مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/الإدانة والمسؤولية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/الإدانة والمسؤولية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 4 - 1917



ـ 2 ـ

إن سليم العقل من يقدر على فهم الأمور ولا يشذ في عمله عن دائرة الحكمة. وبعبارة أخرى من كان له في سلوكه قائد من التروي يتبصر في الأسباب ويوازن بين العلل التي تدفعه إلى العمل وتنهاه عنه ليختار لنفسه الطريق الذي ينبغي له أن يسير فيه.

غير أن اختياره هذا متوقف على الظروف والمؤثرات وعلى طبيعته وتركيب جسمه الذي يتأثر بعلة دون أخرى. ولكن أليس التركيب الجثماني نتيجة الوراثة والتربية، وعلى ذلك يكون سليم العقل هذا غير مسؤول أيضاً عن عمله.

إن الغرض الذي تنشده القوانين وتسعى إليه الشرائع هو تربية صحاح العقول وتهذيب نفوسهم وحملهم على التأني والتروي وزنة الأعمال بالحكمة حتى تكون على وفق ووئام مع صالح الهيئة الإجتماعية. ولو كان المرء خالياً من كل شيء ماعدا خوفه من القانون واحترامه إياه لكان الناس جميعاً كالمعتوهين الذين مر ذكرهم آنفاً.

ولو كانت القوانين صالحة لكانت معرفتها وراثية ولصار المجتمع الإنساني كخلايا النحل يؤدي كل وظيفة بدون ملل ولا ضجر.

غير أنا لم نصل إلى هذه الدرجة ولم نزل بعيدين عنها بمراحل عديدة. وكل فرد يتخذ من تربيته ووراثته (خصوصاً وراثته فإنه يوجد كثيرون متفقون في التربية غير أنهم مختلفون) محكمة باطنية يسميها بالضمير ويحكمها في كل شيء.

قال حكيم إذا أردت ألا تقاضي فلا تقض على أحد غير أن هذا الحكيم نفسه لم يسعه أن يتبع حكمته وينهي نفسه عن مقاضاة الناس والحكم عليهم بل استمر في محاكمتهم بدون هادة ولا انقطاع حيث وعد الذين يتبعون حكمته ويسيرون على مقتضاها بخير الجزاء ولكن ألم يأت دوره أيضاً في المحاكمة وحكم عليه بالصلب. أما نحن فلا ندعي أننا أعقل منه أو أكثر منه حكمة ولذلك لم نفتر عن مقاضاة الناس والحكم عليهم فإن هذا طبيعي في النفس.

يقضي العدل بمكافأة كل إنسان على قدر قيمته. ولكن أليست ضمائرنا هي الميزان الوحيد الذي نزن به أقدار الرجال ونحكمها في أعمالهم، وحكمها بات لا يقبل نقضاً؟ ومن المح أن نرضي الناس جميعاً والمحاكم الباطنية أي محاكم الضمير والوجدان مختلفة غير متماثلة. وجدير بهذه الحقيقة أن تحملنا على عدم التعويل على ضمائرنا وعدم الإعتداد بأحكامها ولكن أنى لنا ونحن لا نذعن إلى الحق بسهولة.

العدل أجمل وأرقى شعور في الإنسان. وقد ألبسنا الإله ثوباً نفيساً من هذا العدل غير أن الإله بدأ عمله بتفضيل هابيل على قابيل. وهذا هو عين الجور الظلم فإنه هو الذي خلق الإثنين بما فيهما من فضل ونقص وخير وشر. إلا أن هذا لبشري محض.

يرشدنا المنطق إلى أن المسؤولية غير موجودة وإن الأولى والأعدل محو العقاب والثواب من معجمات لغاتنا وكتب شرائعنا غير أنا نحب أفراداً ونمقت آخرين وشعورنا أعز لدينا من العقل يقول أن طول فرانس لو كنا نعقل أو نفهم لكانت النفوس البشرية لدينا كالأشكال الهندسية لدى الرياضيين فلا نبغض إنساناً لقصر عقله وخبث طويته كما لا يكره الرياضي الزاوية إذا قل انفراجها عن الزاوية القائمة أو زاد عنها ومع هذا تنطوي قلوبنا على الحب والكراهة وهذا ألد عدو للحكمة.

يحاول بعض الفلاسفة ذوي العواطف الشريفة والإحساسات الرقيقة أن يلينوا من قلوب القضاة ويحملوهم على أخذ المجرمين الرأفة والشفقة بأن يقولوا أن المجرمين غير مدانين فيما اقترفوه من الإثم والعدوان. وإنما الهيئة الإجتماعية هي المذنبة الأثيمة وهي المسؤولة عن إجرام هؤلاء المساكين وإن هؤلاء الفلاسفة لمحقون في رأيهم غير أهم لا يريدون الإستمرار فيه إلى النهاية وليسوا بالمثال الصالح ولا الأنموذج الحسن في أحكامهم لأنهم يحتقرون القضاة قساة القلوب ويسلقونهم بألسنة حداد مع أن هؤلاء القضاة لا يخرجون عن كونهم مجرمين كالمجرمين الآخرين غير مسؤولين عن أعمالهم ولقد يمكن معالجة هؤلاء الفلاسفة وإرجاعهم عن خطئهم لو لم يكن نتائج رأيهم (وهذه النتيجة طبيعية ولكنهم لا يقبلونها) اعتبار القاضي طيب القلب كالقاضي القاسي لا يفضله في شيء ولا يستحق مدحاً ولا ثناء، يريدون إلغاء العقاب ولكنهم يحتفظون بالأجر والثواب وهذا لا يمكن إزالته من النفوس إلا بإزالة الإنسانية نفسها.

وهل هذا غير منطقي! أو هل المنطق الذي أضلنا عن الحق! وهل لم يكن رائدنا الدقة! أو هل هذه الدقة وهم وخيال.

لا ينفك الإنسان عن التغير والتبدل في كل آونة ولحظة. وما الإنسان إلا سلسلة تراكيب جثمانية مختلفة يأتي بعضها في تلو بعض ويعقب أحدها أثر لآخر ولا يمكن سرد أعمال إنسان من غير أن نلاحظ أنه في هذه اللحظة غيره في اللحظة التي سبقتها وأنه ليس هو الآن نفس الرجل الذي كان منذ هنيهة مضت. وإذن فمحال على المنطقي المدقق أن يشكر إنساناً على عمل اشترك في تركيب جثماني غير تركيبه الحالي.

نحب قائداً ونجله ونغدق عليه الألقاب والنياشين فنسميه البطل المقدام والقائد العظيم لأنه انتصر على أعدائه وأنزل بهم المحن ولا نذكر المدفع الذي حاز به الفخر ونال بواسطته النصر مع أن المدفع أقل تغيراً من القائد وأدوم على كيانه منه.

إن الأسماء التي تعطى للأفراد وتلازمهم طول الحياة من تغيير ترابط أعمال الفرد بعضها ببعض ماضيها وحاضرها ومستقبلها بحبل متين لا تنفك عقدته أبداً. ولكن من منا لم يشعر بألم عظيم وحزن عميق حينما سيق فرديند ديلاسبس العظيم إلى محكمة الجنايات بصفة منهم أثيم.

هل من كان يوماً عظيماً يبقى دائماً عظيماً! وهل من أجرم ولو مرة يصير طول الحياة مجرماً أو هل من المحال أن ينقلب اللص القديم رجلاً نزيهاً! إن هذا ينبغي أن يكون لو كانت القوانين لا ترمي إلى معاقبة المجرمين وإنما تقويم نفوسهم قدر المستطاع. إن اللص الذي يعود إلى الإجرام بعد ما اقتص منه القانون على جريمة سابقة يظهر للملأ ننقص هذا القانون وعواره. ولا يكون القضاء حسناً - قلت حسناً ولم أقل عادلاً لأنه لا وجود للعدل والظلم ولا أساس لهما من الصحة - أقول لا يكون القضاء حسناً إلا إذا كان غرضه مداواة المجرمين مما ألم بهم وأضر بجهازهم العصبي فأفسده. ولكن القضاء للأسف لا يعني بهذه المسألة ولا يعتبرها التفاته بل يعاقب المجرمين باسم العدل الذي لا وجود له ولا أثر له من الصحة وإنما هو محض خيال ووهم ويترك في نفوسهم ذكرى قد تزيد من شرهم وترصد في وجوههم باب الأمانة فيما لو حدثتهم نفسهم يوماً بالتوبة.

ولكن من منا يقبل على نفسه أن تكون شخصيته متغيرة غير ثابتة على حال وأن يكون أعجوبة غريبة لا تنفك عن التلون والتبدل.

ينسى المرء سيئاته التي تزري بشرفه ويذكر دائماً حسناته التي ترفع من قدره. ولا يحفظ من سيرة غيره إلا القبيح معتقداً أن الحط من قيمة رفعة له وإعلاء لشأنه. ولولا الأشرار ما وجد الأخيار.

إن اللغات البشرية لغات شعور وإحساس وليست بلغات علم وفلسفة. وإذن فليس من المستغرب القول بوجود إدانة ومسؤولية ولا نسبة العقاب والجزاء إلى العدل ولا تسمية الأفراد بأسماء لا تفارقهم طول الحياة وإن كانت الحقيقة خلاف ذلك فإن اللغات لا تعبر عن الحقيقة وإنما تعني بالإفصاح عن علاقات الناس بعضهم ببعض ومن العبث بل من الحمق أن تكون هذه العلاقات قائمة على الحقيقة وإنما تعني بالإفصاح عن علاقات الناس بعضهم ببعض ومن العبث بل من الحمق أن تكون هذه العلاقات قائمة على الحقيقة فإن قوامها الأغلاط والأوهام.

وخليق بمن ينكر المسؤولية أن ينكر الثواب ولا يدعي لنفسه فضلاً ما. ولكن أني لنا ذلك وقد فطرت نفوسنا على العكس ويتضح مما مر من تاريخ الإنسانية أننا بعيدون جداً عن الحكمة والفلسفة.

إن الناس ليسو بحكماء وقد يكون هذا من حسن حظهم فإنهم لو كانوا كذلك لكانت الحياة مملة.