مجلة البيان للبرقوقي/العدد 19/ابن الرومي

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 19/ابن الرومي

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 7 - 1914



(تابع الكلام على حياته)

ومن قوله أيضاً:

يا ابن حرب كسوتني طيلساناً ... يزرع الرفو فيه وهو سباخ

عد ملياً قد ناطح الدهر حتى ... كل أركانه بهن انفاخ

مات نساجه ومات بنوهم ... وبدا الشيب في بنيهم وشاخوا

طيلسان إذا تداعت خروق ... بين أتنائه لهن صراخ

سرني صوته وقلت لصحبي ... لم يصوت إلا وفيه طباخ

تستمر الصدوع طولاً وعرضاً ... فيه حتى كأنهن رخاخ

ومنه أيضاً يستهدي كساء:

يا من عكفنا عليه لاذين به ... فما عكفنا على بدر ولا وثن

أعاذك الله من حال تماطلني ... لضيقها بكساء تافه الثمن

أنظر إلى هذه الدنيا وزينتها ... تر المكارم فيها زينة الزين

فاكس ابن شكرك ما يبلى على ثقة ... أن سوف يكسوك ما يبقى على الزمن

فهذا وما سبق من مثله خليق أن يريك مبلغ فاقته ورقة حاله وخصاصته، وإذا ذكرت أنه ربما لزم كسر بيته أياماً لا يخرج فيها ولا يتصرف، وحوله صبية غرائي قد أخذتهم أموة الجوع، يشربون على ريقه النفس وما غلوا شرابهم بشيء وهو يخشى أن يبرح بيته مخافة أن يفجأه مالا يطيق احتماله. والناس لا يرحمون ضعفه ولا يرفقون به. ولا يكفون عن التضاحك منه والعبث به. فمن هازل يتداعب به ويعيبه بمشيته. ومن لئيم يزعم أنه عنين ويرميه بأنه مخنث. ومن حاسد يعيب شعره ليهيجه وهو ينفشه عليه. وإنه ربما رق له جيرانه وحنوا عليه فبعثوا له بشبعة من طعام وشربة من ماء. وإنه كان يمدح أهل الثراء فلا يفيد سوى الرد. ويستصرخ بذوي الغنى واليسار فلا يغنون عنه قلامة ظفر. إذا ذكرت ذلك لم تستغرب قولنا في مفتح هذا الفصل إننا لا نعرف رجلاً أصابه ما أصابه ولا عظيماً تهاون به الناس حياً وميتاً ألا هو. على أنه لو لم يكن عظيماً وكان من أجلاف عصره وهمجهم لعجبنا كيف يجوع ويظمأ. ولاستغربنا كيف يخلو عصر من أهل المروءة والأريحية. فكيف وهو أشعر أهل زمانه. والموفي على أقرانه؟.

روى أبو إسحق الحصري في زهر الآداب قال قال علي بن إبراهيم كاتب مسروق البلخي كنت جالساً بداري فإذا حجارة سقطت بالقرب مني فبادرت هارباً وأمرت الغلام بالصمود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا الحجارة فقال امرأة من دار ابن الرومي الشاعر قد تشوفت وقالت اتقوا الله فينا واسقونا جرة من ماء وإلا هلكنا فقد مات من عندنا عطشا. فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة أن تصعد إليها وتخاطبها ففعلت وبادرت بالجرة وأتبعتها شيئاً من المأكول ثم عادت إلى فقالت: ذكرت المرأة (التي في دار ابن الرومي) أن البيت مقفل عليها من ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي فتعجبت من حديثها.

على أن شعره حافل بالشكوى مما لقيه في حياته من أذى الناس وصرف الأيام وعنت الليالي ولو نحن أردنا استقصاء ذلك لاحتجنا أن تنقل أكثر ديوانه ولكنا تجترئ باليسير من ذلك فمنه قوله:

ويح القوافي ما لها سفسفت ... حظي كأني كنت سفسفها

ألم تكن هوجا فسددتها ... ألم تكن عوجاً فتقفها

كم كلمات حكت أبرادها ... وسطها المن وطرفتها

ما أحسنت إن كنت حسنتها ... ما ظرفت إن كنت ظرفتها

أنحت على حظي بمبراتها=شكراً لأني كنت أرهفتها

فرفقته حين وقفتها ... وهفهفته حين هفهفتها

وكتفت دون الغنى سدها ... حتى كأني كنت كنفتها

أحلف بالله لقد أصبحت ... في الرزق أفتني وما إفتها

لم أشكها قط بتقصيره ... فيها ولا من حيفة حفتها

حرمت في سني وفي ميمتي ... قراى من دنيا تضيفتها

لهفي على الدنيا وهل لهفة ... تتصف منها أن تلهفتها

كم آهة لي قد تأوهتها ... فيها ومن أف تأففتها

أغدو ولا حال تسنمتها ... فيها ولا حال تردفتها

أوسعتها صبراً على لؤمها ... إذا تقصته تطرقتها وقوله يذم الزمان وأهله:

ذهب الذين تهزهم مداحهسم ... هز الكماة عوالي المران

كانوا إذا امتدحوا رأوا ما فيهم ... فالأريحية منهم بمكان

والمدح يقرع قلب من هو أهله ... قرع المواعظ قلب ذي إيمان

كم قائل لي منهم ومدحته ... بمدائح مثل الرياض حسان

أحسنت ويحك ليس في وإنما ... استحسن الحسنات في ميزاني

وقوله من قصيدة يمدح بها إسماعيل بن بلبل الشيباني:

أمثل شعري يلوى حقه وله ... عليك من شيمك المحمود وأعوان

مالي لديك كأني قد زرعت حصي ... في عام جدب وظهر الأرض صفوان

أعايذ بك يستسقى بمعطشة ... وفي يمينك سبحان وجيحان

وبي صدا وبحلفي غصة برح ... فاعجل بغوثك إن الريث خذلان

إلى قوله:

إن لا يعني على دهري أخو ثقة ... من العباد فإن الله معوان

أو يبطل الحق بين الناس كلهم ... فليس للحق عند الله بطلان

وقوله:

عجبت لقوم يقبلون مدائحي ... ويأبون تنويبي وفي ذاك معجب

أشعري سفساف فلم يجتنبونه ... وإلا تكن هاتي قلم لا أثوب

وقوله:

أبا الصقر لست أرى مهديا ... لك المدح غيري إلا متابا

ولو وقف الأمر عند حد الفقر والخصاصة لقلنا فقير معدم أمثاله في الأرض كثير لا يحيط بهم حساب في كل زمان ومكان. وما زالت تلك حال الأديب. يقبل على الأدب فتعرض عنه الدنيا ويدبر عنه المال والنشب. ولكن الأمر لسوء طالعه قد جاوز الأملاق والفاقة إلى ما هو شر من ذلك وأصعب. وفي الفصل الآتي بيان ذلك وشرحه.

فصل في طيرة ابن الرومي وتعليلها

تذكر في هذا الباب جملة من أخبار ابن الرومي وطرفاً مما اتصل بنا عن طيرته ثم تقفى عليها بعد سردها برأينا في الطيرة وتعليلها:

قالوا كان ابن الرومي مفرط الطيرة شديد الغلو فيها. وكان من عادته أن يلبس ثيابه كل يوم ويتعوذ. ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه فيضع عينه على ثقب في خشب الباب فتقع عينه على دار له كان نازلاً بإزائه وكان (أي جاره) أحدب يقعد كل يوم على بابه فإذا نظر إليه ورجع وخلع ثيابه وقال لا يفتح أحد الباب. وفي هذا الأحدب يقول:

قصرت أخادعه وطال قذاله ... فكأنه متربص أن يصفعا

وكأنما صعقت قفاه مسرة ... وأحس ثانية لها فتجمعا

وقال علي بن عبد الله بن المسيب: كان ابن الرومي يحتج للطيرة ويقول إن النبي كان يحب الفأل ويكره الطيرة. افتراه كل يتفاءل بالشيء ولا يتطير من ضده ويقول إن النبي مر برجل وهو يرحل ناقة ويقول يا ملعونة فقال لا يصحبنا ملعون. وإن علياً رضي الله عنه كان لا يغزو غزاة والقمر في العقرب. ويزعم أن الطيرة موجودة في الطباع قائمة فيها. وإن بعض الناس هي في طباعهم أظهر منها في بعض. وإن الأكثر في الناس إذا لقي ما يكرهه قال على وجه من أصبحت اليوم. فدخل علينا يوم مهرجان سنة ثمان وسبعين (ومائتين) وقد أهدى إلىَّ عدة من جواري الفيان وكانت فيهن صبية حولاء وعجوز في إحدى عينيها نكتة. فتطير من ذلك ولم يظهر لي أمره. وأقام باقي يومه فلما كان بعد مدة يسيرة سقطت ابنة لي من بعض السطوح فماتت وجفاه القاسم بن عبيد الله (وزير المعتضد) فجعل سبب ذلك المغنيتين وكتب إلى:

أيها المحتفى بحول وعور ... أين كانت عنك الوجوه الحسان

قد لعمري ركب أمراً مهينا ... ساءني فيك أيها الخلصان

فتحك المهرجان بالحول والعو ... رأرانا ما أعقب المهرجان

كان من ذاك فقدك ابنتك الحر (م) ... ة مصبوغة بها الأجفان

وتجافي مؤمل لي خليل ... لج فيه الجفاء والهجران

وعزيز علي تقريع خل ... لا يدانيه عندي الخلان

غير أني رأيت أذكاره الحزم ... وإشعاره شعاراً يصان

لا تهاون بطيرة أيها النظيا ... ر واعلم بأنها عنوان قف إذا طيرة تلقتك وانظر ... واستمع ثم ما يقول الزمان

فلما غاب من أمورك عنوان (م) ... مبين وللزمان لسان

لا تصدق عن النبيين إلا ... بحديث يلوح فيه البيان

خبر الله أن مشأمة كانت (م) ... لقوم وخبر القرآن

أفزور الحديث تقبل أم ما ... قاله ذو الجلال والفرقان

أترى من يرى البشير بشيراً ... يمتري في النذير ياوسنان

وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في عصر ابن الرومي شاباً مترفاً ومليحاً مستظرفاً وكان يعبث به فيأتيه بسحر فيقرع الباب فيقال له من فيقول قولوا لأبي الحسن (يعنى ابن الرومي) مرة بن حنظلة فيتطير لقوله ويقيم الأيام لا يخرج من داره وذلك كان سبب هجائه إياه فمن أول ما عاتبه به قوله:

قولوا لنحوينا أبي حسن ... إن حسامي إذا ضربت مضي

أعرف بالأشقياء بي رجلاً ... لا ينتهي أو يصير لي غرضا

يليح لي بالسلامة والسلم (م) ... ويخفي في قلبه مرضا

قال فقلنا ثم استقال فأع ... فيناه ثم استحال فانتفضا

وليس تجدي عليه موعظتي ... إن قدر الله حينه وقضي

كأنني بالشقي معتذراً ... إذا القوافي أذقنه المضضا

لا يأمنن السفيه بادرتي ... فإنني عارض لمن عرضا

عندي له السوط أن تلوم في السير=وعندي اللجام إن ركفنا

فاعتذر إليه وتشفع عنده بجماعة من أهل بغداد فقبل عذره ومدحه بقصيدته التي يقول فيها:

ذكر الأخفش القديم فقلنا ... إن للأخفش الحديث لفضلا

وإذا ما حكمت والروم قومي ... في كلام معرب كنت عدلا

ثم عاد إلى أذاه واتصل به أن رجلاً عرض عليه قصيدة من شعره قطعن عليها فقال قصيدته التي يقول فيها:

لا يلمني جارم سطوت به ... من زرع الشر عامداً حصده

جعلت عدل القصاص ملتحدي ... فليكن البغي ثم ملتحده كذلك إني خلقت ذا لدد=حتى أرى الخصم تاركاً لدده

لاسيما من عفوت عنه قاطع ... ته أتاني وهيجت صيده

سأسمع الناس ذمه أبداً=ما سمع الله حمد من حمده

ولابن الرومي في الأخفش أفخاش كثيرة مثبتة في ديوانه. وكان أصحابه غير الأخفش يعبثون به أيضاً فيرسلون إليه من يتطير من اسمه فلا يخرج من بيته أصلاً ويمتنع من التصرف سائر يومه - وأرسل إليه بعض أصحابه يوماً بغلام حسن الصورة اسمه حسن فطرق الباب عليه فقال من قال حسن فتفاءل به وخرج وإذا على باب داره حانوت خياط قد صلب عليها ورقتين كهيئة اللام ألف ورأى تحتها نوى تمر فتطير وقال هذا يشير بأن لا تمر ورجع ولم يذهب معه.

وروى بعضهم قال: بعثت بخادم لي يعرفه وأمرته يجلس بإزائه وكانت العين تميل إليه وتقدمت إلى بعض أعواني أن يدعو الجار الأحدب فلما حضر عندي أرسلت وراء غلامي لينهض إلى ابن الرومي ويستدعيه الحضور فإني لجالس ومعي الأحدب إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة الموسوس صاحب المعتضد ودخل ابن الرومي فلما تخطى باب الصحن عثر فانقطع شع نعله فدخل مذعوراً وكان إذا فاجأه الناظر رأي منه منظراً يدل على تغير حال فدخل وهو لا يري جاره المتطير منه فقلت له يا أبا الحسن أيكون شيء في خروجك أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل فقال قد لحفني ما رأيت من العترة لأني فكرت أن به عاهة وهي قطع اثييه قال برذعة شيخنا يتطير قلت نعم وبفرط قال ومن هو قلت على بن العباس قال الشاعر قلت نعم أقبل عليه وأنشده أبياتاً منها:

ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب

فخذ خلسة من كل يوم تعيشه ... وكن حذراً من كامنات العواقب

ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطرح ... تطير جاز أو تفاؤل صاحب

ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه فحلف ابن الرومي لا يتطير من هذا ولا من غيره وأومأ إلى جاره! ومن شدة حذره وعظيم تطيره قوله لأبي العباس بن ثوابة وقد ندبه إلى الخروج معه وركوب دجلة من قصيدة طويلة:

ومن يلق ما لاقيت في كل مجتنى ... من الشوك يزهد في الثمار الأطايب أذاقتني الأسفار ماكره الغني ... إلى وأغراني يرفض المطالب

ومن نكبة لاقيتها بعد نكبة ... وهبت اعتساف الأرض ذات المناكب

فصبري على الأقتار أيسر مطلبا ... على من التغرير بعد التجارب

لقيت من البر التباريح بعدما ... لقيت من البحر ابيضاض الذوائب

سقيت على ربي به ألف مطرة ... شغفت لبغضيها بحب المجادب

ولم أبغها بل ساقها لمكيدتي ... تلاعب دهر جد بي كالملاعب

أبي أن بغيت الأرض حتى إذا رمت ... برحلى أتاها بالغيوث النواكب

سقي الأرض من أجلي فأضحت مدلة ... تمايل صاحبها تمايل شارب

فملت إلى خان ورت بناؤه ... مميل غريق النوب لهفان لاغب

فما زلت في جوع وخوف ووحشة ... وفي سهر يستغرق الليل واصب

يؤرقني سقف كأني تحته ... من الوكف تحت المزجيات الهواضب

يظل إذا ما الطين أثقل متنه ... تضر نواحيه صرير الجنادب

وكم خان سفر خان فانقض فوقهم ... كما نقض صقر الدجن فوق الأرانب

وما زال ضاحي البر يضرب أهله ... بسوطي عذاب جامد بعد ذائب

فإن فاته قطر وثلج فإنه ... رهين بساف ثارة ويحاصب

فذاك بلاء البر عندي شاتيا ... وكم لي من صيف به ذي مثالب

ألا رب نار بالقضاء اصطليتها ... من الضح بودي لفحها بالحواجب

فدع عنك ذكر البر أني رأيته ... لمن خاف هول البحر شر المهارب

ومازال يبغيني الخوف موارباً ... يحوم عل قتلي وغير موارب

فطوراً يناديني بلص مصلت ... وطوراً يسميني بورد الشوارب

وأما بلاء البحر عندي فإنه ... طواني على روع من الروح واقب

ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بغضه ... ولكنه من هوله غير تائب

ولم لا ولو ألقيت فيه وصخرة ... لوافيت منه النعر أول راسب

ولم أتعلم قط من ذي سباحة ... سوى الغوص والمصفوف غير مغالب

فأيشذ إشفاقي من الماء أنني ... أمر به في الكوز مر المجانب وأينشي الردى منه على كل شارب ... فكيف بأمنيه على نفس راكب

أخل إذا هزته ريح ولألأت ... له الشمس أفواجاً طوال الغرائب

كأني أرى فيهن فرسان بهمة ... يليحون تحوى بالسيوف الغواضب

فإن قلت لي قد يركب اليم طامياً ... ودجلة عند اليم بعد المذانب

فلا عذر فيها لامرئ هاب مثلها ... وفي اللجة الخضراء عذر لهائب

لطامن حتى تطرقن قلوبنا ... وتغضب من مزح الرياح اللواعب

ولليتم أعذار بعرض متونه ... وما فيه من آذية المتراكب

إبراهيم عبد القادر المازني