مجلة البيان للبرقوقي/العدد 37/ملح أدبية

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 37/ملح أدبية

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 12 - 1917



ليس هناك أوجع لقلب الشاعر ولا أجلب لحقده وبغضه من أن يمتدح إنساناً بقصيدة يحبرها ويبالغ في تجويدها وتثقيفها، ويكد في ذلك ذهنه، ويغوص على المعاني النادرة البديعة فيستخرجها من مكامنها، ويلصق به كل محمدة إلصاقاً، ويستقصى في ذلك حتى يكذب ويغلو ويبالغ إلى الحد الغير المعقول، ثم هو لا يحظى من وراء ذلك كله بطائل، كان في عصر الشاعر ابن الرومي وزير كبير يسمى اسماعيل بن بلبل الشيباني ويكنى أبا الصقر، كان هذا الوزير ممدوح ابن الرومي، مدحه بقصائد عدة كلها آية في الإبداع ولكنه أخفق في جميعها، ومن هذه القصائد القصيدة النونية المشهورة التي تربى على المائتي بيت، ولما أنشدوا أبا الصقر هذه القصيدة وسمع هذا البيت منها:

الوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم ... كلا لعمري ولكن منه شيبان

قال لقد هجاني، فقيل له إن هذا من أحسن المدح، ألا تسمع ما بعده:

كم أب قد علا بابن ذرى شرف ... كما علت برسول الله عدنان

فقال أنا بشيبان لا شيبان بي فقيل له فقد قال:

ولم أقصر بشيبان التي بلغت ... بها المبالغ أعراق وأغصان

لله شيبان قوم لا يشوبهم ... روع إذا الروع شابت منه ولدان

فقال لا والله لا أثيبه على هذا الشعر وقد هجاني، فما كان من ابن الرومي إلا أن زلزل الدنيا على أبي الصقر هذا وأخذ يثأر لنفسه منه ويصب عليه جام غضبه كما يقولون وهجاه بعدة قصائد هي الشماتة مجسمة إذ نكبه الموفق الخليفة العباسي بعد أن عزله من الوزارة، فمن ذلك قوله:

فلئن نكبت لطالما نكبت ... بك همة لجأت إلى سندك

لو تسجد الأيام ما سجدت ... إلا ليوم فت في عضدك

يانعمة ولت غضارتها ... ما كان أقبح حسنها بيدك

فلقد غدت برداً على كبدي ... لما غدت حراً على كبدك

ورأيت نعمى الله زائدة ... لما استبان النقص في عددك

ولقد تمنت كل صاعقة ... لو أنها صبت على كتدك

لم يبق لي مما يرى جسدي ... إلا بقاء الروح في جسدك وقوله:

خفض أبا الصقر فكم طائر ... خر سريعاً بعد تحليق

زوجت نعمى لم تكن كفأها ... فصانها الله بتطليق

لا قدست نعمى تسربلتها ... كم حجة فيها لزنديق

وهاك حديث شاعر آخر يشبه حديث ابن الرومي

حدث أبو العيناء قال: كان عيسى بن فرخان شاه يتيه على في ولايته الوزارة فلما عزل وهبني، فلقيني فسلم علي فأحفى فقلت لغلامي من هذا؟ قال أبو موسى، فدنوت منه، وقلت أعزك الله والله لقد كنت أقنع بإيمائك دون بيانك، وبلحظك دون لفظك، فالحمدلله على ما آلت إليه حالك، فلئن كانت أخطأت فيك النعمة فلقد أصابت منك النقمة ولئن كانت الدنيا أبدت مقابحها بالإقبال عليك لقد أظهرت محاسنها بالانصراف عنك ولله المنة إذ أغنانا من الكذب عليك ونزهنا عن قول الزور فيك فقد والله أسأت حمل النعم وما شكرت حق المنعم.

وهذا أبو العيناء - واسمه محمد بن القاسم - كان ضريراً، وكان أديباً شاعراً وكان من أحفظ الناس وأفصحهم لساناً وأحضرهم بديهة، وكان من ظرفاء العالم له نوادر مستملحة مع الخلفاء والوزراء ومن إليهم نورد شيئاً منها تفكهة للقراء، حدث الرواة قالوا: حضر أبو العيناء يوماً مجلس بعض الوزراء فتفاوضوا حديث البرامكة وكرمهم فقال الوزير لأبي العيناء - وكان قد بالغ في وصفهم وما كانوا عليه من البذل والأفضال - قد أكثرت من ذكرهم ووصفك إياهم، وإنما هذا تصنيف الوراقين وكذب المؤلفين، فقال له أبو العيناء فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير، فسكت الوزير وعجب الحاضرون من إقدامه على ذلك، ووقف عليه رجل من العامة فلما أحس به قال من هذا، قال رجل من بني آدم فقال أبو العيناء مرحباً بك أطال الله بقاءك ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع، ومر يوماً بباب عبد الله بن منصور وهو مريض وقد أبل فقال لغلامه كيف خبره فقال كما تحب فقال فمالي لا أسمع الصراخ عليه، ودخل على المتوكل في قصره المعروف بالجعفري فقال له ما تقول في دارنا هذه فقال إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك ثم قال له: كيف شربك الخمر فقال أعجز عن قليله وأفتضح عند كثيره فقال له دع هذا عنك ونادمنا فقال أنا رجل مكفوف وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم ولست آمن أن تنظر إليّ بعين راض وقلبك عليّ غضبان أو بعين غضبان وقلبك راض ومتى لم أميز بين هذين هلكت فأختار العافية على التعرض للبلاء فقال بلغني أن فيك شراً فقال يا أمير المؤمنين إن يكن الشر ذكر المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته فقد مدح الله تعالى وذم فقال نعم العبد أنه أواب وقال هماز مشاء بنميم مناع للخير معتد أثيم وقال الشاعر:

إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم النكس اللئيم المذمما

ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما

وإن كان الشر كفعل العقرب التي تلسع السنيء والدنيء بطبع لا بتمييز فقد صان الله عبدك عن ذلك - ورحمه رجل بالجسر على حماره فضرب بيديه على أذن الحمار وقال يا فتى قل للحمار الذي فوقك يقول الطريق - وسئل مرة عن مالك بن طوق فقال لو كان في زمن بني إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره قيل فأخوه عمر قال كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً - وكتب إلى عبيد الله ابن سليمان: أنا أعزك لله وولدي وعيالي زرع من زرعك إن أسقيته راع وزكا، وإن جفوته ذبل وذوى، وقد مسني منك جفاء بعد بر وإغفال بعد تعاهد حتى تكلم عدو وشمت حاسد، ولعبت بي ظنون رجال كنت بهم لاعباً ولله در أبي الأسود في قوله:

لا تهنى بعد إذ أكرمتني ... وشديد عادة منتزعة

فوقع في رقعته - أنا أسعدك الله على الحال التي عهدت وميلي إليك كما علمت وليس من أنسيناه أهملناه ولا من أخرناه تركناه مع اقتطاع الشغل لنا واقتسام زماننا وكان من حقك علينا أن تذكرنا بنفسك وتعلمنا أمرك وقد وقعت لك برزق شهرين لتربح غلتك وتعرفني مبلغ استحقاقك لأطلق بك باقي أرزاقك إن شاء الله والسلام.