مجلة البيان للبرقوقي/العدد 34/الإدانة والمسؤولية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 34/الإدانة والمسؤولية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 3 - 1917



مبحث قيم جليل للعالم دانتك يقوم بترجمته للبيان الدكتور عبه البرقوقي المحامي. من كتاب اسمه آثار السلف.

ـ 1 ـ

من الأمور الهامة المطروحة على بساط البحث والمناقشة صفة العقوبة وشدتها وذلك أنه إذا كان الإنسان حراً في اختيار أفعاله فالأمر سهل لا يحتاج إلى مناقشة وإن كان الأمر على العكس وكان الإنسان مقيداً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فيجل بنا أن نبحث عن المسؤولية وكنه أمرها وهل هي موجودة حقيقة أم غير موجودة من قبل أن نبدي رأينا في وصف المجرمين بالعنف واللين.

الإنسان صنع الورثة والتربية. وأعني بالوراثة مجموع خواص وصفات البويضة التي خلق منها الإنسان وبالتربية مجموع الظروف والحوادث التي مرت بهذه البويضة منذ أن نشأت وتكونت إلى الآن.

ومن المسؤول عن الوراثة؟ الصدفة، فإن البويضة وإن كانت ترث عن الأب والأم معاً إلا أنهما لا يمكنهما أن يعرفا سلفاً نتيجة امتزاجهما بعض ببعض فإن صفات البويضة لا تتوقف على ما ترثه من الأب والأم بل تتوقف أيضاً على طريقة امتزاج الميراثين بعض ببعض ونسبة ما تأخذه عن كا منهما.

تزوج رجل بامرأة فولد لهما طفل حائز جميع الميزات الجميلة. فلهما أن يلدا أخاً له. هذا الأخ لو أتى ربما يكون دميم الخلق أو أبله وعلى الرغم من أنه ليس لهما ضلع ولا إرادة في كلتا الحاليتن فإنهما يتيهان عجباً وافتخاراً بابنهما الأول ويذوبان خجلاً ومعرة من الثاني، وهذا غريزي في الإنسان.

ومن المسؤول عن التربية؟

التربية هي مجموع الظروف التي مرت بالبويضة منذ تكوينها كثيرة التعقيد والتركيب بحيث يستحيل تحليلها ومعرفة جميع أجزائها. وهي تتكون من تأثير الكائنات الحية وغير الحية في الإنسان. ولا تقل الكائنات الثانية عن الأولى أهمية فلو جلست بجانب حائط فسقط منها حجر على رأسك فأدماه كان هذا درساً نافعاً لك.

ومن البديهي ألا يسأل أحد عن فعل هذا الحجر ولو كان بالقرب منك إنسان يمكنه أن يلفت نظرك ويحذرك من سقوط الحجر عليك.

ولما كانت قوة التقليد في الإنسان عظيمة كان تأثير الكائنات الحية في تربيته عظيماً وكلما كان أقرب الشبه ببعضها كان تأثير هذا البعض فيه أشد وأعظم حيث يسهل عليه التقليد والتشبه. لهذا كان الفضل الأول في تربية الناس راجع إلى تأثير بعضهم في بعض ولقصور اللغات البشرية عن التعبير بدقة وإيثار السهولة والإيضاح على الحقيقة غالينا في تقدير فضل الإنسان على الإنسان وقصرنا لفظ التربية على ما يكتبه المرء من الناس وأغفلنا ذكر العناصر الأخرى وتناسينا فضلها. وهذا خطأ فاحش يؤسف له ولا يسع العلم أن يغض الطرف عنه كل قرين بالمقارن يقتدي مغالاة كبيرة في فضل الإنسانية على تربية الإنسان ونكرات لفضل العوامل الأخرى التي من بينها الوراثة.

من شابه أباه فما ظلم مثل يقرر الوراثة وأثرها الهائل في الإنسان ولكن من غير دقة ولا تحقيق كما هي الحال في المثل الأول. وعلى الرغم من تضارب المثلين وتناقضهما بعضهما لبعض لا نفتر عن التمثل بهما واستعمال الواحد تلو الثاني حسب الظروف والأحوال.

لا تتوقف أفعال المرء على الوراثة والتربية فقط بل تتوقف أيضاً على مزاجه والظروف المحيطة به، والبيئة العائش فيها وهو غير مسؤول عن كل هذه الأمور لأن البيئة والظروف خارجة عن إرادته ولأن الأمزجة نتيجة الوراثة والحوادث التي مرت بحياته وإذن فلا مسؤولية ولا إدانة.

بيد أني لو عثرت بقدم إنسان سهواً أو خطأ لا ينظر إلي بالعين التي يرمقني بها فيما لو كنت متعمداً فإنه في الحالة الأولى لا يحفظ لي في قلبه ضغينة ما حتى ولو أصابه أذى عظيم وفي الحالة الثانية مهما كان ألمه تافهاً يستاء مني ويعتبر أني مذنباً ويعاملني معاملة المذنبين مع أن الحالتين سواء لأني في كلتيهما مقود بقوة خارجة عن طوق إرادتي.

إذا رآني قادماً عليه وشاهد مني أني ذاهل عنه ولم يسحب قدمه من طريقي فهو المخطئ فإن لم يرني هو أيضاً فكلانا غير مخطئ ولكن مع هذا هناك أذى قد وقع.

وفي حالة تعمدي نظرته عن بعد وكنت إذ ذاك مدفوعاً برغبة خفية إلى المشي على قدمه وقد توالدت هذه الرغبة عن العوامل المكونة لتربيتي. فقد أحفظ له ضغينة في قلبي وبمجرد ما لمحته عيني تحركت الضغينة ودفعتني إلى الإساءة إليه والإنتقام منه بالمشي على قدمه. وقد أكون لا أعرفه ولم أقابله من قبل ولكن سحنته لم تعجبني ودمه لم يتفق مع دمي بحيث أن جهازي العصبي ساقني إلى إهانته بالمشي على قدمه. ولو سرنا في هذا التعليل إلى النهاية وهو تعليل صحيح لحكمنا بأنه مخطئ مثلي لو فرض وكنت أنا مخطئاً حقيقةً لأنه لو ابتعد عن طريقي لما وقعت له إهانة غير أنه قد يلطمني على وجهي عقاباً لي على ما آتيته معه. وقد تنفعني هذه اللطمة فتمنعني من أن أناله بأذى فيما لو تقابلت معه مرة ثانية وكان أثر الحزن الذي أصابني من جراء اللطمة باقياً في ذاكرتي.

ولو كان غرضه من هذه اللطمة تهذيب أخلاقي وتقويم معوجي فقد أحسن إلي. ولكنه على الأرجح لا يرمي إلى هذا الغرض الفلسفي السامي وإنما ينبغي الإنتقام وأن يشفي غليلي كأني مسؤول عن عملي ولكن لم أكن مثله قصير النظر قليل الحكمة في المشي على قدمه كراهة مني لسحنته وهو غير مسؤول عن قبح خلقته.

إن المجتمع الإنساني سائر في ضلال وبغير هدى ولا حكمة فإنه يعاقب المجرمين انتقاماً منهم لا تهذيباً لنفوسهم وتقويماً لجهازهم العصبي الفاسد. بيد أن بين الغرضين الإنتقام من المجرمين وإصلاح نفوسهم صلة تقارب وتشابه.

إذا سقط رجل من أعلى فقتل أحد المارين من غير أن يصاب هو بأذى فلا نعاقبه لأنه غير مسؤول. وبعبارة أخرى لأنه لم يرد القتل ولم يكن لجهازه العصبي ضلع فيه إذن فلا معنى لإصلاح هذا الجهاز بالعقاب والتعذيب لأنه لم ينم عن فساد واعوجاج - إذا كان ولا بد من الإصلاح والمعالجة فلنعالج ثقل الرجل حتى يكون خفيفاً بحيث لو سقط مرة أخرى فلا يؤذي أحداً.

وإذا ارتكب مجنون القتل فلا نعاقبه لأنه غير مسؤول عن عمله ونكتفي بوضعه في مستشفى المجانين حتى نأمن شره ونمنعه من أن يصيب نفسه بضرر. وبعبارة أخرى إن العقاب لا يقوم جهازه العصبي وإن جنونه لا يسمح له أن يتخذ من العقاب رادعاً يزجره عن الإجرام.

وكذلك حاد المزاج غير مسؤول. فإنه لو أقدم على القتل إبان ثورته فذلك لأنه لم يكن لديه العقل ما يكفي لردعه. ومن الحمق أن نعاقبه قانوناً لأن القانون لا يكبح جماحه ولا يأخذ بشكيمته.

إني أعرف كلباً وديعاً ساكناً غير أنه يحمل لكلب آخر حقداً لا يغلب وضغينة لا تنتزع كلما رآه ثب عليه ليفتك به. ولم يردعه عنه زجر ولا رهب ولا أي نوع من أنواع التعذيب والتأديب وأخيراً قرر رأي صاحبه على تأديب الكلب الآخر بمنعه من الإقتراب منه وبذا استقر السلام بينهما.

هذه هي الأحوال التي يسمونها باللامسؤولية وحكم القانون فيها هو نفس الحكم الذي فرغنا الآن من شرحه غير أن الأسلوب القانوني يخالف الأسلوب الذي اتبعناه فالقانون يذكر دائماً الإدانة والمدانين والإجرام والمجرمين ولا يجد في الأحوال التي سردناها إدانة تستحق العقاب وحيث قد انتهينا من هذه الأحوال فلنبدأ بسرد أحوال الذين يقال عنهم أنهم مسؤولون عن أفعالهم وبعبارة أخرى الذين لا عيب في جهازهم العصبي.