مجلة البيان للبرقوقي/العدد 26/شذرات عن الحرب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 26/شذرات عن الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 30 - 4 - 1915



عشيقة بسمارك

رجل الدم والحديد يعشق

لا نريد أن نكتب عن بسمارك، رجل الدم والحديد - كما يسمونه - كرجل سياسي، عظيم الدهاء، مدهش التدبير، ولا كحكومي قوى السلطان، جبار العقل، بل جئنا لنكتب عنه من ناحية الجزء الروحاني فيه، من الناحية الإنسانية الحساسة التي تهزأ أبداً بحجج العقل، وتسخر من خشونة التفكير، ولا تستمع لقسوة العمل، هي عاطفة الحب - جئنا لنكتب عن بسمارك، ذلك الرجل الحديدي القاسي العملي كعاشق ذاقت روحه الخشنة لذة الحب، وليس في هذا شيء من العجب، فإن عاطفة الحب ليست إلا عاطفة روحانية عامة، لا حد لها ولا وسط ولا بيئة ولا صنف، هي تشمل الزنوج المتوحشين، كما تعم المتحضرين المتهذبين، وتنزل في القلب القاسي المغلق الأصم، كما تقع في الفؤاد المتفتح.

وأول حادثة وقعت له في حب النساء كانت وهو في السادسة والعشرين، جندياً حار القلب، مضطرم الوجدان، وكان قد خرج إلى ميترباد، بلدة صغيرة في النمسا من بلدان الحمامات المعدنية المشهورة، ولعله كان في هذه السن مغرماً بالنساء، ميالاً إلى مغازلة الحسان، جناحاً إلى التقرب إلى ظبائهن، فلما نزل ميترباد، جعل يمشي متنزهاً في طرقاتها ودروبها ومتنزهاتها، يتبع الجميلات ببصره، ويملي على العين من وجوه المليحات حتى إذا كان ذات يوم، والعام 1841، وأنه ليخطر في إحدى طرق المدينة، إذ وقعت عيناه على فتاة رشيقة ذهبية الشعر أثيلة الخد ناعمة الوجنة، حلوة الوجه مبتسمته فما كادت تقع عليها عينه حتى وقع معها قلبه، ومنذ تلك الساعة وهو مهتاج النفس، مضطرب القلب، حتى تبعها يوماً، وعرف مقرها، ثم تعرف بعد إليها.

وكانت الفتاة التي أسرت فؤاده تسمى جوزيفاً ابنة صاحب حمامات بلدة ميتر باد كلها، وغني من أوائل أغنياء مقاطعة التيرول بأسرها، وقد سره وقع موقع الغبطة منه أن اهتدى إلى أن الفتاة لم تكن تغضب من تقربه إليها، ولم تكن تشعر إلا بالإعجاب بمشرق وجهه الجميل ونجوي عينه العاشقة، فتشجع وجعل يلتقي بها كل يوم في ساعات معينة محدودة وقد بدأت الفتاة تلتهب حباً للفتى الغريب وبه إعجاباً.

ومضى أسبوع، ومر أسبوعان، وهما يلتقيان ويجتمعان على خفية من السيد هولزنر، والد الفتاة وصاحب الحمامات، حتى إذا بلغ الحب من بسمارك شدته، وأعجزه أن يصطبر لحرارته، عزم على أن يفاتح والدها في الزواج، ويسأله يد ابنته، ولكن الرجل لم يكن يعرف أن في أثواب هذا الضابط الفتى الشاب، تلك العظمة الهائلة المخيفة الرائعة التي كانت ستتجلى بعد حين في أكبر جلالها، وكانت ستغير وجه التاريخ الإنساني الحديث بأجمعه، بل لم يكن يدري أن هذا الشاب الذي لا يحمل إلا اسم أرثر بسمارك، اسماً صغيراً عادياً، سيضع بعد قليل من الزمن لقب (البرنس) إلى جانبه وسينادي به في التاريخ رجل الدم والحديد، فما كان من الرجل إلا أن قابل سؤاله بأشد ما يقابل من القحة والأنفة والاستنكار، بل راح يهجم عليه بالشتائم والسباب، ويسمى هذا الرجل العظيم الجبار وقحاً، ودعياً، ورقيعاً وصرح له بأنه يؤثر أن يرى ابنته ملحودة موؤدة، على أن يشهدها امرأة دعي مثله، وعبثاً حاول بسمارك أن يحتج ويغالب ويدافع عن نفسه، ولكن أبى الوالد القاسي إلا أن يصر على عزيمته وانتهى الحديث بينهما بأن أشار الوالد إلى الباب، يريد أن يطرده!!!

وكذلك لم يكن يدري هذا الرجل أن في تلك الدقيقة التي أقفل فيها بابه وراء بسمارك، كانت هي الدقيقة نفسها التي فيه أغلق بيديه الشرفة التي كان سيطل منها على المستقبل الأبدي الخالد. . .

كيف تكتم أسرار الحروب

(اللورد كتشنر لا يأمن المتزوجين من الجند على أسرار الحرب!)

لا ريب في أن للحكومات خلال زمن الحرب عدة من الأسرار الهامة الخطيرة يجب أن تحرص عليها كل الحرص، وتعمل جهدها على كتمها، ولذلك لا تني تضع الوسائل المختلفة والطرائق الكثيرة، والأساليب الغريبة في الاحتفاظ بها من الذيوع والسرقة والانتشار، ومن هذه الوسائل أن الكتابة في الدواوين المختصة بهذه الأسرار والرسائل والتقارير الهامة فيها لا تجفف بأوراق (النشاف) المعتادة بل قد استعاضوا عنها بآلات مجففة تتألف من اسطوانات متحركة مغطاة بورق من النشاف مبلل بالمداد، أسود الأديم، حتى لا يمكن أن تنطبع الألفاظ والسطور على أديمها، لو كانت بيضاء، وهم في أغلب الأحيان يستعملون الورق النشاف الأسود بدلاً من الأبيض أو القرمزي، أما الرسائل البرقية الخطيرة فهم يستعملون في تطييرها رمزاً مفهوماً بينهم معروفاً.

وقد كان من عادة اللورد كتشنر في الحروب التي حضرها أن لا يأمن على أسراره الخطيرة إلا الأعزاب غير المتزوجين، حتى أنه في السنوات العدة التي قضاها في السودان يعمل على مهاجمة المهدي والغلبة عليه لم يجعل في ديوان حربه وكتماء سره رجلاً منهم متزوجاً فإذا أراد أحد الجند الذين في خدمته وديوان حربه أن يتزوج أمر اللورد بنقله إلى مكان آخر، وذلك مخافة أن يعجز عن كتم الأسرار الحربية عن زوجته!.