مجلة البيان للبرقوقي/العدد 32/صور هزلية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 32/صور هزلية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 2 - 1917



من أخلاق الناس

يأبى العالم كله إلا أن يكون مضحكاً، لأن الحياة نفسها هي أضحوكة الأضاحيك، والناس لا يستطيعون أن يكونوا كاملين، لأن الحياة تأبى إلا أن تكون شوهاء ناقصة، بل إن الرزالة والوقار والكمال لتبدو جميعاً أزاء سخافة الدنيا أبدع أنواع المجون، وأغرب ضروب الرياء، وأنت لا تستطيع أن تجد رجلاً واحداً في هذا الأوقيانوس المزدحم، رزين الروح من كل نواحيه، خالياً من الشائنة، بعيداً عن المعابة، وقد تقع يوماً على رجل يبعثك منظره على احترامه، ويريدك خلقه على إجلاله، ولا ترى فيه إلا صورة رائعة من تلك الصور الخلقية بالنسخ والرسم تلك الصور الجميلة التي حاولت الأديان والشرائع والفلاسفة والخياليون والشعراء والمفكرون أن توجد لها مطبعة من مطابع البالوظة لكي يطبع الناس جميعاً أنفسهم عليها، فتظن أنت إذ ذاك أن هذا الرجل الجليل مادة واسعة للكلام عن الفضيلة وخطوة طيبة في سبيل قتل الحيوان الذي يطل دائماً من أثواب الإنسان، ووسيلة ممكنة لتقليد الملائكة، وتظنه جميلاً من كل ناحية التمست رؤيته منها، ووقوراً رزيناً من كل عاطفة أردت الإشراف عليه من صوبها، ولكنك لو رأيت أشعة خلقية على نحو الأشعة الرنتجنية، واستطعت بها أن تبصر كل أجزاء روحه ودخيلة نفسه، إذن لما لبثت أن تهتدي إلى ركن مضحك غريب منه، ولألفيته بعدها مفارقة عجيبة لا يسعك إلا أن تقهقه ضاحكاً منها، ولأدهشك هذا الضعف الإنساني الذي شاءت الطبيعة أن يظل إلى الأبد أكبر فضيلة الإنسان وأكبر عيوبه، ولعلمت أن الرجل العظيم أشبه بتمثال ضخم من الحديد يقوم على ساقين من الطين أو الفخار.

وكذلك ترى أن العظيم لا يزال مضحكاً، والحقير مادة الضحك كلها، وإن الحياة ليست إلا نكتة من نكت الطبيعة ولكنها تعد نكتة قاسية تبكي أكثر مما تضحك، ثم يجيء الموت فيختم هذه الطقطوقة الهزلية، وتكون الطبيعة قد شبعت عند ذلك من الضحك من الإنسان والهزؤ به.

وأغرب شؤون الطبيعة أنها قد تجعل إنساناً نهاية في الجد وآخر ما يمكن أن يتصور من الرجل الصالح الرزين العاقل التقي الورع، ولكنها تأبى إلا أن تضع له زراً خفياً في خلقه، إذا حركته تغير المنظر، وتوارى هذا الستار، وجد ستار آخر على فصل من أغرب فصول الفودفيل الخليع، وأنت قد تلقى رجلاً يحب الصلاة، ولكنه يميل بطبيعته على السكر، وهذه مناقضة لا تغيب عن ذهن الطبيعة، ولكنها تريد أن تلعب بالناس وحسبه، ولهذا ترى حيرة الرجل بين هذين الميلين مجونية مضحكة، إذ تجده يسقط فوق ركبتيه ركوعاً لله، في ميقات من مواقيت الصلاة، ويسقط مترتحاً ساجداً للكأس في موعد من مواعيد الشراب، ثم لا تنسى أن الصلاة هي محاولة التقرب من الله، وإن الشراب أيضاً هو محاولة إخماد الحس، أي أنه محاولة الإقتراب من الموت، والموت هو من نفسه اقتراب من الله.

الحياة أضحوكة أيها الناس، وأبدعكم من كان أشد إضحاكاً من الجميع، والهازئ بالحياة أصلح لها من المقطب لها الجاد في الحرص عليها، والإبتسامات ألطف من العبرات، وخير للإنسان أن يكون مضحكاً من أن يكون كايوسا وأن يكون مفرقعاً من أن يكون سائلاً لأن الضحك ليس إلا فرقعة من مفرقعات العواطف، وهو انفجار أشبه بانفجار النيازك في الأعياد، لأنه انفجار كثير الألوان، زاهي الأصباغ، أما الدموع فهي العواطف ذائبة، والأحزان سائلة، فإذا جاشت بنفسك دمعة وأرادت أن تهجم على عينيك، فلا تدعها تسيل وتنحدر، لأنها ماء الروح، وخير لروحك أن تظل بمائها، حتى لا تجف وتنصب، ولكن عليك أن تحيل هذا البكاء ضحكاً هستيرياً متشنجاً، حتى تدع الذي يراك يبتسم لك ويكون صدى ضحكتك، إذ ينبغي أن تحاول جهدك أن لا تظهر أمام الناس حزيناً، لأن حزنك ثقيل الظل على الناس، مكروه المظهر في المجلس والرجل الحزين لا يلتفت إليه إلا من قبيل التهكم به وبحزنه معاً، لأنه يريد أن يقطع مادة الضحك من قلوب الحاضرين.

أيها الناس، إن الحياة سخيفة، ودمعة واحدة تطفر من عين إنسان يجب أن تقدر بالعالم كله، فدعوا البكاء جانباً لأن الدموع غالية، وما أرخص ثمن الضحكات، كل عشر ضحكات بقرش، أيها الناس، فاضحكوا ملء أفواهكم.

نعم. لنضحك، ولنجتهد في أن نضحك كثيراً من بعضنا، وأنا موافيكم بعد اليوم بصوركم المضحكة، وبادئ صورتي الهزلية قبل كل صورة فإلى الملتقى.

ع. ح