مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/الوقت

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/الوقت

ملاحظات: بتاريخ: 5 - 5 - 1913



إن بالشرق ويا للأسف لآفات جمة ذهبت بسابق مجده، وأفضت به إلى نقيض شأنه وعهده، وكل تلك الآفات فادح غير أن أفدعهن جميعاً وأقلهن مع ذلك خطوراً على البال إنما هي

آفة الإسراف في الوقت

الوقت! ذلك الشيء الثمين. . . ذلك الشيء الذي لا يقوّم بقيمة، اللهم إلا إذا جعل في كفة من الميزان وجعلت المدنية بجُمّاع ما أتت به المعجزات في العالم كله منذ مبدأ الخلق في كفة أخرى.

ذلك الشيء النفيس لولاد للعجائب، الجالب لضروب السعادات من عقلية وجثمانية المرقي للإنسان، العارف بقدره إلى أسمى درجات العز والمجد هو الذي نفنيه الدقيقة فالدقيقة والساعة فالساعة واليوم فاليوم والعمر فالعمر بلا غلة ولا فائدة، بل هو الذي نعكس آيته عكساً فاحشاً فنقضيه في اللهو والفراغ والأباطيل لنلف بها ألبابنا ونضعف عزائمنا ونصغر همومنا ونقرب آماد آجالنا إلى أن يبلغ أحدنا الكهولة فيشعر ونشعر جميعاً منه بأن الصدأ قد ثلم فطنته تثليماً، وأن الوبالة قد هدت قواه هداً.

يعيش صاحبنا السبعين أو الثمانين من طوال السنين فإذا قضى وجمعنا أعماله النافعة فكأنه عاش سبعين أو ثمانين ساعة من مثل هذا الانهماك في اللذائذ والجهل العميم الذي أوخمه عاقبة جهلنا لقدر الوقت وتبديدنا لكنوزه الخلفية بلا حساب. إلى أية نتيجة أفضينا؟ وعند أية نهاية وقفنا؟

خذوا مصر مثلاً وما هي فيه الآن من كل ما ليس يرضى وقابلوا بين تأخرها وتقدم أدنى أمة راقية شرقاً أو غرباً تتبينوا الجنايات الكبرى التي جناها علينا الإسراف في الوقت.

أيها السادة

لعله ساءكم مني أن أسمعكم عن أمتنا العزيزة وبلادنا المحبوبة ما سمعتم من الحقائق الأليمة في القسم الأول من خطبتي ولكنني تسامحت في ذكرها رعاية لهذا المقام وضنا في الاجتماع الجليل أن نخرج منه ولم نستفد ما يستفيده الحصناء من حقيقة سيئة يكشف عنها النقاب ولا سيما إذ تبدو علامة واضحة الجلاء تبشر بأن في المجموع العظيم من القوم الجثوم القعود نفراً قد أخذوا ينهضون نهضة تشرفهم ومن نتائجها المحققة إن شاء الله أن تكون داعية لسائر أفراد الأمة إلى الإقتداء.

ليس من شأني ههنا أن أعدد ذلك النفر - على أنكم تعرفونهم_وهم اليوم قادة الشعب إما سلطاناً أو علماً أو رأياً بل حسبي أن أتكلم على رجل واحد منهم هو في تلك الطليعة وأراكم قد أدركتم بالبداهة من عنيت فلا حاجة بي إلى تسمية المحتفل به.

أيها الأستاذ

كان في وسعي امتداحك بكثير لأن فيك شيئاً كثيراً مما يمتدح.

ولأن المادة لو أعوزت لا سمح الله فف الشعر على طريقته القديمة متسع للتلفيق المعجب غير أنني رقبت إتضاعك أن أعرض عليه مناقبك جميعها وأكرمت عقلك حين تخيرت بين كرائم شمائلك عن أيثار غير المأثرة التي أردت بها قبل كل شيء أن تمجد وأنت نافع لقومك.

كل المحاسن التي جمعها الله في أخلاقك وصفاتك من أسطع الذكاء إلى أذرب ما يكون اللسان الفصيح محاسن خصيصة بك لا تتعدى ذاتك إلا إلى محيط قريب.

أما سيدة تلك المحامد وهي التي بكل شعاع مرسل منها تشيع ذكرك وتنير أمتك في آن معاً. تلك هي التي جعلتها محور مقالي وتلك هي التي اعتقدتها أجدر أخواتها بأن تؤثر عنك وتبقى لك جيلاً بعد جيل.

عرفت قدر الوقت فحرصت عليه حرص الضنين ولست بغيره ضنيناً فإذا مرت بك الساعة وقبست من جهدك ما قبست فصلت من خلوتك فصال الشهاب من سماء الغيب وقد حمل عظة للمتعظين، وهدي للعالمين.

رقيت مناصبك مبطئً أحياناً بجناية من ذكائك عليك، ومسرعاً أحياناً بموافقة الزمان لهمتك على أنك في الحالتين من تمهل وتعجل، وفي المنزلتين من مُعِدّة ومُبِلغة، كنت لأتفرغ من أداء الواجب الذي وظنت عليه كأحسن ما يؤدي حتى تجيء خلوتك وتعرى إلى نفسك من مطامع المهنة وتستريح إلى ضميرك من متاعب ذلك القسم الأول من الكفاح وتقول كما يجب على كل حي أن يقول أن الوقت وديعة الله عندي تحت تصريف عقلي وأن العقل لمعاهدة معنوية بيني وبين ربي على أن أخدم به أخوتي من أبناء نوعها كافة وأبناء جنسي وموطني ولغتي خاصة فلأف بالعهد ولأحسن تصريف الوديعة.

تقول هذا وتجل إلى مائدتك وقد تكون مريضاً فتتغلب على مرضك وقد تكون نصباً فتقوى على نصبك.

وقد تشتاق الهواء النقي في الحدائق النضرة التي تطل عليها. ومركبتك على بابك فتلبث.

وقد تسمع طرفاً من أحاديث المارة المتنادمين وتود لو متعت بساعات تقضيها في معاشرة أخوان من الظرفاء فلا تنشط لذلك اللهو الطاهر وإن تكن في حاجة إليه بل تمكث يد تقلب الكتب وقلم يصر ولفيفة مشعلة وجبين تكاد غضونه تتحاك من التفكير إلى أن يؤدي فرض النهار.

ما أصحك وأنت في تلك العلة، ما أقولك وأنت في ذلك الضعف ما أملأك للمدينة بل للبلدة وأنت في تلك الخلوة ما أصفى مجدك من كل شائبة حين يخرج من ذلك السأم ما أطهر سمعتك وأبعدها عن الريب حين تصدر عنه ذلك السكوت مجوهرة بمصقل ذلك التعب.

يجيئنا كتابك تلو الكتاب فيقول أهل القانون هذا خير ما كتب فيه تفسيراً لغوامضه وحلاً لمعضلاته.

ويقول السهار على أخلاق الأمة وتحولها الحادث هذا خير ما تعلم منه الجماعة قدرها وتتبين منه طيبها فتحتفظ به أو خبيثها فتقلع عنه آخذة عنه ما حسن عند غيرها تاركة بين يديه ما ساء من أمور سواها ويقول أهل التاريخ هذا سرد مضبوط وهذه مطالعات مثمرة وهذه نتائج ليست بملقاة الحبال على الغوارب وليست بعقيمة ويقول أهل الأدب هذا بيان صاف وكلام عربي تنسجم له آية ينفرد بها وهي أن كل كلمة فيه موضع ولا شيء في خلاله من كذب السراب الملمع.

أيها الأستاذ

هكذا تعي الحياة الفانية مدي الأدهار الطوال بآثارها الباقيات. . أنه إن لم يكن لك غير هذا ليجل تدرك ويعلو شأنك بين قومك فحسبك هذا.

ولكن لك ما عدده الخطباء وما أخفاه على الناس اتضاعك فلست بمحصيه ولست بمستقصيه لكنني أقول للأمة المصرية الكريمة بل لأمم الشرق كافة من على هذا المنبر أن اليوم الذي يعز الوقت فيه على كل فرد في طبقته ورتبته ومهنته كما عز عليك فلا يبدده تبديد السفه بل يصرفه تصريف الحكيم العاقل لأنفس ما بين يديه فذلك اليوم هو مبدأ عهد الفتح للشرق وأهليه، هو مبدأ استئناف المدنية العربية التي أمتد نورها في الخافقين، هو مبدأ عهد العمران المجدد، والفخر المستعاد، ينضاف فيه أنفس طريف إلى أقدس تلاد.