مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/الاختراعات الحديثة وقدم عهدها

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/الاختراعات الحديثة وقدم عهدها

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 5 - 1913


شئ تحت أديم السماء جديد


الاختراعات الحديثة وقدم عهدها

إن المثل القائل لا شيء تحت أديم السماء جديد قد يكون مبتذلاً ولكنه رغماً من ذلك سديد وإننا لنفتخر بعجيب مخترعاتنا الجديدة ونعتز بها غافلين عن الحقيقة القائلة إن جميع هذه الاختراعات ليست إلا تهذيباً وإصلاحاً لأفكار قديمة لها عمر الرواسى والجبال.

وقد عزز هذا الرأي اليوم برهان جديد إن صح أن هذه الحقيقة تريد دليلاً ينهض عليها إذ صرح الأستاذ (بونى) وهو في رحلته إلى رومة ينقب عن آثارها إن في ذلك المكان الذى كان في غابر القرون موضع قصر القياصرة المشيد فوق ربوة (البلاتين) آثاراً تدل على أنه كان فى ذلك القصر ثلاثة مصاعد أعدت لقياصرة الرومان يصعدون فيها من السوق العمومية إلى قنة البلاتين ووجد أن إحدى الحفر التى كان يرفع المصعد منها لا تقل فى غورها عن مائة وعشرين قدماً وإن كانت الأقذار المركومة فيها لم ترفع بعد كلها. .

ومنشأ كل ذلك هو المخيلة. ولعمرى لقد سخر الناس من أول رجل فكر فى الطيران ووسائله في العهود الخالية وخالوه واهماً وعدوه متخرفاً ونحن نرى اليوم قوماً يطيرون حولنا في كل ناحية ومكان.

وذلك واقع فى كل مستحدث مكتشف حتي أن ريشارد بروكتور ذلك المفكر المدقق كان على شيء من الاعتقاد بإمكان اختراع مطارات سهلة السوق والدوران إذ كتب لقد تحقق الطيران في الجو ولكي يطمئن الطائرون على سلامتهم ليست هناك إلا طريقة واحدة أحسبها عسيرة لا تدخل في دائرة الإمكان وهى أن المطارات قد تدار في الهواء كالسفن في الماء اه.

والحق يقال أن ما كان بالأمس مستحيلاً ليصبح اليوم من الممكنات وغداً يكون أمراً مقضياً!

وإن استخدام الكهرباء في زرع الأشجار والنباتات قد يدهش القارئ فيظن أنه أحدث اختراع ذلل للناس في زراعة بساتينهم وأزهارهم ولكن نظرة واحدة إلى الشذرة التي ننقلها من كتاب طبع في أواخر القرن الثامن عشر تدل على أننا مسبوقون في هذا الشأن وسنا نحن السابقين وإن كنا لم نستطع بعد أن نقف على مصدر هذا السفر التليد الذي وقع لن اليوم فحسبنا أننا اكتشفنا الحقيقة الهامة الآتية: رسالة ممهورة بإمضاء (ستيفن ديمانبري في أيدنبره لعشر خلون من فبراير عام 1747 نشرتها مجلة (ذي جنتلمان القديمة) يقول فيها كاتبها - بما أن الاكتشاف الآتي قد يؤدي في المستقبل خدمة جليلة للمجتمع فإنى لا أعارض في نشرك صورة استخدام الكهرباء في ترقية لزراعة وأنا أعلم علم اليقين أنها الأولى في نوعها إذ لم ينشر للناس مثلها حتي اليوم.

في اليوم العشرين من شهر ديسمبر الماضي (أى سنة 1746) أخذت من بستان المستر بوتشر عوداً من شجر الريحان وجعلت الكهرباء تسرى في أجزائه نحواً من سبعة عشر مرة وصرت كل أربعة أيام أسقى العود نصف (بينت) من الماء ووضعت العودة في حجرة هي أكثر حجرات داري ترداداً وتعرضاً لأذى الهواء الذي يسببه فتح النوافذ والأبواب وإغلاقها فكان من هذا العود بعد سريان الكهرباء فروع وأغصان أطول ما فيها يبلغ ربع قدم على حين أن كثيراً من هذه الأعواد نفسها تركت في البستان فما نمت طول تلك المدة اه.

كان هيرو الاسكندرى (حوال عام 125 قبل مولد المسيح) مخترعاً حاذقاً ومستحدثاً ماهراً في عمل لعبات الأطفال وصف في كتابيه أى علم الخصائص الميكانيكية للغازات وأى فن الآلات المتحركة بذاتها نحواً من مائة آلة ولعله لم يعمل إلا نماذج منها بينها آلة بخارية يقال أنها تماثل النوع الجديد المعروف وكذلك آلة رافعة للماء كمطفأة الحريق.

وهيرو هذا هو أول مخترع لآلة التوزيع المتحركة بذاتها وقد وصف آنية ماء مقدس لا يفيض الماء منها إلا إذا أسقط المستسقى في هذه الآلة نقوداً فإذا سقط الدرهم من ثقب تلك الآلة انحدر إلى أحد طرفي (مخل) أفقى فضغط عليها وانفتح من ذلك مصراع معلق بسلسلة من الطرف الثانى وانسكب الماء.

وتركيب تلك الآلة القديمة وفعلها لا يخالفان الطريقة الحديثة في شيء بل إن الأولى لأسهل من الأخري وأكثر إحكاماً.

وكتب ريشارد كارليل (1790ـ1843) في تصنيفه معجم التراجم الأهلية أنه لما تعددت من عماله وغلمان مكتبه حوادث السرقة جعل يبيع الكتب بواسطة آلة كالساعة وطريقته في ذلك أنه كان يكتب فوق وجه هذه الساعة (المينا) اسم الكتب المعروضة في كل يوم للبيع فإذا دخل المشتري أدار المينا حتي موضع الكتاب الذي يريد ابتياعه وإذا أسقط الثمن انحدر كتابه إلى يديه.

وما كنا لنصل إلى اختراع هذه الأسلاك البرقية وتهذيبها اليوم إلى حد الكمال ألا بعد أن أمعنا في فهم منافع الكهرباء وأضفنا على معلوماتنا شيئاً كثيراً.

ولكن المخيلة قديماً أقامت ظلها وسعت لها سعيها، وبين أيدينا الآن كتاب صغير يسمى (فسحات رياضية) وضعه هنري فان إيتن - لندن عام 1633 - نقرأ فيه هذه السطور يقول بعض القوم أنه بواسطة المغناطيس يستطيع الغيّاب أن يعلموا خواطر صحابهم كأن يعلم مثلاً من سكن لندن أفكار من هو حل ببلدة (براج) في ألمانيا إذا كان لدى كل منهما إبرة مغناطيسية الطرف وأهمية ذلك أن إبرة المقيم في لندن تتحرك بتحرك إبرة الساكن (براج) ولكن يشترط أن يكون بين الرجلين حروف معروفة ورموز موضوعة وأن يرصدا الجو فى ساعة من الليل أو النهار مخصوصة فإذا أراد أحدهما أن يخاطب الآخر فليحرك إبرته إلى هذه الحروف فتنقلها إليه وليحرك هذا إبرته فتفضي إليه بكلم صاحبه، وذلك الاختراع نهاية فى الدقة على أننى لا أصدق أن في الدنيا حجراً عظيماً كهذا له هذه المميزة ولا أحسب استعمال هذه الطريقة ممكناً ولو ذللت لازدادت الجرائم وفشت الجنايات اه.

تلك هى معالم (التلغراف) الحديث وهذه آثاره الأولى بل إنها لآثار التلغراف اللاسلكى ومباديه!

وكتب جون ويلكنس أسقف شيستر (المتوفى عام 1672) طائفة من الأسفار التكهنية العلمية ككتاب (اكتشاف دنيا جديدة) و (حديث عن نجم جديد) و (عطارد) و (سحر الرياضة) وغير ذلك من الأسفار وذكر في كتاب (عطارد) أن فكرة (فان أيتن) التي ذكرناها آنفاً مأخوذة من مؤلف قديم يسمي فاميناس استرادا ثم استطرد يقول إن هذا الاختراع خيال متخيل لا أساس له في أى تجربة من التجارب ولكن ويلكنس المذكور وضع للأنباء البرقية قانون رمز سبق به قانون (مورز) وهو المتداول اليوم أخذه عن طريقة النقط ذات الحرفين التي اخترعها (باكون) والتي تكاد تشابه طريقة النقطة تتبعها الشرطة لواضعها (مورز) غير أن كل حرف فى الأولى يرمز له بخمسة رموز بترتيب مختلف مثلاً يرمز لحرف الألف بخمس نقط وللباء بأربع نقط ثم شرطة وللحرف بثلاث نقط وشرطة ثم نقطة وهكذا. وقال أن هذا القانون يجوز أن يستعمل بناقوسين مختلفى الصوت. . اه.

وقد يعد القارئ قاطرات وذوات القضبان الفردية اختراعات طريفة ما قدم لها أثر ولا شهدها من قبل عهد على أن الأمر غير ذلك فنحن ننشر له صورة إحدى تلك القاطرات (وهنا نشرت المجلة التى ننقل عنها تلك الصورة) صنعها سنة 1833 فى باريس مهندس فرنسى يدعى وعرضت فى ساحة السباق بباريس ثم اختفي أثرها دهراً حتى كان عام 1865 فعادت إلى الظهور فى باريس باسم اكتشاف جديد.

وقد يكون القاريء رهن الظن بأن الجاريات الغائصات في الماء هى نتاج فكرة محدثة ومصدر خاطرة جديدة على أن الأمر بخلاف ذلك فقد بحث في الموضوع مرسن في كتابه المطبوع فى باريس سنه 1644 وأفرد له ويلكنس فصلاً شائقاً فصل البحت في فوائده ومصاعبه.

وكتب عمانويل سويدنبرج صاحب المذهب المنسوب إليه بين عامى 1710 و1714 مقالاً في الطريقة التي تستطيع بها سفينة بربانها أن تغوص تحت الماء كما تشاء وترمى أسطول العدو بشرر كالقصر وتنزل بجواريه الخراب والدمار ولكننا نستطيع أن نعود بالقارئ إلى قرن خلا قبل ذلك فنشهد جارية غواصة أنزلت فى نهر التاميز سنة 1625 تقل الملك جيمس الأول وفي أوائل القرن الماضى وضع فلاتون طرقاً كثيرة للغوص في أمواه البحار. .

أما عن المطارات المدارة فيظهر أن م. ج تيساتديير فى سنة 1883 كان أول من وضع في المطارات آلة كهربائية متحركة بنفسها وإن كان بروكتور كما ذكر ناذهب في العام التالي إلى أن الملاحة في أجواء الفضاء مستحيلة الوقوع ولكن هناك صورتين لفكرتين قديمتين فى شأن هذه المطارات وضع أولاهما جرين فى سنة 1840 أساساً لسياحة فى بحر المحيط الإطلنطى وثانيتهما هي تلك التى حلقت فوق حدائق فوكسهول فى سنة 1843 والتى اشتهر ذكرها للشبه بينها وبين المطارات الحديثة فى أن لكل منهما دفة ترشدها وآلة تبعثها على الطيران.

ونحن نميل الآن بالقاريء إلى الكلام عن المطارات التى هى أثقل من الهواء وزناً والتى يعدها القوم أحدث ما أخرج للناس من الاكتشاف وأرقى ما ظهر حتي اليوم من الاختراع.

لقد فكر الناس فى الأحقاب المنصرمة والسنين الخوالي أن يطيروا بأجنحة كالأطيار وليس هناك سبب يدعونا إلى الريب بأن (أرشيتاس) من أهل تارنتام (وكان ذلك قبل مولد المسيح بأربع وتسعين وثلاثة آلاف حول) صنع آلة على شكل الحمائم تسبح فى الجو ويقول الرياضى الشهير 1510 - 1576 - لا سبب يمنع مثل هذه الآلة من التحرك لاسيما في عليل النسائم ورخية الرياح وإن خفة الجسم كضخامة الأجنحة وقوة العجلات هو الباعث لها وإن الحمامة لتطير بهيئة مخصوصة ولكنها تتراوح فى الهواء وتتمايل كنور المصباح فتعلو أحياناً بنفسها وترفرف حيناً بجناحيها ثم تترك ذلك فجأة فتسقط لأن قوتها الباعثة لم تساو وزنها اه.

وقد صنع آلة على هيئة نسر وطيرها على أن الطيارة التي ابتدعها صانع ساعات في (ويانة) اسمه عام 1809 تشابه من عدة وجوه مطارة اليوم المسماة ثم بدا للناس المزلج وهو ما يعرف عند الفرنسيين بلعبة كاختراع جديد منذ أربعين عاماً وما كان إلا تهذيباً لأن منشأه كان قبل ذلك العهد بخمسين عاماً على الأقل.

ومن ذلك يستنتج أننا نقلنا حتي ألعابنا عن أجدادنا أهل العصور السالفة وقلّ ما أحدثنا وندر ما اخترعنا!

ألا لقد أصاب المثل السائر (لا شيء تحت قبة السماء جديد) اه.