مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/الآداب وتطورها

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/الآداب وتطورها

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 4 - 1917



للكاتب الاجتماعي الدكتور عبده البرقوقي

اختلف العلماء والفلاسفة في تعريف الآداب. وسبب الخلاف راجع إلى أنهم غير متفقين على معرفة الأصل الذي نشأت عنه وتشعبت منه. وقبل أن ندلي بتعريفنا يجب أن نتساءل عن منشأ الآداب وكيفية وجودها. وهل هي غريزية في الإنسان أو اكتسابية، وإن كانت إكتسابية فمن الذي أكسبه إياها؟ الدين أو الإجتماع أو هو الذي اخترعها من نفسه تسهيلاً لأعماله؟

يرى فريق من العلماء أن الآداب غريزية في النفس وأن الإنسان مفطور على تمييز الخير من الشر وأن الآداب قائمة بذاتها غير متصلة بالدين ولا متفرعة عن الصالح العام. فالخير خير لذاته لا لأنه نافع أو لأن الدين أمر به والشر شر لذاته لا لأنه ضار أو لا لأن الدين نهى عنه.

ولو كان هذا الرأي صحيحاً للزم أن تكون الآداب جامدة ولا يعتورها التغيير والتبديل مهما تغيرت الأحوال وتبدلت الشؤون. فالشر شر والخير خير منذ وجد الإنسان إلى ما شاء الله.

بيد أن الواقع يخالف ذلك. والمشاهد أن الآداب مختلفة باختلاف الأزمنة والأمكنة والشعوب وإن كان اختلافها بطيئاً لا يلحظ إلا إذا كان المدى بعيداً. أما إذا كانت المسافة قصيرة فيخيل إلى الناظر أن الآداب ثابتة لا تتغير.

ويرى العلماء الروحانيون ومن على شاكلتهم أن مصدر الآداب الدين. فإن الدين هو الذي أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأعد للمتقين جنات النعيم وللأشرار عذاب الجحيم. ولولا الدين لكان الإنسان كالعجماوات خلوا من كل فضيلة يرتكب المنكرات من غير حياء ولا جزع ومن لا دين له لا يرتجى منه خير ولا يتقي شره.

غير أن من بين المتدينين الذين لا يتطرق الشك إلى يقينهم ولا يتوانون في تأدية واجباتهم الدينية من يرتكب الشر ويقترف الجرائم من غير أن يكون لديه سلطان عليه. يذوب أسى وخشوعاً إذا ذكر الله وإذا فرغ من صلاته هب إلى خطف الأرواح واختلاس الأموال ونهش الأعراض مستعيناً بالله وملائكته ورسله على تحقيق آماله. وهل يصعب على الإنسان أن يوفق بين دينه وشهواته ويتلمس لجرائمه ما يبررها في نظره ويخلق لنفس المعاذير التي تطمن باله وتريح ضميره.

وجدت الآداب ممتزجة بالدين امتزاج الماء بالعود فلا ترى ديناً خلوا من الحث على الفضيلة والنهي عن الرذيلة ولا تجد آداباً قائمة بذاتها منفصلة عن الدين إلا في الندرة. ولقد اختلطت الآداب بالعقائد حتى تشاكلت وتعذر التمييز، ومن هنا نشأ القول بأن الدين هو أصل الآداب - ومن أمد غير بعيد كانت القوانين متصلة أيضاً بالدين فانفصلت عنه فهل تنفصل الآداب عن الدين أيضاً وهل امتزاج القوانين فيما مضى يسمح لنا بأن نقول أن الأديان أصل للشرائع والقوانين.

إن منشأ الدين الإجلال والإعظام وشعور القلب بالرهبة والخوف. ومنشأ الآداب كما سنبينه بعد هو الإجتماع وحب الذات وضرورة التوفيق بينهما، ولقد وجدت الآداب والدين معاً فامتزجت الآداب بالدين والإنسانية في أول عهدها لا تعرف توزيع الوظائف على الأعضاء وقسر العضو على وظيفة واحدة بل كان للعضو الواحد عدة وظائف فكان من شأن الدين أن يراقب الآداب ويسن القونين ويستخلص النظريات العلمية ولكن سارت الإنسانية بعد ذلك بأزمان بعيدة استقل القانون واختلاف الدين والآداب في الأصل والمنشأ يوضح لنا جلياً ما أشكل علينا في أول الأمر من وجود أناس متدينين وهم في الوقت نفسه قارورة خبث وبؤرة فساد.

وهناك رأي آخر يقول بأن الإنسان هو الذي أوجد الآداب وأنه هو الذي اخترع الخير والشر تسهيلاً للعلاقات الإجتماعية وتحديداً لها فسمى ما يفيده خيراً وما يضره شراً وفي الواقع وننفس الأمر لا خير ثمت ولا شر.

حقاً لا خير ولا شر فإن الأمور كلها لسببه مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد وما هو خير عندنا قد يكون شراً لغيرنا وما نعتبره أدباً ربما اعتبره سوانا سفالةً ولكن لا تصدق بأن هذا محض اختراع من الإنسان.

يعتقد الإنسان وجود خير وشر ويحكم على بعض الأمور بأنها خير وعلى البعض الآخر بأنها شر ويجوز أن يكون مخطئاً في حكمه أو واهماً في اعتقاده ولكنه وهم طبيعي منشأه حياة الإنسان الأولى وتداول النفع والضر عليه مما يحيط به وارتكازهما في جهازه العصبي.

ولقد لبثت البيئة الأولى التي كان الإنسان عائشاً فيها قروناً عديدة لم تتغير تغيراً محسوساً فأكسبته آداباً مخصوصة لازمته طوال هذه القرون فارتكزت في أعضائه وصار لها في بنيته جهاز خاص فتوارثها عنه أعقابه وأصبح الإنسان يعتقد بحق أنها آداب مطلقة.

فطر الإنسان على الأثرة وحب الذات حفظاً لحياته وبقاء نوعه، والأثرة خميرة صالحة لكثير من المزايا الإنسانية غير أنها قد تلقي بالمجتمع الإنساني إلى التهلكة لو أطلق لها العنان وتجردت من كل قيد.

وهو من جهة أخرى مدني بالطبع يجب الإجتماع ولا غنى له عن الوئام والإتحاد مع العائلة أو القبيلة التي كان عائشاً بينها ليكون قادراً على درء الخطوب ومقاتلة الأعداد والتغلب على الوحوش الضارية التي تنازعه البقاء خصوصاً إذا كانت العائلة أو القبيلة قليلة العدد كما كانت الحال في مبدأ الإنسان ولم يسد الإنسان على العالم ولم يتغلب على أعدائه إلا بعد جهاد طويل نشأ عنه حب الغير وتآخي الناس واعتبار كل منهم للباقين بمثابة حلفاء تحافظ على حياتهم ويحافظون على حياته وإذا حميت الأثرة الفردية بأحدهم ودفعته إلى التعدي على آخر فقد أخل بالمجتمع كأنه تعد على المجموع مهما كان تعديه تافهاً واعتبر عمله مخلاً بالآداب، فالآداب قواعد اجتماعية أوجدتها ضرورة الإجتماع منعاً للأثرة الفردية من الجموع وحثاً للناس على عمل النافع والإمتناع عن المضار، وبعبارة أخرى قواعد اجتماعية تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.

وهذا الحد واسع جداً غير قاصر على الآداب بل يشمل أيضاً القوانين ولتصحيحه يجب أن نخرج منه القوانين التي لا يدخل في دائرتها الأكل تعد يظنه المجتمع الإنساني بليغاً ومهدداً لكيانه ويفرض لمقترفه عقاباً زاجراً.

وكانت الهيئة الإجتماعية في أول الأمر قاصرة على أعضاء العائلة أو القبيلة لا تتعدى ذلك إلى غيرهم من الأجانب الذين كانوا معتبرين كأعداء ألداد لا يرعى لهم ذمار ولا يعترف لهم بحق بل يجب مقاتلتهم أينما وجدوا فالآداب إذ ذاك كانت قاصرة على حماية العائلة أو القبيلة فقط ومن عداها فهو مهضوم الحقوق.

ولم يكن الإنسان عائشاً في سلام واطمئنان بل كان قلق البال على حياته يكافح الوحوش الضارية التي كانت تنازعه البقاء والسيادة ويقاتل القبائل الأخرى إما دفاعاً عن نفسه أو طلباً للسلب والنهب فالخطر المحدق بالقبيلة كان عظيماً جداً ولا طاقة لها على دفعه إلا إذا كانت قوية ولا تكون قوية إلا إذا كان الأمن مستتباً بين أفرادها فكان كل ما من شأنه أن نحل بهذا المر يقع بالقوة مهما كان تافهاً ويعاقب مقترفه عقاباً صارماً لخطورة الحال كما بينا. فكانت الآداب إذ ذاك صارمة والقوانين قاسية وحرية الفرد معدومة ودائرة العقاب واسعة تشمل تقريباً كل شيء، قل أن توجد هفوة ولو تافهة ولا يكون لها عقاب، وجملة القول أن أسلافنا كانوا لا يميزون بين الآداب والقوانين وكانت قوانينهم كلها جنائية وكانت العقوبات شديدة للغاية.

ولم تتلطف الآداب ولم تنقشع عنها غياهب القوة ولم تتهذب القوانين ولم تستنشق الأفراد الحرية إلا بعد أن قلت الغارات والحروب وأمن الناس جيرانهم واندمجت القبائل في بعضها وصارت أمماً - أما القبائل التي لبثت على حالها ولم يصادفها هذا التطور لفقدان أسبابه بينها فلا تزال شديدة البطش بأفرادها تأخذهم بالقوة والقسوة محافظةً على كيانها وليس للفرد إزاءها شخصية بالمعنى الذي نفهمه نحن الآن.

وكلما ارتقت الأمة في مدرج الحضارة والمدنية ارتخت قيود الأفراد وزاد نصيبهم من الحرية الأدبية واتسع لهم المجال في القول والعمل وقل افتيات المجموع وتعرضه للفرد لها بقية.