مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/اعترافات ألفرد ده موسيه

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/اعترافات ألفرد ده موسيه

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 5 - 1913



ألفرد ده موسيه بلبل غرد شدا على أيكة الأدب الفرنسوى فبز أترابه الأطيار، وغني فأخذت عنه الأعواد والأوتار، وصدح والشباب من سامعيه، والبيان في شدوه والسحر في مسامع سامريه. ده موسيه هو الطائر المستجر قوادمه رائعات المعاني ورشيق الألفاظ من خوافيه.

أنزل الرحمن على قلبه حكمة الحب فتنقل بين أفنانه وتنزي فوق أغصانه وخاض فى أشواكه وذاق من مر نباته فبات مضنى الفؤاد جريحاً يبكي حبائب أسامهن قلبه وأسلمته هجراً، وخلص إليهن بروحه فألقى ودهن غدراً.

شاعر طاهر النفس. شبت الغوانى في جوانحه نار حب ما خبت حتى خبا. ولطالما شبب بهن. وآثر عذابات الهوي العذري على لذاذات الحب وعبث لصبا.

ونحن نعرب له اليوم اعترافاته وهي صفحات من آلام روحه وسمها بعنوان (اعترافات صبى من صبية العصر) وصف فيها ما كابد من عذاب وقاسى من أحزان.

وقراء البيان سيجدون في (ألفرد ده موسيه) مهبط حكمة ومحط صدق ومعانى تأخذ بمجمع النفس ودروس عفاف تطهر أرواح فتياننا وتهذب عواطف شباننا وإن فيها لبلاغاً للناس.

ونحن اليوم بادئون بالفصل الثالث مرجئين الأول والثانى اللذين هما مقدمة يذم فيها الزمان ويشكو العصر حتى إذا أتممنا الاعترافات عطفاً عليهما والله هادينا والقراء مناصرونا إن شاء الله.

علىّ أن أقص كيف أوقعني القدر فنابني من داء هذا الزمان ما نابنى. كنت جالساً إلى عَشاء لذ وقد عدنا من مرقص مخنمر، وصَحبي حافَون من حولى في باهرةِ شُمَلهم وبديع أثوابهم، وفى الجمع شباب تساموا للصبا، وشواب رحن مع الهوي، والكل مشرقون بالمراح واللهو، متألقون بالجمال والزهو. وعلى أيمانى وشمائلى أطعمة فاخرة وأباريق صهباء ومصابيح تجلو الدجي وثريات وأزهار وفوق رأسى نغم الموسيقي وصدحها وإزائي خليلتي، إنسانة شيمتها العجب والدل، تدلهتُ في حبها وتعبدت.

كنت يومئذ في الربيع التاسع عشر. ما نابني يوماً مكروه ولا شفني مرض.

كانت الصراحة والشمم معامن خلقى، أحمل المني وأرود الآمال جمعاً، وبين جنبي قلب مترع فضفاض.

تمشت حمياً الكأس في مفاصلى فكانت ساعة نشوة وطرب إذ كل شئ عند ناظرك وفى مسمعك يحدثك عن صاحبتك ومحبوبتك، وبدت الطبيعة مشرقة كأنها يتيمة ذات ألف محياً نقش على كل محيا اسم الحبيب.

كنا نعانق كل من نرى يبتسم ونشعر أننا أخدان لكل مرزوق حى.

وقد اتعدنا أنا وصاحبتى إلى الليل فأدنيت الكأس مترفقاً إلى شفتىّ وأنا أنظر إليها وأجلو في صفحتها العين.

وإنى لأتلفت أريد صفحة إذ سقطت (شوكتى) فملت لآخذها فلم أجدها فرفعت غطاء المائدة أنظر أين تدحرجت فإذا قدم صاحبتي فوق قدم فتى نشأ كان جالساً إلى جنبها وقد التفت الساق بالساق، وتعاطف الجسمان، وهما يلتحمان فى رفق بين آن وآن. فأخذت مجلسي ساكناً وطلبت غيرها وعدت أبلغ العشاء.

هذا وخليلتي وجنيبها هادئان وادعان قل ما يتخاطبان ولا يتلاحظان واعتمد الفتى بالمائدة وهو يداعب امرأة أخرى أبدت له من عقده وأساورها.

جلست خليلتي فى دعة آمنة وعيناها مستقرتان ولحاظها مراض فاترات وراقبتهما آخر العشاء فلم أر من حركاتهما ولا اكتشفت فى معارفهما أثراً يفضحهما.

حتى إذا رفعت المائدة وانبسطت الأيدى للنقل جعلت المنشفة تسقط متعمداً وملت أطلبها فإذا هما مشتبكان ملتصقان.

لقد كنت وصاحبتى على موعد أن أصحبها الليلة إلى مغناها إذ كانت عزباً تروح كما تشاء وتغتدي تساكنها عجوز كوصيفة لها.

وإني لأجتاز البهو نافراً إذ نادتني من جانب الشرب تقول أى أوكتاف، تعال نرحل. فها أنا عند عينيك!.

فتضاحكت من قولها وانطلقت غير مجيب وما كدت أمشي بضع خطوات حتى تهالكت على ثنيسة هناك ولا أعلم ماذا اختلج في تلك الساعة بخاطرى.

لكأنى أصابنى مس من الجنون أو لكأنى عدت أبله ممروراً من أجل خيانة هذه المرأة وما كنت يوماً عليها غيوراً ولا أدركت عليها غدراً ولا رابنى من فعلها ريبة أما وقد رأيت فلا سبيل إلى الريب ولا موضع للتجنى.

ولبثت ساهماً سليباً كأنما أثخنني امرؤ ضرباً ولا أدرى مما جرى حولى شيئاً حتى رفعت إلى السماء بصري وأنا شارد اللب فاستقر على كوكب مبعد يتولى.

حييت ذلك الضياء الهادئ حيث الشعراء مبصرون عالماً قفراً خراباً وانطلقت حاسراً لتحيته رأسى ثم أخذت سمتى مولياً.

عدت إلى دارى وأنا مطمئن السرب، لا شعور ولا حس ولا فكر، وجعلت أتفضل من لبستي ثم أويت إلى سريري على أننى ما كدت أضع رأسي على الوسادة حتى نهضت في نفسى فكرة الانتقام فاستويت في مهادي جالساً كأنما أشلائي وأعراقي ارتدت خشباً.

ثم نزلت عن سريرى صارخاً وذراعاى ممتدان وتشنجت أعصاب قدمي فبعد لأ] استطعت أن أمشي على كعبي وتمكثت ساعة على هذه الحال حانقاً مغضباً صلب الأوصال.

ذلك الرجل الذى تحرج مع خليلتي حبيب متمكن بين أحبابى وخليص من صفوة خلصانى.

فلما بكرت مصبحاً انطلقت إلى داره في رفقتي محام فتى يدعى (ديزينيه) متزوداً بمسدسين واستصحبنا شاهداً آخر ويممنا غابة فنسان جميعاً.

فلما كنا في الطريق مصعدين تحاميت أن أتحدث إلى خصمي أو أقترب منه وغالبت هوى نفسي فما تضاربنا ولا تباهلنا فإن ذلك ده لا يغني والقانون يبيج المناجزة ويحل لها شرعاً ولكنني ما استطعت أن أحمي عنه عينى أو أرد عن وجهه طرفي، كان صديق شبيبتى ورفيقي في الطفولة والصبا، وتبادلنا العوارف أعواماً وهو بغرامي لخليلتى عليم محيط بل لكثر ما سمع عنى أن علاقتى بها حرام على الصديق وهواى لها ممتنع على الولى وأنه لن يستطيع أن يخلفنى في حب، وإن أحب المرأة التي أنا بها صب.

كنت واثقاً به جهد يميني، بل ما شددت على يد مخلوق أحر من شدى على يده، بل ما حييت أحداً بتحية أحسن من تحيتى له.

والآن أنظر مندهشاً متحيراً إلى هذا الرجل الذي طالما سمعته يتكلم في الصداقة كأحد أبطال العهود المتصرمة وقد رأيته بالأمس يضم خليلتى! هذا أول عهدي برؤية الخلقة الممسوخة. .!

كنت أنظر إليه بعين مستوحشة لأعلم كيف ركب. ذلك الذي تعرفت له وأنا ابن عشرة أحوال ثم عشنا على محض المودة والصفاء. بدا اليوم كأني ما رأيته في حياتي من قبل.

إليك مثلي.

هناك حكاية اسبانيولية يعرفها الناس جميعاً وهي أن دمية من الصخر هبطت من المكان الأرفع على فاسق من أهل الدنيا فلما رآها جاهد يريد تجلداً وابتساماً ولكن سألته الدمية أن يمد لها يده فلما فعل أحس ببرد قاتل وأخذته الرعدة وتشنجت أطرافه.

ما جعلت يوماً عند حبيب أوغانية ثقتي ثم وجدتنى بعد ذلك مخدوعاً إلا قارنت تأثير حزني بقبضة هذه الدمية.

أجل - ذلك تأثير المرمر. كأنما الحقيقة في زمهريرها المميت جمدتني بقبلة، بل ذلك لمسى للإنسان الجلمود!

وا لهفاه، لطالما طرق بابى ذلك النديم المخيف، ووا حسرتاه أكل من طعامى وجلس إلي خوانى!

فلما تهيأ للمناجزة كل شئ. وطلعت لعدوى وبرزت. ومشى إلى فى تؤدة ومشيت. قذف القذيفة الأولى فأصابت ذراعي اليمنى فأخذت مسدسى في يدي الأخرى ولكني لم أستطع أن أرفعها وخانتنى قوتي فسقطت إلى ركبتىّ جاثماً ورأيت غريمى يخطو إليّ مسرعاً وهو مضطرب شاحب وهرعت إلىّ شهودي إذ رأوني كليماً ولكنه أقصاهم وأخذ يدي الجريحة وقد صر بأسنانه فما استطاع تكلماً.

ولما رأيت ألمه وأحسست بوقع الأسى في أضالعه صحت به أن أنطلق فامسح يدك في أثواب. . . . . . .

وهنا احتبس صوتي فلم أتم. . وحملوني مرتثّاً إلى مركبة فإذا هناك طبيب. لم يكن جرحي بالغاً لأن القذيفة لم تنفذ إلى العظم على أنني كنت في أشد حالات الاضطراب فما قدرت في تلك الساعة أن أجمع شوارد خواطري فلما مضت العجلة بنا رأيت عند بابها يداً متشبثة راجفة تلك يد خصمي الألد جاء مستنفراً مسترحماً. . ولكنى هززت رأسي عصياً إذ أخذتنى سورة الغضب فلم أحله من ذنبه أو أسبل على ذلته ستر مغفرتي وإن كنت أشعر أن ندامته على ما فرط كانت نصوحاً صدقاً.

فلما بلغت بنا الدار تروح عنى لأن الجرح ذرف كثيراً وخفف الضعف من حدة موجدتى وكانت أوجع لدي من كلمي وأشد صباً.

وانزويت في سريرى مرجعاً رخياً وإنى لأشهد أنني ما شربت يوماً أسوغ من قدح الماء الذى آتوني به في تلك الساعة ووعكتني الحمى وشرقت بالدمع عيناى.

والله ما حزنني أن صاحبتى خلاء من حبي ولا أخذ بنفسي أنها لم تعد بعد تصبو إلىّ بل لهفتي أنها خدعتنى.

غام على قلبى فلم أفهم بأية سنة تكذب امرأة في الحب رجلاً وتخادعه نازعة إلي حب سواه وما يغريها واجب ولا يدفعها إلى كذبة في الهوى مال.

لقد سألت (ديزينيه) عشرين مرة في اليوم كيف جاز الكذب في أهل الحب كنت أقول لو كنت زوجها بل لو كنت أنقدها مالا لأدركت أنها خدعتني. لماذا تكتمني الصدق إن انصرف فؤادها عن غرامي، بل لم تخدعني؟.

ما كنت أدري يومئذ أن الكذب في أهل الهوى عرف، لأني كنت غلاماً حدثاً وأقسم أنني حتي اليوم لم أزدد بكذبات الغرام فهماً وكنت كلما علق القلب بهوى امرأة أصدقها حبي بل ما خرجت من هوى إلا معلناً هجري لأني كنت أحسب أن العاشقين لا يستطيعون لإراداتهم قياداً وأن ليس في الوجود جريمة أشد نكراً من الكذب وكان ديزينيه يقول لى إنها امرأة شقية مطروفة العين إلا عدنى أنك لن تراها آخر الدهر.

فأقسمت له مغلط الأقسام ونصح لى أن لا أكتب إليها أو أعتبها وأن لا أجيبها إن أرسلت تراجعني فانتصحت وأنا أعجب كيف يسألنى ذلك وكيف يكون بى ظنيناً.

فلما اندمل الجرح وأبللت كان أول شئ فعلت أنني أفضت إلى دارها مسرعاً ألفيتها وحيدة قد انتبذت زاوية في مخدعها مضطربة الحال ساهمة المحيا.

فأوسعتها مر اللوم وقد مالت شمول الحزن بأعطافي وجعلت أصيح والدار تدوى بصيحاتي واستهلت شؤوني وفاضت أدمعى حتى أفخمنى البكاء فتراميت فوق سريرها لأجعل لماء عينى مسلكاً وطفقت أقول باكياً:

آهة لى، يا كاذبة، آهة لى يا شقية، إنك لتعلمين أن نفسى لتفيض من غدرك كمداً فهل ترضيك منيتى وهل تجدين برد السرور في موتى، ماذا صنعت بك؟.

فألقت بنفسها بين ذراعي وتشبثت بنحرى وقالت لى أنها فتنت ونزغت لها من الغواية نازغة فاقتادوها تلك الليلة وإن خصمي كان فى العشاء منزوفاً ما يبت وأنها ما كانت يوماً له وأنها فرطت فى ساعة نسيان وأنها ما اجترحت إنما بل هفوة من لمم وأنها رأت ماجر على حبها من ألم وأنها لتموت غماً إن لم أغفر لها ما تقدم من ذنبها.

استنفدت لغزائي كل ما فى الندامة الصادقة من عيون ودموع، وكل ما فى الأسى من بلاغة وسحر بيان!.

بهارية الوجنتين شاردة الخاطر مشتملة في ريطة ذات شقتين وشعرها مرسل منتثر فوق كتفيها وهي راكعة في بهرة المخدع، فى روعة ما رأيتها من قبل أجمل ولا أفتن سحراً.

وارتجفت من رعب وأضرم مشهدها بين عواطفى نار حرب طاحنة وانطلقت من لدنها نافراً وأنا لا أكاد أمسك علىّ مشاعري وأجمعت أمرى أننى لن أراها بعد اليوم أبداً.

ولكن ما مضت ربع ساعة حتي عطفت عائداً إلى مغناها ولا أعلم أى قوة تحدوني إليه كأنما نفث الحسد في قلبى سمه يحرضني أن تكون لى وحدي وأن أشرب فوق جسمها اللدن الرخص تلك الدموع المرة السخينة ثم أقتلها وأهلك نفسى معها.

شهد الله أننى اجتويتها وهى حبة نفسي، وكرهتها وهى معبودي، وشعرت أن في حبها متلفتى وخسرانى ولكن كيف تطيب الحياة بدونها. .

صعدت إلى طابقها كأنني البرق في خطفه ولم أسائل أحداً من خدمتها بل تجاوزت، وأنا أعرف الناس بحجراتها، إلى غرفتها ودفعت الباب فإذا أنا في حضرتها.

ألفيتها جالسة إلى زينتها ساكنة حالية تحملت من لآلئها ودراريها وجاريتها تعقص لها جدائلها وهي تحمل في يدها خماراً أحمر تضعه برفق فوق خديها والله لكأنى كنت في حلم.

كلا، ليست هذه المرأة التي كانت منذ ربع ساعة رهينة الحزن وأكفة العين. .

فلزمت موقفى ولا حراك كأنني التمثال. والتفتت مبتسمة لما فتح الباب تقول هل أنت المحب الطارق؟

لقد كانت تنظر غريمى ليصحبها إلى المرقص فلما تبينتني أمسكت عابسة فخطوت أريد الانصراف.

رأيت جيدها بضاً ناعماً عبقت منه أنفاس العرف وقد عقدت فروعها ثم زانتها بمشط من الماس.

ذلك الجيد مركز سلطان الجمال وأريكة الحسن كان أحلك من جهنم ناطت به سمطين يلمعان وقلدته سنابل عقد من العقيان.

وبدا فوق منكبيها وعنقها زغب جثل غزير ولا أدرى أي جمال في تلك الجدل الفارعة خدعني أول مرة.

تقدمت فجاءة وأهويت فوق ذلك الجيد بقبضة يدي فخرّت فوق الأرض صريعة وفارقت الدار آبقاً فلما اشتملت علىّ دارى عاودتني حمى راجفة ألزمتني الفراش.

انتفض جرحى وأخطفنى ألمي وأقبل (ديزينيه) يعودني فقصصت القصة عليه وهو واجم يخطر في الحجرة حيران عجباً.

وراح يسألنى أتلك أولى حبائبك؟.

قلت لا. بل أخيرتهن!.

فلما كان الوهن متروحاً وأنا في نومة المضطرب سمعت كأنما في حلم نفساً صاعداً راجعاً ففتحت عينى فإذا هي جالسة بقرب سريري وذراعاها مشتبكتان كأنها شبح من الأشباح.

فصحت غير مغالب صيحة فرق ورعب إذ حسبتها أحد خيالات رأسى الملتهب ووثبت من سريرى إلى الناحية الأخري من الحجرة وأقبلت علىّ تقول وقد أخذتنى في أحضانها ومشت بي هذا أنا!.

فصحت بها ألا دعينى فإنى على ذبحك الساعة لقادر!

قالت مرحباً بالحبيب يذبحنى. لقد هجرتك وكذبتك وأنا فاجرة أثيمة، ولكننى أهواك ولا قدرة لى على نقدك.

فنظرت إليها لله ما كان أجملها!

رأيتها ترتجف وعيناها من ذهول الحب تفيض في سح وتسكاب وجيدها عار وشفتاها تلمعان.

فرفعتها بين ذراعى وقلت لها ليكن ما تشائين ولكنى أشهد الله المطلع إلينا وروح أبى أننى أذبحك الساعة وأقتل نفسى معك.

وأخذت سكيناً كانت فوق المدخنة فوضعتها تحت الوسادة. فقالت ضاحكة وهى تضمنى إليها، تعال يا أوكتاف، ولا تأت أمراً نزقاً، تعال يا طفلي الصغير، فإن مخاوفك لتردك وجعاً مهيضاً وأنت محموم، هلا أعطيتني السكين.

ورأيت أنها تريد أن تأخذها فقلت لها استمعى لى، إنى لأجهل أمرك هذا والفكاهة التي تمثلين، وما بى من مزاح علم الله أني أحببتك حباً ليس يحمله مثلي، وفيك كان شقائى وفيك كانت منوني، واعلمي أنى لا أبرح الدهر أهواك مفرطاً جوياً وقد قلت إنك كذلك تحبيننى. ألا فليكن، ولكن أقسم بكل مقدس في الأرض أننى إن كنت اليوم عشيقك فلن يكون غداً غيري. وعدت أقول، يشهد الرحمن أننى لا أراجعك لتكونى خليلتى، فإن كراهتي لك شديدة كحبي وإنك إن تراوديني عن نفسك قتيلة غدا!.

وتولانى عند ذلك ضعف شديد وأما هى فتنكبت مرطها وانطلقت تعدو هاربة. فلما علم (ديزينيه) بما كان منى قال لى، هلا كنت راودتها عن نفسها فهى غادة جميلة وأنى لأحسبك فظاً غليظاً!

قلت أتراك ممازحى! أتظن أن امرأة مثل هذه تكون ربتى، أم تعتقد أننى أرضي أن أقتسمها بيني وبين رجل سواي، أم تحسب أنها نفسها تعترف بأنها نهب لغيري، أم تريد أن أنسى حبها لتكون من قسمتك بعدي؟ لعمري إن كان هذا في الحب شأنك فلك مني الرثاء والرحمة!

فأجاب بأنه لا يحب غير العذارى الصبيات ثم أنشأ يقول، أي أوكتاف العزيز، أنت في عفرة الصبا وطراوة الشباب تود لو يكون لك مناعم كثيرة ومباهج ولكنها لا توجد في الدنيا وتعتقد في مرتبة واحدة من الحب ولقد تكون قادراً على أن تنهض بها ولكننى لا أرتضيها لك.

أيها الصديق، ستكون لك عشيقات وخليلات وستتحسر يوماً على ما فاتك الليلة إنها سعت إليك لتراك، وكانت في تلك اللحظة تهواك، وعساها الآن قد نسيت غرامك، ولعلها بين ذراعي سواك.

ولكنها كانت تحبك الليلة وفي هذه الحجرة شغفتها حباً، وماذا يهمك الباقى؟ لقد كانت لك ليلة زهو ومبهجة فنفرت عنها وستتلهف عليها زماناً واعلم علم اليقين أنها لن تأتى إليك بعد اليوم.

تصفح المرأة عن هنات الرجل وتتجاوز عن كل شيء إلا خيبة الوصال! لقد كان غرامها بك جوي إذ دفعت إلى دارك وهى عليمة بسحرها وتأثيرها متوقعة أنك ستشيح بوجهك عنها وتعرض عن وصلها.

إلا صدقني. . ستعود نادماً لهفاً على الليلة الضائعة وها أنا أقول لك لن تمر بك مثلها إلا لماماً.

وكانت تلوح على (ديزينيه) علائم الوثوق والخبرة الساكنة الهائلة حتى لقد كنت أرتعد عند سماعها وشعرت وهو آخذ فى قوله بقوة شديدة تستحثنى على زيارتها مرة أخرى أو أن أكتب إليها أستقدمها ولم تكن بى قوة على النهوض كأنما أنقذني فتور جسمى من عار لقائها وأشفقت أن تضمنى وخصمي دارها.

ولكنى كنت أستسهل الكتابة إليها وجعلت أسائل نفسي كرهاً أتراها تأتى إن بعثت إليها.

فلما رحل ديزينيه تملكني الاضطراب فأجمعت أمري على أن يكون بينى وبينها فصل الخطاب فبعد كفاح شديد بينى وبين فؤادي غلب الرعب على الحب فكتبت إليها أنى لست بعد الآن ناظرها وسألتها أن لا تعود أبداً إلىّ إن رامت أن لا يغلق بابي دونها. دققت الجرس حانقاً ودفعت الرقعة إلى غلام من غلمانى وأمرته أن يحملها إليها ويسرع ما أمكنته ساقاه. على أنه ما كاد الخادم يغلق وراءه باب حجرتى حتى ناديته مسترجعاً فلم يسمع وما جسرت أن أكرر النداء بل جعلت وجهى بين راحتي ولبثت كذلك رهين يأس شديد. . .

عباس حافظ