مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/أبطال الحرب

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/أبطال الحرب

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1918



الجنرال فوش

قائد جيوش الحلفاء

لا تزال كل أمة مسهمة في هذه الحرب تضحك ساخرة مستخفة من قواد عدوتها ورجالات الحرب فيها، والشعوب المحاربة لا تفتأ منذ قامت هذه الحرب تتقاتل في حلبات الصحف قتالاً أعنف وأشد عداء من قتالها في حومة الوغى، وقد تعايبت أمم الحرب الحاضرة، وتنادرت كل أمة على قواد بالأحرى، وراحت تصور كل قائد صوراً ماجنة، وتخرجه في أمتها في مظهر مضحك، وتستخف بقوته وكفاءته، ولكن الرجل الذي سلم من ألعاب في أرض عدوه، وخلا من الذام في المملكة التي نصب لقتاها، ولا تزال صحف الألمان تقول عنه قولاً كريماً، وتقدره حق قدره حتى قالت عنه كبريات صحفهم: ذلكم رجل خليق بأن يجالد بسيفه أطول سيوفنا نجاداً، وأحد ظباة قوادنا غرباً، هو الجنرال فوش قائد جيوش الحلفاء اليوم في سوح الغرب.

هذا هو الرجل في صورته التي صورها أعداؤه، وأكبر مميزات هذا القائد هدوءه الذي لا يعكره شيء وسكونه الذي لا يمازجه اضطراب، وقد خلا خلقه من تلك البساطة التي كانت دأب جوفر وشيمة من شيمه، وتلك الطبيعة اللينة العريكة التي كانت لسلفه، ولكنه رجل صامت حفيظ على كلمه وإشاراته وأفعاله، وإنه ليجمد على رأيه، في برود العظماء وسكون جأشهم وهو قليل الكلام كثير الفعل.

وقد صوره أحد الضباط الذين يعملون تحت إمرته فقال: إنه لرجل ما أن يزال يبدو فتياً في عنفوان الشباب وحدة الفتيان، وهو خفيف اللحم، رطيب الغصن، بسيط المظهر، ذو رأس فخم أشم متطاول.

وأشد ما يدهش الرائي منه نظراته الجلية النافذة الذكية العميقة اللامعة، فإن عينيه الغريبتين تضيئان جميع معارف الوجه، ولولا عيناه لبدا الرجل مغضباً مقطباً وهو يتجلى في ذلك الشارب الغزير الذي يمتد على صدغيه فإذا راح يتحدث، رأيت ضوءاً في محياه، وبريقاً غريباً يضيء وجهه، على أن وجهه الساكن لا يزال ينم عن حزن عميق لأنه افتدي في سبيل فرنسا ابنه وزوج ابنته، ولا يدري أحد سر هذا الرجل إذ لا يمضي يوم واحد حتى يرى الضباط هذا القائد العظيم قد انطلق إلى الكنيسة فقضي فيها تضع لحظات في عبادة صامتة وتفكير وقد تكون الكنيسة طللا مهيلاً من أثر قنابل العدو، أو دمناً عافية، فلا يحول ذلك بينه وبين هذه العبادة التي اعتادها، وإنه ليمضي وحده ولا يخبر أحداً من ضباطه بذهابه، ولا تحسب ذلك منه مظهراً من مظاهر الورع والتدين، وإنما هي حاجة إلى الاختلاء كل يوم بضع دقائق بنفسه والانتباذ ناحية بعيدة عن متاعب حياته وضوضاء عمله، وليس ذلك تمثيلاً منه وعملاً مسرحياً كما يفعل الملوك والقواد، وإنما هو أثر بسيط من التقى النقي الخالص يؤديه رجل بسيط سهل الخلق.

وهو رجل جنوح إلى العزلة، ولوع بالاختفاء، متواضع عطوف على مرؤوسيه وعماله وهو أكره الناس لكسر خواطر الصغار ورفض سؤال السائلين، ولكنه لا يسمح لنفسه أن يعرض على الجماهير، ويرفض الرفض كله أن يطلب منه أن يصور صوراً فوتوغرافية أو يظهر في لوحات الصور المتحركة السينماتوغراف فلا يدع قصة تلك الصور يصورونه وهو يصافح بيده أيدي الفلاحين أو متقبلاً باقات الأزهار من أيدي بيضات الخدور في القرى، وعذارى الريف، أو محياً السلام العسكري في الاستعراض، وفي زيه يتجنب ما يجعله مترفاً أنيق الملبس، والأثواب العسكرية الزاهية الألوان المزركشات بالذهب عدوته والبغيضة إليه، بل دأبه أن يرتدي بثوب بسيط لا ينماز عن ثوب الجندي بشيء حتى ليخال إليك إذا وقفت منه على شرف إنك ترائي عسكرياً في الصفوف.

ويقول الذي اختلطوا به أنه لا يكاد ينام أو يعقد الكرى جفنيه، إذ ليس لديه وقت للراحة.

ولقد مكث يدير معركة المارن خمسة أيام وليالي خمساً يقظاً وأذنه مسندة إلى سماعة التلفون فيلقي ويخابر قواده وأعوانه العديدين.

ومن مائدته والألوان التي تقدم إليه في مواقيت الطعام تعرف طراز الحياة التي يعيشها فهي تعيينات رجل عسكري تلتهم بسرعة، وفي صمت، وإن له لشهية قوية بالنظر إلى أنه رجل عمل ما تفتر له همة، صفحة لحم، وطبق خضر وفنجان من القهوة، هي قائمة طعامه وشرابه في اليوم.

وقد اضطر مرة واحدة في العمر أن ينحرف عن النظام الذي وضعه لنفسه فدعا مكاتبي بعض كبريات صحف فرنسا إلى الحضور إليه في مكتبه، وكان يقيم في دار قديمة، قد أفرد له فيها حجرة بسيطة الأثاث، أشبه شيء بحجرات المتوسطي الحال وقد كان يخيل إلى هؤلاء إذ أقبلوا على الحجرة وأوشكوا على المثول بين يدي ذلكم القائد أنهم سيرونه جالساً إلى مكتب حافل بالخرائط والمصورات والمذكرات والأوراق المتراكمة، ولكنهم لم يلبثوا أن عجبوا العجب كله إذ ألفوه جالساً أمام مكتب ليس عليه إلا دواة وقلب وأداة التلفون، وكذلك فوق ذلك المكتب يضطرب مستقبل الإنسانية وفيها تخفق حياة العالمين، ولا خرائط في الحجرة ولا زينات غير مصور جغرافي عظيم قد أطل من ركن من أركانها.

وكان والده عام مولده في السادسة والسبعين من عمره وكان كاتم سر حاكم المدينة وهي بلد صغير من فرنسا يدعى تاربيس فتلقى فوش في صغره العلم في مدارس سانت اتيين، وأما والدته فابنة ضابط أدرك عهد نابوليون وكان فخر العشيرة وجعل فردينان فوش، بطل الحرب اليوم يلقن الأقاصيص البديعة الحربية عن جده، وألوان الشهامة التي بدت منه في أيام البلاء، ومعرك الفخار.

وأتم فوش العلم في ميتز، وتعلم فيها حب اللورين، واغتذى من الحمية الأهلية فيها وكان يوم إعلان حرب السبعين يعد نفسه لدخول الامتحان النهائي في المدرسة.

وهو من أكبر المعجبين بنابليون، وعنه أخذ كثيراً من أفانين الحرب، ودرس جميع خططه، ووعي جميع مبادئه الحربية، ولذلك عين عام 1896 أستاذ الفنون العسكرية وخطط الحرب في المدرسة الحربية في فرنسا ووضع كتاباً قيماً في ذلك كان له من ورائه الذكر الأكبر.

وغريب أن يكون فوش رجلاً من أبطال السيف، وقائداً من حملة القلم، فإن الكتاب الذي عده الناس حجة في فنون الحرب، وأكبروه إلى مصاف الثقة الفنية، كتابه الذي وضعه قبل عام 1904 وأسماه مبادئ الحرب وتنبأ فيه بالأحداث التي نشهد اليوم أهوالها ومناكرها.

والقائد فوش بعيد الآن عن الأنظار، قلما يراه جيوشه، فإن عمله العظيم الذي لا يزال أكبر من القوة الإنسانية يمسكه بمكتبه، ويشده إلى مركز قيادته، وهو في ذلك على نقيض القائد جوفر، فقد كان جوفر لا يفتأ يروح ويغدو ويجوب وينتقل، بل إذا دفعه الأمر إلى التنقل بين جنده للتأكد من أمره، والتثبت من مكانه، فلا يكاد يقف، ولا يكاد يتمهل، بل يمضي مسرعاً مخفاً بلا تردد ولا ونى، ويكره أن تنتقل آراؤه من فم إلى فم، في صفوف عسكره، ولكنه لا يستطيع أن يمسكهم عن الكلام، بل ما فتئت كلماته حديث الجند يتذاكرونه، وقصص الجيش يتبادلونه، ومنها يستمدون الصبر على البلاء، والاطمئنان إلى الاستماتة، والرضى بالمكاره، إذ يقولون نحنفي أمن وسلام ما دام فوش معنا!.

ونحن ننقل إلى الناس كلمة بليغة مبكية من الكلم الروائع التي فاه بها منذ ارتفع إلى قيادة الجيوش.

قال أواه إنكم لا تعرفون الألم الذي يعانيه والد إذ تنزل الأحزان بساحته إلى الأبد، لقد استشهد فتاي، وأصبحت إحدى بناتي أرمل، وسأعود إلى داري التي تركتها مفعمة بالهناء في يوم صائف جميل فأجدها تضج بنشيج أطفال يتامى لم يعرفوا أباهم، ولم يشهدوا وجهه، لقد أدركت اليوم فخر حياتي وأراني كنت خادماً أميناً لا طماعية لنفسه في غير رضي ربه، ولست وحدي في هذا المصاب، بل هناك ألوف وألوف من الآباء والشيوخ فقدوا جميع أحبابهم وفلذات الأكباد التي كانت أمنياتهم، ولكن لا حق لنا نملك في الشفقة، فإن مملكتنا بل إن وطننا المحبوب هو أهم من أكبادنا، وأكبر خطراً من أفراخنا، فلنتقبل هذه التضحية، ولنرتض الأسى صابرين، إن الإنسانية كلها في خطر، فلتنتصر الحرية أولاً، وبعد ذلك لنا أن نبكي، وندع الفيض للعبرات.