مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/طرفة أدبية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 35/طرفة أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 4 - 1917



وفاء المرأة العربية

حكي أن معاوية جلس بمكان بدمشق مفتح جوانب الأربع يدخل منها النسيم فبينما هو جالس في يوم قيظ وهو صاحي النهار ولفح الهجير إذ نظر إلى رجل يمشي وهو يتلظى من حر التراب ويحجل في مشيته رجلاً حافياً تتأمله ثم التفت إلى جلسائه وقال هل خلق الله أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في مثل هذا الوقت فقال بعضهم لعله يقصد أمير المؤمنين فقال والله لئن كان قاصدي سائلاً لأعطيته ومستجيراً لأجرته أو مظلوماً لنصرته، يا غلام قف بالباب فإن طلبني هذا الإعرابي فلا تمنعه الدخول فخرج الغلام فوافى الإعرابي فقال له ما تريد فقال أمير المؤمنين. فقال له ادخل فدخل وسلم على معاوية فقال له من أين الرجل فقال من تمين فقال له ما جاء بك في هذا الوقت قال جئتك شاكياً وبك مستجيراً فقال ممن فقال من مروان بن الحكم عاملك ثم أنشأ يقول:

معاوي يا ذا الجود والحلم والفضل ... ويا ذا الندى والرشد والعلم والنبل

أتيتك لما ضاف في الأرض مذهبي ... فيا غوث لا تقطع رجائي من البذل

سباني سعدي وانبرى لخصومتي ... وجار ولم يعدل وغاضبني أهلي

فلما سمع معاوية إنشاده والنار تتوقد فيه قال له مهلاً يا أخا العرب اذكر قصتك وأفصح عن أمرك قال كانت لي زوجة وهي ابنة عمي وكنت لها محباً وبها كلفاً وأنا قرير العين طيب العيش وكانت لي قطعة من الإبل أستعين بها على قيام حالي وكفا أودي فأصابتني سنة شديدة أذهبت الخف والظلف وبقيت لا أملك شيئاً قلما قل ما بيدي وذهب مالي بقيت مهاناً ثقيلاً على وجه الأرض أبعدني من كان يشتهي قولي وأزور عني من كان يرغب في زيارتي فلما علم أبوها ما بي من سوء الحال وقلة المال طردني وأغلظ علي فأتيت الملك مروان مستصرخاً به راجياً لنصرته فأحضر أباها وسأله عن حالي فقال لا أعرفه قبل اليوم فقلت أصلح الله الأمير أحضر ابنته واسألها عن حالي فبعث إليها فأحضرها مجلسه فلما وقعت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب وصار لي خصماً وعلي متكبراً ونهرني وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن وبقيت كأنما خررت من السماء بمكان سحيق ثم قال لأبيها هل لك أن تزوجني منها على ألف دينار وعشرة آلاف درهم لك وأنا ضامن خلاصها لك من هذا الإعرابي فرغب أبوها في البذل وأجاب سؤاله لذلك فلما كان من الغد بعث إلي من السجن وأوقفني بين يديه ونظر إلي كالأسد المغضب وقال يا إعرابي طلق سعاد، فقلت متى قلت لا يسلط علي جماعة من غلمانه يعذبونني بأنواع العذاب فلم أجد بداً من ذلك ففعلت فأعادني إلى السجن حتى انقضت عدتها ثم تزوج بها ودخل عليها وقد أتيتك راجياً وبك مستجيراً وإليك ملتجئً ثم اضطرب واصطكت لهاته وخر مغشياً عليه فلما رأى حاله وسمع كلامه قال تعدى وظلم ابن الحكم ثم كتب إليه يقول قد بلغني أنك اعتديت على رعيتك وانتهكت حرمة من حرم المسلمين وينبغي لمن كان والياً أن يغض بصره عن شهواته ويزجر نفسه عن لذاته ثم كتب تحت ذلك يقول:

فعلت ويلك أمراً لست تدركه ... فاستغفر الله من إمرءٍ زني

أعطي الإله يميناً لا أكفرها ... نعم وأبرأ من ديني وإيماني

إن أنت خالفتني فيما كتبت به ... لأجعلنك لحماً بين عقباني

طلق سعاد وجهزها معجلةً ... مع الكميت ونصر بن ذبيان

ثم طوى الكتاب وطبعه بخاتمه واستدعى الكميت ونصر بن ذبيان وكان يرسلهما في المهمات من حوائجه فأخذاه وسارا حتى أتيا المدينة المنورة فدخلا على مروان وسلما عليه ودفعا له الكتاب فجعل مروان يقرأه ويبكي ولم تسعه المخالفة فطلقها بحضرة الكميت ونصر بن ذبيان وكتب إليه يقول:

لا تجعل أمير المؤمنين فقد ... أوفي بنذرك في حسن وأحسن

وما أتيت حراماً حين أعجبني ... فكيف أدعى بلفظ الخائن الزاني

فسوف تأتيك شمس ليس يعدلها ... عند الخليفة من أنس ومن جان

ووقع الكتاب فأخذه الرسولان وسارا به حتى دخلا معاوية فدفعا إليه كتابه فقرأه وقال أحسن مروان في الطاعة ثم أحضر الجارية فلما رآها رأى منظراً عجباً من الحسن والجمال والقد والإعتدال فلما خاطبها وجدها عذبة الألفاظ شيقة الكلام فقال علي بالإعرابي فأتوا به وهو على غاية من سوء الحال فقال هل في سلوة عنها وأعوضك ثلاث جوار مع كل واحدة ألف دينار وأقيم لك في بيت المال ما يكفيك ويعينك على صحبتهن فلما سمع الإعرابي مقالة معاوية شهق شهقة ظن معاوية أنه فارق الحياة فقال له معاوية ما بالك قال شر بالي وأسوأ حالي، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم فبمن أستجير من جورك ثم قال لو أعطيتني ما حوته خلافتك ما اعتضت بها بدلاً فقال معاوية أنت مقر يا إعرابي بأنك مطلقها ومروان مقر بأنه طلقها ونحن نخيرها فإن اختارت سواك زوجناها منه وإن اختارتك أعدناها إليك فقال افعل فقال معاوية ما تقولين أيما أحب إليكي أمير المؤمنين في عزه وسلطانه وشرفه أم مروان في عسفه وجوره أم هذا الإعرابي مع جوعه وفقره وسوء حاله فقالت منشدة:

هذا وإن كان ذا بؤس وإقتار ... أعز عندي من أهلي ومن جاري

وصاحب تاج أو مروان صاحبه ... وكل ذي درهم عندي ودينار

ثم قالت ما أنا بخاذلته لحادث الزمان ولا لغدر الأيام وإن لي عنده صحبة لا تنسى ومحبة لا تبلى وأنا أحق بصبري عنده في الضراء كما نعمت معه في السراء قال فتعجب معاوية من قولها ومودتها وأمر لها بعشرة ألاف درهم وردها إلى الإعرابي بعقد جديد صحيح.