مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/شذرات من فلسفة نيتشه

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 24/شذرات من فلسفة نيتشه

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 1 - 1915



ائتلاف الشعور

للتوصل إلى معرفة وجدان الجار أو العشير أو بعبارة أخرى لكي تولد في نفوسنا تلك الإحساسات التي تملأ نفسه ترانا غالباً نبحث عن بواعث إحساساته وأسبابها كأن نسائل أنفسنا ما سبب حزنه أو سروره حتى إذا عرفناه أدخلنا على قلوبنا من الترح أو من الفرح مثل ما به غير أنا كثيراً ما نهمل أن نفعل ذلك أعني أن نبحث عن أسباب اغتمام الرجل مثلاً فنعرفها بل كل ما نفعل هو أننا نولد في أنفسنا إحساس جليسنا بتقليدنا حركات جسمه الدالة على هذا الإحساس كحطايتنا لحظ عينيه ونغمة صوته ومشيته ووقفته (أو حكايتنا صور هذه الحركات والهيئات كما يصورها لنا الكلام أو النقش أو الموسيقى) وتقليدنا حركة عضلات الرجل وجهازه العصبي. وبمجرد تقليدنا هذه الحركات يتولد في نفوسنا الشعور الذي في فؤاد جليسنا بمقتضى القانون النفساني - قانون اصطحاب الإحساسات ودلائلها الظاهرة. وبيانه أن لكل إحساس نفسي علامة ظاهرة في الجسم متى نبع الإحساس في النفس قام عليه الدليل في الجسم فإحساس الحزن مثلاً مصحوب بالدلالة الظاهرة - ظلمة الوجه. فإذا حزن القلب أظلم الوجه في الحال وهذا القانون عكسي أعني إذا كان رجل مشرق الوجه من السرور والارتياح فقابل آخر مظلم الوجه من الحزن فإن الرجل الأول لا يتمالك أن تكسو وجهه ظلمة طبقاً لقانون التقليد. وإذا كانت هذه الظلمة الظاهرة والحزن الدخيل هما كما قلنا متلازمين لا يكون أحدهما بدون الآخر فإنه متى غشيت هذه الظلمة الوجه تولد الحزن في القلب اضطراراً لا اختياراً وإن لم يكن هنالك أدنى باعث نفسي على الحزن. وهذا التقليد للحركات الظاهرة قد نمت ملكته في الإنسان فصار فيه من أسرع الملكات وأنشطها فانظر إلى وجه أية امرأة تصادفك وتأمل فيه سرعة حركة الحياة وفرط اضطرابها وانظر ما به من الاهتزازات والتموجات التي هي نتيجة دوام تقليدها وتصويرها لما يحيط بها من الحركات والسكنات.

وبعد فإنه ليس كالموسيقى شيء أدل على ما ركب في طبائعنا من القدرة على سرعة إدراك الإحساسات والعواطف والتأثر بها. فالموسيقى وإن لم تكن إلا تقليداً لتقليد العواطف والإحساسات فإنها رغماً عما فيها من الإبهام والبعد من الأصل أسرع الأشياء إلى إشع أفئدتنا ما تعبر عنه من تلك الإحساسات فنستشعرها بغتة حتى ترانا نحزن أشد الحزن مثلاً بلا أدنى باعث هنالك على الأسى. اللهم إلا سماعنا بضعة أصوات وألحان تذكرنا - لا ندري كيف - بحركات المحزونين وهيئاتهم، فلقد وري عن بعض ملوك الدانمارك أنه جلس مرة يسمع لحناً حماسياً فبلغ من شدة تأثره واهتياجه أنه وثب إلى قدميه فانتضى حسامه فذبح خمسة من أتباعه الحاضرين. مع أنه لا حرباً يشهد ولا عدواً يشاهد بل السلم ينشر فوقه أجنحته والأحباب حوله جالسون، وكم أفاضت الموسيقى من سجال العبرات على خدود الملاح في الأعراس، وكم هاجت الحنين وأوقدت نار الذكرى في قلوب الأحبة الناعمين تحت ظلال الوصل الذين قد نظم عقدهم وأليف شملهم سلك الاجتماع بعد الفرقة، وبرد أحشاءهم فرح اللقاء بعد الحرقة.

والعلة في وجود هذه الملكة - ملكة تقليد إحساسات الغير في الإنسان - هي أنه لما كان الآدمي أجبن المخلوقات وكان منذ أقدم الأزمان يوئس الخطر في كل ما ليس له بعد ألفة من الخلائق فقد أصبح إذا لقي واحداً من هذه الكائنات شرع يقلد حركات وجهه وجسده ليستدل بذلك على ما عساه يكون إحساس هذا المخلوق الغريب وعاطفته وما يحتمل أن يكون الشر الذي يضمره له. بل إن الإنسان لم يكفه أن يضع ذلك بالحيوان حتى صنعه بالجماد فكان يديم النظر إلى الكائنات الطبيعية يحاول أن يترجم حركاتها وظواهرها ومميزات خواصها ويستدل بهذه على ما تكن وتستر من نواياها ومقاصدها وكان يغريه بذلك اعتقاده الكاذب أنه ليس في الكون شيء جامد بلا روح. ويقيني أن هذا هو أصل ما يسميه المفكرون الآن عشق الإنسان للطبيعة والتداذه بمناظرها والفرح الذي يخامر القلب عند رؤية السماء الزرقاء الصافية. واللجنة المتدفقة الطامية. والصخور الشماء. والحدائق اللقاء. والرياح العواصف. والرعود القواصف، والزوابع. والنجوم اللوامع والشقاء المطير، والصيف النضير. وما إلى ذلك من شتى صور الطبيعة. وأشكالها. ولا ريب عندي أنه لولا ما سبق لنا من عادة الهيبة والخوف وحملها إيانا على الارتياب بالكائنات الطبيعية والظن أنها تضمر من المعاني خلاف ما تظهر وإنها تستر وراءها سراً مجهولاً لما كنا واجدين في رؤية الطبيعة من الجذل والابتهاج ما تجده الآن. كما أنا ما كنا لنرتاح ونطرب ونسر برؤية بني الإنسان والحيوان لولا ما سبق ذلك من ارتيابنا وخوفنا أفراد هاتين القبيلتين وجموعهما ولا غرو فالفرح والتعجب والضحك هي صغرى بنات العاطفة التي هي عنوان هذه المقالة أعني عاطفة (ائتلاف الشعور) أما الابنة الكبرى فهذه هي عاطفة (الخوف) وملكة سرعة الإدراك التي هي مبنية على عاطفة (حب التقليد)، (وهذه الثانية هي كما ابنا آنفاً نتيجة الهيبة والارتياب والخوف) - أقول وملكة سرعة الإدراك تضعف في ذوي القوة والجبروت والبطش إذ كانوا أشد جرأة وأقل هيبة. وعلى العكس من ذلك ترى في ذوي الخور والجبن من هم مفعموا الأوعية من ملكة سرعة الإدراك وبراعة التقليد وشدة الذكاء وفيهم موطن الفنون التقليدية ومظنة البديهة وسرعة الخاطر.