولا علم إلا وهو الدليل عليه، ولا معرفة إلا وهو مفتاحها، ولا حقيقة إلا وهو مصباحها، ولكنه أخطأ السبيل إلى هذه الغاية، وذهب في مذاهب لا تؤدي إلى هذا العلم، وطرق لا تفضي إلى هذه المعرفة، وما أضله إلا حسبانه أن الإنسان ليس مظهراً من مظاهر قوة بعينها. ولكنه فرد قائم بذاته، وروح مستقلة بنفسها، منفردة عما عداها، فهو أبداً يحاول أن يفض ختم هذا السر الإنساني بأن يتدبر ما يجري في ذهنه، ويتوسم ما يحصل في نفسه، ويحلل المعرفة إلى أصولها، ويضع لكل شيء حداً، وما فاز من ذلك بشيء، ولا عاد بالخيبة والخذلان. وبقيت الحقيقة عنه مستورة، واستولى الخفاء عليها، واستمر السرار بها، حتى فطن الناس إلى هذا الغلط الذي دخل عليه، والرأي الفاسد الذي عنّ له بسوء الاتفاق حتى صار حجازاً بينه وبين العلم بها، وسداً دون أن يصل إليها،

الإنسان ليس فرداً قائماً بنفسه، كاملاً في ذاته، وإنما هو واحد من عشيرة، وعضو من فصيلة، لا يتأتى العلم به، والوقوف على أمره إلا بالقياس إلى أنداده وأشباهه من الناس، وقديماً حسب الناس الأرض جسماً منعزلاً لا نظير له ولا شبيه، فركبهم في أمرها جهل عظيم، وخطأ فاحش. وسبقت إلى نفوسهم اعتقادات بأن فسادها لما وضح للناس أنها كوكب كبقية الكواكب وكذلك يختلف اليوم رأينا في الإنسان عن رأي آبائنا فيه فقد كانت كل أمة تمتهن ما عداها من الأمم وخلاها من الشعوب، وتزدريها وتستخف بها ولا تعدها إلا في الهمج والبربر، ونحن نرى فيها اليوم إخواناً صدعت شملهم البحار، وفرقتهم اللغات وقطعت بينهم العداوات. . . لهذا يعكف أحدنا على تاريخ آبائه وأجداده فيقرأ في صفحاته آيات الحكمة الإلهية، ويعبر في سطوره مظاهر القوة الإنسانية، واجداً من الروح والخفة والأنس في مطالعة أخبار القرون الخالية والأجيال الماضية ما لا يجده في أخبار العصر الحاضر. . . وكما أن أحدنا إذ تلقى في يده الصدفة شيئاً من رسائله القديمة المهجورة يقلبها بادئ الأمر وهو غير حافل بها ولا ملتفت إليها. ثم لا يلبث أن يعتاده الذكر. ويلهيه ماضيه عن حاضره فيترسل في قراءتها بعد العجلة، ويتمهل بعد المسارعة، ويقف على كل حرف، ويستخبر كل لفظ، كأنما يستبعد أن يكون هذا خطه، وتلك مقاطر قلمه ومراعف مرقمه ولا يصدق أن هذه الأيام مرت به، وتلك الهموم والمسرات وردت عليه، ثم تنزاح عن الماضي حجب الغموض، وتنتفي عنه معتلجات الشكوك، فتدب في جسمه روح الشباب وتجري في عروقه دماؤه، ويعلم أن هذه رسائله من غير ما شك، كذلك يستغرب أحدنا التاريخ القديم بادئ الأمر، وتخفى عليه نسبته إليه، وقرابته منه، وما هي إلا صفحة أو بعضها حتى تذهب عنه الوحشة، وتتجلى الشبهة، وتحل مكانهما بهجة الأنس، وروعة اليقين، ويصبح وكأنه يقرأ تاريخ نفسه، ويتصفح ترجمة حياته!. . ولعمري ماذا يفيدنا التاريخ إذا هو لم يحك في نفوسنا هذا التعاطف، ولم يؤكد العقدة بين الحاضر والغابر! فإن الحياة كما أسلفنا قصة طويلة يمثل كل فيها دوراً، وإذا كان هذا كذلك أفليس ينبغي أن نحيط علماً بدور من خلا مكانه، وحللنا محله، لنكون على بينة من أمرنا؟ وهل ثمت شيء من الغرابة في أن يرجع أحدنا بصره في الفصل المنصرم؟ أو ليس من الضروري الذي لا معدل عنه في كل رواية أن تكون الفكرة الأساسية واحدة في كل الفصول؟؟