مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/في سبيل الكلام

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 41/في سبيل الكلام

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 4 - 1918



لحضرة العالم الكاتب الدكتور منصور فهمي

الكمال قوة أزلية تدب في الكون دبيب الماء في العود الأخضر، والكمال إما أن يكون كلياً عاماً وهو كمال هذا الوجود الذي لا تبلغ مداركنا إلا بعض جهاته، وليس في طاقة عقولنا إدراك كنهه على أنها تعترف بوجوده الظاهر في حركة الكون المستمرة على سبيل لا ينتهي وإلى غير قصد معلوم، وإما أن يكون كمالاً نوعياً وهو أجمل صورة يصل إليها كائن من الكائنات بما أوتيه من استعداد ترقى به إلى الغاية المقدورة فإذا بلغها يتحول إلى نوع مغاير وتظهر تلك المغايرة إما من سبيل الانحلال والفساد أو من سبيل وجود يخالف به الوجود الأول ومثل ذلك مثل الشرنقة تبلغ كمالها النوعي في صورة معروفة وعلى نحو معلوم فإذا تخطت تلك الصورة فإنما تتخطاها لكائن آخر بينها وبينه اختلاف في الشكل.

كما أن للكون جميعه كمالاً هو أول معنى لتأويل وجوده وهو الباعث لتطوره وحركته كذلك لكل جزء من أجزاء الكون كمال نوعي وللجماعات والأمم كمال خاص بها ينبع من أفئدة مصلحيها، فبينا ترى جماعة لا تبصر إلا أفقاً محدوداً من آفاق الحياة الواسعة، وبينا تراها تجمد عند حال تزعم أنها خير حال تجد بين أفراد تلك الجماعة من يبصرون بأعينهم ما لا يبصر هؤلاء ويتمعون نغمات لم تصل بعد إلى آذان الجماعة، أولئك الأفراد هم سدنة الكمال المقدور لذلك الكائن الاجتماعي، ليس للأمة إلا كمال واحد لا يتكرر تبلغه وفقاً لطبيعتها، وانسياقاً مع تاريخها فإذا هي بلغته في عصر من العصور فإنها تنتقل بعد لحال مغايرة فتتحول الجماعة القديمة إلى أخرى وتصبح تلك الجماعة الثانية في حكم كل كائن جديد من حيث أهليته لقسط آخر من الكمال حرى به.

كان لمصر في السالف قسط من الكمال العمراني موفور وحضارة منمازة بلغت أوجهاً في عصر معلوم فهل يحق لواهم أن يزعم لأمتنا االمصرية الحالية سبيلاً إلى نفس الكمال الاجتماعي والحضارة التي كانت للسلف في زمن مضى وانقضى؟؟ كلا فأمة اليوم غير أمة الأمر لها كمال خاص تستطيع أن تكسبه كما كان لسلفها ما كسبته من الكمال.

كما أن لكل جماعة ولكل أمة نصيباً واحداً من الكمال لا يتكرر كذلك لها نصيب معين يختلف مزاجه عن أنصبة الجماعات الأخرى، لها كاس من الكمال تنتشي هي به و يستمرئه سواها، فعبثاً محاولة الوصول إلى حضارة قدت لباساً لغيرنا دون تحوير فيها وتعديل، الكمال المرجو لأمتنا هو ما يهتف به الهام المصلحين وليس هو ما تجود به يد المقلد ولا ما يجيش في صدر الجامد والفرق بين المصلح وبين المقلد وبين الجامد، هو أن الأول يوحي إليه صورة سامية يدخرها المستقبل للأمة التي يتناجى بإصلاحها، وأما المقلد فيحمل في نفسه صورة لأمة معاصرة راقية يود لو اتخذت مثلاً للأمة التي هو منها، وأما الجامد فينشد نظاماً عتيقاً لا ينفرج ذهنه لخير منه.

نزعات المصلحين وحدها هي القيمة الجديرة بالاعتبار لأنها المنزل المستطاب الذي يحط الركب عنده رحاله وتستريح عنده الأمم وهي سائرة في سبيل مالها.

أما بعد فما أشد حاجتنا إلى المصلحين يرشدوننا كما يرشد الراعي سربه العزيز ليصل إلى المرعى الخصيب، ليت شعري ماذا قطعنا اليوم في سبيل الرقي، ومن ذا الذي يسدد خطانا إلى الكمال المنشود؟؟