مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/مطالعات

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 43/مطالعات

ملاحظات: بتاريخ: 1 - 9 - 1918



الشنقيطي

في أقصى جنوب مراكش - بينها وبين بلاد السنغال - في بهرة صحراء خرساء مقفرة تكاد تأكل الشمس فيها حتى ظلها - تقوم بلاد عجيب أمرها للغاية التي لا وراءها فقد كان المنتظر لمثل هذه البلاد أن يكون قطانها قوماً موحشين بعيدين عن العلم واللغة والأدب وسائر ما يتصل بذلك مما تستتبعه الحضارة والتمدن، وينكره التبدي والتوحش، بيد أن أمر هاتيك البلاد على العكس من ذلك، فهي اليوم كأنها البصرة أو الكوفة بالأمس، أو كأنها جامعة عربية قد انتبذت مكاناً قصياً وتغلغلت في أحشاء الصحراء خشية أن تعدي طلابها عجمة المتحضرين.

- شنقيط وما أدراك ما شنقيط؟ هي ما علمت، هي التي أهدت إلينا أصمعي هذا العصر المأسوف عليه محمد محمود بن التلاميد التركزي المعروف بالشنقيطي، ونحن فقد رأينا هذا الشنقيطي وخالطناه، وقرأنا عليه بإيعاز من المرحوم الشيخ محمد عبده المعلقات السبع وكتاب الكامل للمبرد، ووقفنا منه ومن كثير ممن وقف على جلية أمره على شيء من نوادره وغرائب أطواره وشواذ أخلاقه وما إلى ذلك مما يصح أن يتحف به قراء البيان.

كان هذا الشنقيطي رحمه الله نادرة الفلك في الحفظ والاستظهار، وكان آية في اللغة والحديث وعلم الأنساب، وتلك شنشنة الشنقيطيين جميعاً، ومن ثم كانت القوة المفكرة في أكثرهم مشلولة، وهي سنة طبيعية معقولة، فكلما كانت الحافظة قوية يقضي حاضره، كانت المفكرة ضعيفة مسلوبة نائمة، وهو قانون التعويض يعطي ويمنع، ويقوى من هنا ويضعف من هناك.

انفصل الشيخ من بلاده بادئ ذي بدء وقصد إلى مكة المكرمة واتصل بالشريف عبد الله أمير مكة وقتئذ فأكرمه وقربه إليه ولبث عنده زماناً وكان يحرش بينه وبين علماء مكة حتى وجدوا عليه وصارحوه العداء والشر فلم يطق الإقامة هناك فعمد إلى المدينة المنورة فوقع بينه وبين علمائها كذلك ما سبب تألبهم عليه حتى أخرجوه منها، وكان الرجل لبياض سريرته ونقاء طويته ولأن فطرته الطيبة لم يشبها شيء من المكر والخداع والمداهنة كان آية فيما يسميه المهذبون الشجاعة الأدبية وينعته السواد الأعظم من الناس بالحمق والسفه وسوء الخلق فكان لذلك لا يخشى في الحق ذاماً وكان يقول للمخطئ أنت مخطئ وللكذاب أنت كذاب تصريحاً لا تعريضاً ومن هنا لم يستقر على حال من القلق وكلما حل مكاناً ضاق به أهلوه من العلماء وشغبوا عليه وناوأوه وسخروا منه اللهم إلا من كان منهم لا يعرف من نفسه نقصاً يخشى اشتهاره أو من كان يعرف أن ليس عالم إلا وهناك من هو أعلم منه فلا يستحي أن يفيد من هذا الرجل علمه مثل المأسوف عليه الشيخ محمد عبده الذي كان من شأنه مع الشنقيطي ما سيمر بك.

فلما نبت به المدينة وأهلوها ولم ير المقام صالحاً ولى وجهه شطر القسطنطينية وكان ذلك أزمان السلطان عبد الحميد فاتفق وهو هناك إن لفت بعضهم عبد الحميد إلى الكتب العربية الموجودة في إسبانيا وأشاروا عليه أن يوفد الشنقيطي إلى تلك البلاد لأنه خير من ينهض بهذه المهمة فأرسل إليه السلطان أن يتأهب للسفر فلم يقبل ذلك إلا على شريطة أن يعزل ناظر وقف الشناقطة في المدينة المنورة وأن يعد له طباخاً ومؤذناً وأن يكافئه أحسن مكافأة بعد أن يرجع، وقد أشار الشنقيطي إلى ذلك في قصيدته المسماة هذا حظ جد من المبناه، وبراءة محمد محمود من عاب الجهل الذي عبناه بقوله:

فكان من السلطان أمرك بعد ما ... شرطت أموراً لم تصادف أولي عزم

ثم إن السلطان أرسله في وابور خاص وأعطاه مؤذناً وطباخاً وبعث معه أحد أدباء تونس فذهب إلى إسبانيا وكتب أسماء الكتب العربية النادرة التي لا توجد في القسطنطينية ثم رجع فتقدم إليه السلطان بأن يعرض عليه الأوراق التي عنده فتأبى حتى يأخذ مكافأته فأرسل إليه السلطان أن مكافأته ستصرف إليه فأصر على إبائه فما كان من السلطان إلا أن غضب منه وأهمل شأنه وشأن أوراقه فصادف إذ ذاك أن أوسكار ملك السويد والنرويج طلب إلى السلطان عبد الحميد أن يوفد إليه وفداً من علماء العربية يقف منهم على أشياء تتعلق بالقرآن الكريم وأشياء من الشعر العربي وأن يكون من هذا الوفد الشيخ الشنقيطي فأرسل السلطان إليه أن يتهيأ للسفر فقال حتى تعطوني مكافأتي فطار الغضب في رأس السلطان وأمر أن يزايل القسطنطينية في التو واللحظة.

وبعد أن فارق الاستانة قدم إلى مصر ونزل على السيد توفيق البكري نقيب الإشراف والكاتب الشاعر المشهور فأكرم السيد وفادته واستأجر له ولجاريته داراً ووظف له وظيفة ماهية شهرية قدرها خمسة جنيهات، فمن نوادره مع السيد البكري أن السيد طبع بعد اتصال الشنقيطي به بمديدة كتابه شرح أواجيز العرب فأقام الشنقيطي الدنيا وأقعدها وادعى أن البكري سرق هذا الشرح منه ونسبه إلى نفسه زوراً ولجأ آخر الأمر إلى المحاكم فلم تحكم له ونحن فلا نظن إلا صدقه - ومن نوادره أنه لما قدم إلى القاهرة ونزل على السيد البكري وكان يوم عيد فجاء إلى السيد البكري جماعة من العلماء يعيدون عليه وفيهم المرحوم الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر إذ ذاك والشيخ عبد القادر الرافعي فلما اطمأن بهم المجلس أراد الشيخ الرافعي أن يداعبه أو يحرش بينه وبين الشيخ سليم وكان يعرفه من قبل - فقال: لقد تنصرت بعدنا يا مولانا إذ تلبس الخف الأسود، فقال الشيخ البشري أجمع على كراهة لبس الخف الأسود، فقال الشنقيطي: ثبت في الصحيح أن النجاشي أهدى إلى رسول الله خفين ومسح عليهما فما لونهما فقال البشري لا أدري فقال الشنقيطي: عجباً لك تدعى الإجماع ثم تقول لا أدري فسكت الجمع وكان في المجلس أحد الأفندية فقال للشنقيطي أفدنا إذن يا مولانا عن لون الخفين المذكورين فقال له سأعلمه للعوام فتلقوه من هناك، وعلى ذلك انفض المجلس، ثم أراهم الشيخ الشنقيطي بعد ذلك كتاب الشمائل وأن الخفين كانا أسودين فلما بلغ ذلك الشيخ البشري قال إن في رواته ضعيفين فهو غير مقبول ووضع في ذلك رسالة فلما اتصل ذلك بالشنقيطي قال ما معناه: إن الضعيف لا يرد إلا بما هو أصح منه والشيخ البشري أضعف منهما.

ولعل القراء قد سمعوا بمسألة عمر وإن النجاة جميعاً على أن عمر ممنوعة من الصرف فجاء الشنقيطي وخطأهم جميعاً وذهب إلى أن عمر مصروفة وفي ذلك كلام يطول نرجئه إلى فرصة أخرى كما يجمل أن نرجئ الآن الشطر الآخر من الكلام على الشنقيطي وماذا أفادته اللغة العربية والناطقون بالضاد من علم هذا الرجل وسائر نوادره إلى عدد آخر قادم إن شاء الله.

كلمات حكيمة

قال عمرو بن العاص: إذا أنا أفشيت سري إلى صديق فأذاعه فهو في حل فقيل له وكيف ذاك؟ قال: أنا كنت أحق بصيانته، ويعزي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه - وكان يكثر إنشاده - فقائل يقول هو له وآخر يقول أنه كان يتمثل به:

فلا تفشين سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحاً

وإني رأيت غواة الرجا ... ل لا يتركون أديماً صحيحاً

وأسر معاوية رضي الله عنه إلى عثمان بن عنبسه بن أبي سفيان حديثاً، قال عثمان فجئت إلى أبي فقلت أن أمير المؤمنين أسر إلى حديثاً أأحدثك به؟ قال: لا، إنه من كتم حديثه كان الخيار إليه، ومن أظهره كان الخيار عليه، فلا تجعل نفسك مملوكاً بعد أن كنت مالكاً، فقلت له: أو يدخل هذا بين الرجل وأبيه؟ فقال لا ولكني أكره أن تذلل لسانك بإفشاء السر، قال فرجعت إلى معاوية فذكرت ذلك له، فقال معاوية: أعتقك أخي من رق الخطأ، ومن قولهم أصبر الناس من صبر على كتمان سره ولم يبده لصديقه فيوشك أن يصير عدواً فيذيعه وقال بعض الشعراء:

ولي صاحب سري المكتم عنده ... مخاريق نيران بليل تحرق

عطفت على أسراره فكسوتها ... ثياباً من الكتمان لا تتتخرق

فمن تكن الأسرار تطفو بصدره ... فأسرار صدري بالأحاديث تغرق

وحسبك في ستر الأحاديث واعظاً ... من القول ما قال الأريب الموفق

إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق

وقال العباس بن عبد المطلب لابنه عبد الله: إن هذا الرجل - يعني علياً - قد اختصك من دون أصحاب رسول الله فاحفظ عني ثلاثاً، لا يجربن عليك كذباً ولا تفشين له سراً ولا تغتب عنده أحداً: فقيل لابن عباس كل واحدة منهن خير من ألف دينار فقال كل واحدة منهن خير من عشرة آلاف، وقال المهلب بن أبي صفرة: أدنى أخلاق الشريف كتمان السر وأعلى أخلاقه نسيان ما أسر إليه وقال معاوية للأحنف بن قيس في شيء بلغه عنه فأنكر ذلك الأحنف فقال له معاوية بلغني عنك الثقة فقال الأحنف يا أمير المؤمنين إن الثقة لا يبلغ وفي ضد هذا كله يقول بعض الشعراء:

لا أكتم الأسرار لكن أنمها ... ولا أدع الأسرار تغلي على قلبي

وإن أحق الناس بالسخف لامروء ... تقلبه الأسرار جنباً إلى جنب

فما رأى القراء في هذا الشاعر الذي يحق لنا أن نشكره إذ أفهمنا أن الشعراء ومن إليهم من ذوي العواطف المضطربة والأعصاب المريضة لا يطيقون كتمان الأسرار فينبغي لذلك أن لا يفشى إليهم سر.

هذا ومما يستحسن أن يذكر هنا وإن لم يكن من هذا الباب قول القائل:

كتمت الهوى حتى إذا نطقت به ... بوادر من دمع تسيل على خدي

وشاع الذي أضمرت من غير منطق ... كان ضمير القلب يرشح من جلدي

الحسن البصري والخليل بن أحمد

يعجبني من زهاد سلفنا الصالح الأولين نفر تعمر سيرتهم وأحوالهم صدري ويملأ كلامهم أذني صواباً وحكمة سماوية تنحدر من الأذن إلى صفحة القلب فينبثق لها نور يجلو ظلام البصيرة - من هؤلاء النفر رجلان كانا المثل الأعلى للعقل والورع واحتقار الدنيا ثم للبيان الإلهي الذي كانه وحي يوحى، هما الحسن البصري والخليل بن أحمد، أما الحسن البصري فكان من جلة التابعين الذين أدركوا أصحاب رسول الله وساداتهم، وهو من أبناء الموالي إذ كان أبوه يسار مولى زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه وأمه خيرة مولاه أم سلمة زوج النبي قالوا وربما كانت تغيب أمه في حاجة فيبكي فتعطيه أم سلمة ثديها تعلله به إلى أن تجيء أمه فيدر عليها ثديها فيشرب منه فيرون أن تلك الحكمة من بركة ذلك، قال أبو عمرو بن العلاء ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج بن يوسف الثقفي فقيل له فأيهما كان أفصح قال الحسن - ونشأ الحسن بوادي القرى وكان أجمل أهل البصرة حكي الأصمعي عن أبيه قال: ما رأيت أعرض زنداً من الحسن، كان عرضه شبراً، فمن كلامه رضي الله عنه: ما رأيت يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه إلا الموت: وله: كان الناس ورقاً لا شوك فيه وهم اليوم شوك لا ورق فيه: ورأى يوماً رجلاً وسيماً حسن الهيئة فسأل عنه فقيل إنه يتنادر للملوك يضحكهم بمجونه ونوادره ويحبونه، فقال لله أبوه ما رأيت أحداً طلب الدنيا بما يشبهها إلا هذا - وكانت أمه تقص للناس ودخل عليها يوماً وفي يدها كراثة تأكلها فقال لها يا أماه ألقي هذه البقلة الخبيثة من يدك فقالت يا بني إنك شيخ قد كبرت وخرفت فقال يا أماه أينا أكبر.

وإذا أنت أردت استقصاء كلمات هذا الرجل العاقل الحكيم فعليك مطولات كتب الأدب والتاريخ ونحن إنما نأخذ من كل شيء طرفاً.

وأما الخليل بن أحمد فأنت تعلم أنه الذي وضع علم العروض وأخرجه إلى الوجود، قال حمزة بن الحسن الأصبهاني، وبعد فإن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند علماء العرب أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه ولا على مثال تقدمه احتذاه وإنما اخترعه من ممر له بالصفارين من وقع مطرقة على طست ليس فيهما حجة ولا بيان يفسران غير جوهرهما، فلو كانت أيامه قديمة، ورسومه بعيدة، لشك فيه بعض الأمم لصنعته ما لم يصنعه أحد منذ خلق الله الدنيا من اختراعه العلم الذي قدمت ذكره ومن تأسيسه بناء كتاب العين الذي يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة ثم من إمداده سيبويه من علم النحو بما صنف منه كتابه الذي هو زينة لدولة الإسلام: انتهى كلام حمزة - وليس هذا الذي نقصد إليه وإنما الذي نعجب به من هذا الإمام عقله وتقاه وزهده في حطام الدنيا، قال تلميذه النضر بن شميل: أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال، ولقد سمعته يقول: إني لأغلق على بابي فما يجاوزه همي: وكان يقول أكمل ما يكون الإنسان عقلاً وذهناً إذا بلغ أربعين سنة ثم يتغير وينقص إذا بلغ ثلاثاً وستين، وأصفى ما يكون ذهن الإنسان في وقت السحر - واجتمع الخليل وعبد الله بن المقفع ليلة يتحدثان إلى الغداة فلما تفرقا قيل للخليل كيف رأيت ابن المقفع فقال رأيت رجلاً علمه أكثر من عقله وقيل لابن المقفع كيف رأيت الخليل فقال رأيت رجلاً عقله أكثر من علمه - وكان له ولد متجلف فدخل على أبيه يوماً فوجده يقطع بيت شعر بأوزان العروض فخرج إلى الناس وقال إن أبي قد جن فدخلوا عليه وأخبروه بما قال ابنه فقال مخاطباً له:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت تعلم ما تقول عذلتكا

لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا

وكان يتردد إليه شخص يتعلم العروض وكان بعيد الفهم فأقام مدة ولم يعلق على خاطره شيء منه، قال الخليل فقلت له يوماً قطع هذا البيت:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع

فشرع معي في تقطيعه على قدر معرفته ثم نهض ولم يعد يجيء إلي، فعجبت من فطنته لما قصدته من البيت مع بعد فهمه - وكان رحمه الله كثيراً ما ينشد هذا البيت: وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد ... ذخراً يكون كصالح الأعمال