مجلة البيان للبرقوقي/العدد 37/باب النقد

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 37/باب النقد

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1917



حول حفلة تابين الشيخ سلامة

دعيت في من دعى من كهول وشباب، وسراة وفقراء، لاستماع ما تقوله الخطباء والشعراء تأبيناً للشيخ سلامة حجازي، فرأيت وسمعت، ولم أجد بداً من تعقيب تقريظ الصحف اليومية للحفلة بكلمة كان على تلك الصحف أن تقولها من عند أنفسها فلم تقلها استبقاء لمودة فريق وخيفة أن تغضب فريقاً آخر ترهبه ولا تعرف له وداً، ولا أحسب مجلة البيان على تلك الطريقة، ويقيني أنها مذيعة ما يأمر الأدب بإذاعته، وما يقتضي التاريخ أن يعرفه العامة كما يعرفه الخاصة، على أني براء من ألم ما يصيب بعض النفوس من النداء بأن البلد اليوم لا يريد أن يراهم أو يسمعهم يخطبون ويقولون الكلام الموزون الذي يسمونه الشعر، وليس إعجاب الجهال بهم مسيغاً لهم أن يتمادوا في عمايتهم وإنحائهم على اللغة بفاحش اللحن وعلى الأدب بتعويج الأسلوب، وعلى الفلسفة بالتخبط وإنزال الظنون منزلة اليقين في طويل عريض من اللغو لا يفهمونه وهم أربابه فمستحيل أن يفهمه الناس، وليتهم قاموا لذلك في مواطن المهاترة والمهاذرة بتبادل الآراء، فكنا ننتظر الصواب يأتي بعد خطلهم، ولكن الحفلة حفلة تأبين، ولم يرهم السامعون أبنوا الرجل بشيء، وما كان إلا أن نهض واحد يتكلم عما سماه العبقرية وآخر يتكلم عما تفعله الموسيقى بالنفس، وآخرون يتأوهون وينادون بأن حزنهم على الحجازي شديد، ولولا كلمة جاءت من خليل المطران وقرأها جورج طنوس لخرجنا ونحن لم نسمع شيئاً فإن هذا الشاعر هو الذي أبن صديقه التأبين الصحيح فذكر طائفة من أعماله ومآثره الفنية وصفة حياته واستخلص من كل أولئك أنه رجل جليل حقيق بأن يخلد ذكره في قومه، فأحسن ما شاء، ولا غرو فإنه خليل المطران، أما الشعراء فلم أر منهم من أجاد غير مجد الدين أفندي ناصف وجورج أفندي طنوس، ولو أحسنت ملياً ديان إلقاء توشيحها لجاء حسناً، ولكنها ولا أعلم كيف كان ذلك عجزت عن إلقائه كما انتظره منها الناس، ولست عاتباً على أحد عتبي على عمر بك عرف، وابراهيم أفندي رمزي واسماعيل بك عاصم، وجورج أفندي طنوس، فإن عمر بك كاتب مجيد، وخطيب مشهور معترف له بالبيان، وكان مستطيعاً أن يسمعنا خطبة يضمنها أبلغ الرثاء، ولكنه تجاوز صناعته إلى الشعر فرمانا بمنظومة كانت تقطر ركاكة وتفككاً، وكذلك كانت منظومة ابراهيم أفندي رمزي وهو صديق الشيخ سلامة العارف بحياته، ولو أرسل كلامه نثراً استطاع أن يرضى المحفل ولا يغضبه، واسماعيل بك عاصم رجل من أبناء الجيل الماضي، مطبوع على السجع ولو لم يفد المعنى لا فرق بينه وبين توفيق أفندي عزوز إلا في أواخر الجمل، فإنها من عند الأول مقيدة لا تقع إلا مرة واحدة ثم لا تقوم وهي من عند الثاني مرسلة تشج رأس هذا وتفقأ عين هذا، وكان الأجمل باسماعيل بك أن يتنحى عن أمر ندب المؤبنين لغيره، فإن هذا الزمن غير الزمن الذي كان يحسن فيه أن يقال وليتقدم الشاعر المأنوس، جورج طنوس وهذا الشاعر، الذي أقيمت له المنابر، وسيف الله الباتر، أسعد داغر وهذا هو الشاعر الذي يعرفه الجمهور، محمد بك تيمور أما جورج أفندي طنوس فكان كاتب سر الحفلة وهو بصير بمواقع الكلام وكان عليه أن يقف بين أولئك المتكلمين وبين الناس فيمنع منظومهم ومنثورهم، إلا ما يراه حسناً أو جيداً، وهو لم يفعل هذا بل تركهم يتناوبون إيذاءنا بأسماعنا ما لا نريد أن نسمع من كلام قضوا في ثلاث ساعات ومحصله كله من أوله إلى آخره أن النابغة من الرجال ينبغ وهو صغير الشأن فيعلو وقليلاً ما يأتي الزمان بذلك الرجل، وإن الموسيقى فن جميل، والتمثيل جميل، والشيخ نابغة موسيقى ممثل، ولم يقل أحد كيف كان هذا إلا خليل المطران كما رأيت وإذا كان ما يستعاذ منه فقصيدة الدباغ فإن المقام مقام تأبين وهو قد جاء بهزل سقيم في قصيدة جل ألفاظها دهن ولحم وشحم وجلد وأدم فكانت تشتم منها رائحة المطابخ ولم يشك سامع في أن أحد الطهاة صنعها له وكتبها على مائدة حفظها منها، ولعل ما لقيه أكثر المؤبنين من سخرية شهود الحفلة واستهزائهم وضحكهم وإعراضهم زاجر لهم عن غشيان مثل هذا المحفل بعد اليوم، ولعل هذه البادرة متبوعة بالارتقاء الذي نؤمله إن شاء الله.

ومما لاحظته أن حثالة الجمع - ولكل كأس حثالة - كانوا يبهرهم الإلقاء فيصفقون لبعض الناظمين والناثرين فلا يصفق معهم العارفون بمواقع الكلام، وليس هذا ذنب المصفقين، ولكنه دليل على أن رقاع الدعوة كانت مباحة لمن يريدها كائناً من كان، وتلك مخزية تشهد بأننا فوضى لا هداة لنا، وربما فهم الذين لا يعرفوننا أننا لا نفرق بين الغناء والصياح، ولهم العذر فقط تقطعت الأيدي بالتصفيق لقصيدة عبد الحليم المصري وربما نشرها المقطم أو الأهرام فرأيت ضعفها، لأنه أجاد إلقاءها، ولم تهتز لهم شعرة عند استماع قصيدة أسعد داغر على جلالها ومتانتها ودقة معانيها لأنه كان يلقيها وكأنما هو خائف أن يسمعوه فأفسد بقبح صوته واضطراب إلقائه ما أحسن صياغته.

فإذا كانت مجلة البيان تريد خدمة الأدب والتاريخ فهذا ما يريد الأدب والتاريخ أن يذيعه للناس والسلام.