مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/عالم الحرب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 22/عالم الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 11 - 1914



مذكرات سرية عن الإمبراطور غليوم

وصيفة من وصائف الشرف لبثت زهاء عشرة أعوام في بلاط برلين تحدث العالم عما رأته من غرائب أخلاق غليوم وشواذ نوادره، وأسرار حياته، وبدائع عبقريته، وعجائب أموره - وهي حقائق ثابتة لا يشوبها شائبة من الكذب أو التلفيق أو الاختلاق، ولا يمازجها أثر من التخيل أو التوسع أو الأطناب.

معاملة الإمبراطور لوزرائه - اعتباره إياهم كخدمته - حادثة المستشار الشيخ - إكراهه الوزراء على الحضور بلباسهم الرسمي قبيل الصبح - قراءة التقارير عليه - رأي خدم القصر في الوزارء - متاعب المستشار - إكراهه الوزراء على صنع ولائم له هو وحاشيته وأصدقائه.

إن معاملة غليوم الثاني لوزرائه لمن أغرب ما ظهر من نفسية الملوك وأخلاق الإمبراطورة، فإن سواد الحكوميين الذين تقلدوا عنده مناصب الوزارة لم يلبثوا أن تركوها كما يترك الخادم بيوت مخدوميهم لاضطهاد سادتهم لهم وسوء معاملتهم إياهم، وذلك لأن الإمبراطور ينظر إليهم نظر السيد العظيم إلى خدمته الإغفال بل لا يقول عن خدمتهم جميعاً من المستشار إلى أصغر رجل في الوزارة إلا المساعدة غير المحنكة.

حدث مرة أن الإمبراطور أمر مستشارة البرنس هوهنلوه أن يجيء إليه بتقاريره في الساعة السابعة صبحاً لكي يتلوها عليه في القطار، وكان غليوم مزمعاً سفراً غير بعيد، وكان ذلك في صميم الشتاء وزمهرير البرد، وكان البرنس شيخاً في الثامنة والسبعين، على أن ذلك لم يكن ليحول بين الإمبراطور وبين لذته، وكانت لذته أن يجلس في القطار إلى مائدة الفطور، مصغياً إلى قريبه الشيخ وهو يلقي عليه تقاريره عن مهام الإمبراطورية.

فلما كان الإمبراطور في قاعة الانتظار في المحطة عند الموعد المضروب جاءه رئيس حرسه يقول إن الأميرة هوهنلوه قد حضرت إلى المحطة تريد رؤية الإمبراطور فلم يكن من غليوم إلا أن أسرع إلى لقائها، قائلاً وهو يمد إليها يده مصافحاً وعليه إمارات العجب ومظاهر الدهشة، الأميرة هوهنلوه!. . أترى مستشاري مريضاً!.

فأجابت الأميرة وهي تبتسم، وكانت كذلك عجوزاً في السادسة والستين، لا. . بل نائماً!. .

قال الإمبراطور في لهجة المغضب أينام وقد أمره إمبراطوره أن يكون الساعة بجانبه. .

إذ ذاك فارقت الأميرة تلك الابتسامة التي ظهرت على محياها ثم قالت عجباً يا بن الأخ! أنسيت الشرط التي أخذناها عليك في خدمته لك، إن أول هذه الشروط أن يحسب لسنه ومقامه حساب، إن أمراً كهذا يدعوه وهو رجل في الثامنة والسبعين إلى الحضور إلى المحطة، لفي مثل هذا الوقت المبكر الصعب، وفي هذا القر القاتل، والبرد المهلك، ليس ولا ريب من تلك الشروط في شيء، ولذلك لا غرو إذا تبادر إلى أن جلالتك تعني بذلك أن يكون التقرير لديك في القطار، ولذلك جئتك الآن به، فهل تراني أخطأت؟.

وماذا ترى الإمبراطور كان يصنع في هذه الحال إلا أن يتظاهر بالرضا والموافقة ولذلك أجاب إني عالم أنك يا عمتي رقيقة القلب، ولكن هذه الأمور كما ترين خارجة عن العادة المتبعة، ولا بد من النظام كما تعلمين. . .

وفي صميم الشتاء يجب أن يكون الوزراء جميعاً بين يديه أو على مقربة منه من الساعة السادسة صباحاً حتى منتصف الليل، وفي الصيف يدعوهم إلى الحضور في منتصف الخامسة من الفجر، ولذلك يضطر الوزير إلى أن يستيقظ من نومه قبل أن ينبثق الصبح، إن كان محتماً عليه أن يكون في لباسه الرسمي وردائه المذهب المحلى بأوسمته وشرائطه الحريرية وأن ينتعل حذاءه الدقيق ويشد إلى نطاقه سيفه وحمائله، والتجمل بهذه كلها يستغرق ولا ريب وقتاً ليس بالقصير.

وإذا لم يطلبهم في هذا الموعد كان ذلك أسوأ عليهم وأشد قسوة، لأنهم لا يأمنون أن يبغتوا ليلاً أو نهاراً باستدعاء منه وهم في حلقة الأسرة بين أزواجهم وأبنائهم وصحبهم وندمانهم وهم لا يستطيعون أن يدعوا ملكية ساعة واحدة من ساعات النهار، لأنهم يعلمون أن التقارير الدائرة حول أمهات المسائل السياسية ليست عند غليوم إلا كأطباق الحلوى، يجب أن تلتهم بين فترات اللذة وفسحات اللهو والمراح، ومن ثم يبعث في طلب رجاله في أية ساعة كانت، كما شاءت لذته وشاء سروره، حتى أن نصف تقارير الوزراء يتلى عليه في حجرات القطارات أو في قاعات الانتظار في المحطات، وأما النصف الآخر فيقرأ عليه في مركبته أو سيارته.

وترى خدم القصر يقولون إن الوزير الراغب في عمله ينبغي أن لا تفارق إذنه مسمعة التليفون ولا تثني عينه عن ساعة الحائط، ولا ترتد عينه الأخرى عن كتاب الدليل.

وقد يحدث في أغلب الأحيان أن يذهب الوزراء كلهم أو بعضهم إلى القصر على إثر دعوة من الإمبراطور، بصحبهم وكلاؤهم أو كتابهم بمحافظهم وأوراقهم وتقاريرهم فيخبرهم رئيس القصر أن الإمبراطور قد غير نيته، وخرج يطلب الصيد، ولعله لا يعود بعد ساعات، ومن ثم لا يجد الوزراء في وسعهم إلا أن يعودوا أدراجهم إلى بيوتهم، وربما بعث الإمبراطور في طلبهم بعد ذلك وما كادوا يستقرون في منازلهم.

على أن أشد ما ينال المستشار أو الوزير أن يكون في دار التمثيل مع الإمبراطور فيدعوه، والليل كاد ينتصف، أن يصحبه إلى القطار ليقرأ عليه تقريراً أو يلقي عليه اقتراحاً أو يدلي إليه برأي، وفي مثل هذه الحال ترى المستشار يأخذ لفي القول ويمعن في الحديث، هذا والإمبراطور يتثاءب في رفق، بين فترات الوقت، وقد أخذ الكرى عينيه.

فإذا وقف القطار بالمحطة التي يريدها أفاق الإمبراطور من نعاسه فمسح عينيه وهو يقول إني مقتنع باقتراحك هذا، فعليك أن تنفذه كما ترى وقد يقول إذا كان ضيق الصدر اترك تقريرك لدى الكاتب حتى أفحصه. . . عم مساء. .!.

يقول ذلك وهو يخطو مسرعاً نحو المركبة، بينا يعود الوزير إلى قاعة الانتظار، وقد يمكث ساعة أو ساعتين حتى يقله القطار الأخير إلى وجهته.

وقد يتفق كثيراً أن يدعو الإمبراطور نفسه إلى العشاء على مائدة أحد الوزراء تاركاً للوزير متاعب الاستعداد للقائه، وآلام التجهز للاحتفاء به، بل قد يقول له إنه قد أمر فلاناً وفلاناً من أصدقائه ورجاله إلى مصاحبته إلى هذه الوليمة الإجبارية.

اقرأ في العدد القادم قطعاً أخرى مختارة من هذه المذكرات